الفيلم اللبناني “طالع نازل”.. الصمت غُربة والبوح سحر

Print Friendly, PDF & Email

جاء وقت من الأوقات، كنا نتوقع فيه موضوعات الأفلام اللبنانية والجزائرية قبل مشاهدتها: إذا كان الفيلم لبنانيا ففى الغالب لابد أن تحكى كل الأجيال والشخصيات  فيه عن تجربة الحرب الأهلية المؤلمة، وإذا كان العمل جزائريا، فأنت أمام حكاية عن سنوات الجمر والتحرر من الإستعمار، أو عن سنوات الإرهاب الدامية.

كان  ذلك طبيعيا ومفهوما، فتجارب الحرب الأهلية والإرهاب تترك بصماتها لسنوات على تجارب المبعدين، ولكنها تحصر الموضوعات فى خانة محددة، فإذا أضفت الى ذلك أن إنتاج السينما اللبنانية و الجزائرية من الآفلام أصلا محدود، فإن الأمر ينتهى بالضرورة الى درجة صبغ الإنتاج بلون واحد من الصعب الإفلات منه، بينما روعة السينما فى تقديمها ألوان قوس قزح بكل تنوعها واختلافها.

أفلتت السينما اللبنانية فى السنوات الأخيرة الى حد ما من هذا المأزق، تنوعت حتى المعالجات فى تجارب نادين لبكى مثلا رغم ملاحظاتنا حولها، شاهدنا تناولا استعراضيا راقصا ينطلق من الأوتوبيس الذى كان سببا فى اندلاع الحرب الأهلية من خلال فيلم “بوسطة”، وهذا فيلم لبنانى آخر هو “طالع نازل” من كتابة وإخراج محمود حجيج، يكاد يعزل أبطاله عن بيروت، لا يقدمهم كالمعتاد بهوياتهم الطائفية، المدينة مجرد خلفية للحظات البوح من شخصيات مأزومة تبحث عن التواصل مع الآخر، تستطيع أن تتحدث عن دراما نفسية لها بالتأكيد بُعدها الإجتماعى، ولكن ليس شرطا أن يكون المأزق اللبنانى بتعقيداته هو سبب أزمتهم، إنها فى الواقع أزمة إنسانية عامة، فكرة عدم قدرة الإنسان على الإستغناء عن الآخر، عدم استطاعته أن يصنع شرنقة حول نفسه حتى لو تضرر من الآخرين، وفكرة أن الآخر بمثابة مرآة لنا، وفكرة المسافة بين ما نريد وما نحصل عليه، وأهمية أن نكون أنفسنا عندما نتعامل مع الآخر، كلها أفكار عامة لاتقتصر فقط على المجتمع اللبنانى.

صعود وهبوط

لو أردت أن تتزيّد قليلا يمكن أن تقول أن الفيلم يدعو الى الحوار مع الآخر. تقول إحدى شخصيات الفيلم “البوح سحر”، شخصية أخرى نراها على وشك الإنفجار لأنها اختارت الصمت، قررت ألا تتحدث عن شىء تعرفه هى فقط، تسير مغتربة فى الشوارع وكأنها تائهة.

الحقيقة أن الأمر ليس محاولة بالضبط للحوار بمعناه السياسى أو الإجتماعى، ولكنه أقرب الى الفضفضة، أو على حد تعبير شخصية فى الفيلم أن تخرج ما بداخلك الى خارجك، أو تحول ما هو “جوّانى” الى “برّانى”، تنزع أقنعتك، تتكلم لكى تستريح ولو لدقائق أمام طبيب نفسى، تتطهر مثلما يغسل العامل زجاج إحدى نوافذ البناية فى أول مشاهد الفيلم، تشاهد نفسك على حقيقتها فى مرآة الأخر، مثلما يشاهد ركاب المصعد أنفسهم فى مرآة الأسانسير، وإذ ينظر الممثلون تجاه الكاميرا التى تحل محل الطبيب، وإذ ينظرون الى الكاميرا الى تحل محل مرآة المصعد، فإن المخرج يقوم بدور الآخر الذى يستمع الى أبطاله، ثم ينقل تجاربهم الى آخرين يمثلون الجمهور.

اسم الفيلم  “طالع نازل” لا يعنى فقط  طلوع ونزول المصعد بركابه فى تلك البناية التى توجد بها عيادة الطبيب النفسى، ولكنه يعنى أيضا الإنسان نفسه الذى تتغير نفسيته ومشاعره صعودا وهبوطا بين لحظة وأخرى محاولا أن يتكيف مع الآخر، يتوالى ظهور الشخصيات لتتحدث أمام الطبيب النفسى، لا نغادر البناية تقريبا بين العيادة والمصعد، إلا فى لقطات محدودة فى نهاية الفيلم، المدينة شاحبة رمادية خلف نافذة يتم تنظيفها، الكاميرا ثابتة داخل العيادة حتى لو تغير التكوين بسبب حركة المريض أو المريض، ودوما يترك محمود حجيج مساحة واسعة فارغة داخل الكادر لتدل على فراغ حيوات أولئك الباحثين عن لحظة فضفضة، يدفعون نقودا لكى يلقوا مونولوجا خاصا على مسامع الطبيب، لكل منهم قصة، المشكلة الأعم هى انقطاع التواصل مع الآخر أو الحيرة تجاهه، فيما بعد سنكتشف أن الطبيب أيضا لديه قصة، زوجته تنتقده وترفض الذهاب معه الى حفل نهاية العام، الأحداث فى يوم واحد هو آخر أيام السنة، حتى قبل الإحتفال بالعام الجديد ليلا، يتزاحم المأزومون على عيادة الطبيب، واحد طالع وواحد نازل، رجل وحيد وامرأة مغتربة.

