“الكونت بينوشيه” مصاص الدماء

أخذ الشيطان يطرق أبواب الأزهر والفاتيكان طلبًا للتوبة في قصة (الشهيد) لتوفيق الحكيم، ولم ييأس عندما قوبل بالرفض، فصعد ليطرق أبواب السماء، لكن كان في الأمر ما يعوق مسعاه.

وهكذا حال ديكتاتور تشيلي (أوجستو بينوشيه) في فيلم المخرج پابلو لارين “الكونت” – El Conde. فبعد أن قدم المخرج سابقًا رؤيته عن محنة سيدة أمريكا الأولى جاكلين كينيدي في فيلم “جاكي”- Jackie، ثم فيلم “سبنسر”- Spencer عن معاناة الأميرة ديانا، يقدم هذه المرة فيلمًا عن الديكتاتور الذي اغتصب السلطة في بلاده، وأحكم قبضته عليها، ولم يعاقب قط على الجرائم التي ارتكبها.

وهو يصوره كمصاص دماء هرِم، يعتزل الحياة في مزرعة نائية برفقة خادمه بعدما عاث فسادا في بلاده، وزيف موته أمام العامة، ثم يقرر أخيراً، بعد مئتين وخمسين عاماً، أنه قد حان وقت الموت، لكن هناك ما يحول دون ذلك.

لا يحمل الفيلم هذه المرة ملامح دراما السير التاريخية أو النفسية مثل سابقيه لكنه ينتمي للكوميديا السوداء ولأفلام الرعب وأبطالها من مصاصي الدماء. ولتصوير الديكتاتور كمصاص دماء دلالاته ككيان يستمد القوة من سلب حياة وثروات شعبه.

يأتي المخرج الذي شارك في كتابة سيناريو الفيلم مع الكاتب التشيلي جييرمو كالديرون، من خلفية عائلية كانت تكن تعاطفًا في وقت ما- مع نظام بينوشيه، لكن هذا لم يمثل عائقًا أمام تناوله الخيالي لشخصية حقيقية اجتثها من التاريخ لتأويل أفعالها في قالب فانتازي، يريد أن يصل إلى أن الديكتاتور كان مسؤولا عن أفعاله، وفي نفس الوقت مُسيّر بقرارات خارجية.

الكونت رغم أنه يعترف بارتكابه جرائم ضد شعبه واختلاسه أموالهم، كان يرى نفسه ضحية أشخاص دفعوه إلى اتخاذ قراراته، مثل زوجته التي أقنعته بالانقلاب على الرئيس السابق سلفادور الليندي ثم تصفيته مثلما فعلت الليدي مكبث، وهناك أيضًا من أقنعه بالاختلاس ونهب أموال شعبه.

لذا يحمل الفيلم لغزا حول هوية المتحكم في خبايا الأمور ملقيًا بظلاله على عدة الغاز ناتجة عنه ومبنية عليه. وقد طور لارين هذا اللغز سرديًا من خلال اختياره مسارا سردياً متعرجا للفيلم، تتحكم فيه راوية تسرد الأحداث بلكنة إنجليزية متعالية في وصفها للوقائع والشخصيات. وهي عليمة بكل شيء، تتحكم في المعلومات التي تبوح بها للمشاهد. وقد عزز الغموض الذي رافق هويتها في البداية من جو الإبهام المسيطر على الأحداث.

ينسج بابلو لارين اللغز على المستوى البصري بداية من العناوين التي تصطبغ باللون الوردي مثل لون نظارة الكونت في صورة الملصق الدعائي للفيلم، وهو لون يحمل دلالات أنثوية تتبدى معانيه مع تدرج السرد في الأحداث. أما اكتساء الفيلم بالأبيض والأسود على شاكلة أفلام مصاصي الدماء الكلاسيكية، فقد كان وراءه دافع درامي يرتبط بزمن وقوع الأحداث، ووجود السيدة- الراوية. لكن التباين لم يكن صارخا بين درجات الأبيض والأسود في الصورة، بل كان غالبًا أقل تباينًا – flat contrast أي درجات رمادية متقاربة تعكس مدى تشابه بشاعة نفوس الشخصيات.

وكان ترتيب الشخصيات في المشاهد، وداخل كل لقطة مضللا، بحيث تبدو الشخصيات التي توجد في المقدمة، هي الأكثر دراية بخبايا الأمور، في حين أن المتحكم الحقيقي فيها هي الشخصية التي توجد في الخلفية، مثل الخادم الروسي المخلص (الذي ينتمي لعائلة من الروس البيض الذين هجروا روسيا بعد الثورة الاشتراكية) وهو يظهر نراه دائما في خلفية مشاهد كثيرة بحكم مهنته، لكنه في الحقيقة كان على دراية بخبايا الأمور أكثر من بقية الشخصيات.

وتبقى حركة الكاميرا العلوية المتكررة في الفيلم والتي كانت بمثابة العين التي ترى كل شيء، وهي التي تدل على وجود كيان آخر يتحكم في مصائر تلك الشخصيات المروعة.

في الثلث الأخير من الفيلم وبعد وقوع الكونت في الغرام، يعم الصمت المشهد، وتظهر امرأة تحلق بين السحب الكثيفة، تتجه ناحية منزل الكونت، لتعلن بذلك الراوية وهي رئيسة الحكومة البريطانية السابقة (مرجريت ثاتشر) عن ضرورة ظهورها، ويتحول دورها من الراوي العليم إلى المشارك في الأحداث، وتفسر للمشاهد وللشخصيات حقيقة هويتها في الذروة التي بناها المخرج تدريجيًا سرديا وبصريا.

يعتبر ظهور شخصية “المرأة الحديدية” ثاتشر وجرأة طرحها من قبل المخرج، علامة مميزة في فيلم يعج بشخصيات منفرة يصعب التماهي معها بسهولة، مع حوار أثقل كاهل الفيلم بثقل المائتين وخمسين عاما التي يرغب الكونت في التخلص منها، وانتقالات تبدو مشتتة أحيانا بين المشاهد، لكن لها مبرر درامي يتجلى في ظهور ثاتشر، التي تلقي بظلالها السياسية على حقيقة أن شخصيات مثل الديكتاتور ومن هم على شاكلته، تتحكم القوى العظمى في أفعالها، وتسعى لإطلاق شراستها على شعوبها كالكلاب الضارية.

وهذا ما ذكره المخرج في حوار أجراه مع صحيفة “الجارديان” بعد عرض فيلمه في مهرجان فينسيا، فقد قال إن شخصيات مثل ثاتشر ونيكسون وكسينجر، هي من تحكمت في مصير بلاده، وفق تصريحاتهم المسجلة أي أن الجشع للمال هو المحرك الأقوى للإنقلابات. وبهذا يضع المخرج تصوره عن بينوشيه، وموقفه من أفعاله، وحقيقة المتحكم فيها.

وبعد أن اتضح للشيطان في حكاية توفيق الحكيم أن طلب المغفرة لا يصح لضمان توازن قوى الحق والباطل في الناموس الكوني، كذلك يعود الكونت في النهاية طفلا من جديد في مشهد يشبه خروج الجنين من الرحم، بعد تفضيله البقاء في بلاده دلالة على تكرار حلقة الفساد والطغيان، وتختتم مرجريت ثاتشر الفيلم، والكاميرا تطل على المدينة من زاوية علوية وهي تقول: إن أردت أن يقال شئ فاطلب ذلك من رجل، أما إن أردت أن تفعل أي شئ فاطلب ذلك من امرأة. فهي الفاعلة الحقيقية في الفيلم.

Visited 3 times, 1 visit(s) today