نماذج متنوعة

اختار حجيج تقديم نماذج متنوعة على أريكة الإعتراف والفضفضة: يارا امرأة جميلة حائرة بين زوجها وعشيقها، تريد الاثنين معا، ليست مستقرة، ترى أن سبب  عدم الإستقرار قد يكون حاجتها الى رجل ثالث، طموحها يشمل كل شىء من المال الى الجنس، تخفى حيويتها الزائدة قلقا وارتباكا.

وجدى رجل فى منتصف العمر تألم كثيرا من معاملة الناس، فقرر أن يتكلم فقط مع تماثيل المانيكانات التى يصنعها، يكره حديث الناس عن الناس، الطبيب ينصحه بعدم الهروب من الآخر مهما كانت معاناته، مجرد حضور الرجل الى الطبيب دليل فشله فى أن يقاطع البشر.

رجل سورى يجىء خصيصا الى بيروت لكى يفضفض، يشكو أنه لا يمكن إخفاء أى سر فى سوريا، تكشف اعترافاته عن صفعات كان يوجهها والده إليه فى طفولته، يعترف بقصة حب فى طفولته لفتاة لبنانية لم ينسها أبدا، يعتبر البوح سحرا، حركة معاكسة للمألوف، الداخل يعبر عن نفسه، الجوّانى يتحول الى برّانى بعكس حياتنا المحاصرة بالقيود والمحظورات.

زوار الطبيب يخلعون أقنعتهم: أم تشكو لأن ابنها يفضحها فى كل مكان، ينقل ما تقوله وراء الأبواب المغلقة، يقول بصراحة عن ثمن الهدية  الرخيصة التى قدمتها لأشخاص قاموا بزيارتهم، تشعر الأم بالحرج والخجل أمام الآخرين ولكنها لاتشعر بالخجل مما تقوله فى منزلها أمام طفلها، زياد شاب آخر يزور الطبيب لأنه يكره النساء، يحمل فى جعبته أدوية منشطة ومهدئة، اكتشف أن لديه مشكلة فى قدرة حيواناته المنوية، الشخصية قدمت بطريقة كوميدية رائعة ومضحكة، يعترف الشاب بميوله تجاه السيدات المتزوجات.

فى قائمة الزيارة تلك الشابة الصامتة آنّا التى تعتقد أن الصمت راحة، تبدو كما لو كانت تحمل سرا خطيرا غير قادرة على البوح به، الدموع دائما تظهر فى عينيها، لايستطيع الطبيب أن ينتزع منها اعترافا، الصمت معاناة، وكلامها معاناة أكبر، تلجأ الى الرسم على زجاج مرآة الأسانسير. ربيع وزوجته ريتا لديهما مشكلة أخرى مع الصمت، لم يتكلم ربيع  مع ريتا منذ عدة أيام، الزوجة تعشقه، تقول إن المتزوجين يتكلمون عادة عن الأولاد، ولكنها وزوجها بلا أولاد.

يظل الطبيب فى دور المستمع، الكاميرا خلفه معظم الوقت، صوته يأتى من خارج الكادر، وكأنه صوت المخرج يستجوب أبطاله فى فيلم وثائقى، عندما تظهر منال زوجة الطبيب، نكتشف  أن علاقة الطبيب بزوجته ليست مثالية، تثور عليه عندما يلاحظ فستانها وماكياجها الصارخ، تتحدث عن تلك الأقنعة التى ترتديها لكى تستحسن ما يقوله زملاؤه الأطباء وزوجاتهم، تصر على عدم الذهاب معه الى احتفال رأس السنة، لأول مرة تفعل ذلك منذ سبع سنوات من الزواج.

لمسات ساخرة

حاول محمود حجيج أن يكسر رتابة تلك المونولوجات بالإنتقال الى الأسانسير، تظهر بعض الشخصيات الأخرى التى تمارس لعبة الصعود والهبوط: حارس البناية أبو كريم شخصية ظريفة يسأل ويستفسر، شاب ينتهز وجوده أمام المرآة لكى يغنى، شاب وفتاة يتنهزان الخلوة لتبادل القبلات، رجل يسأل دوما أسئلة بلهاء، أشكال وألوان من الصاعدين والهابطين فى بناية كبيرة، تبدو العلاقة مع الآخر مبتورة أو غير مفهومة أو غير متوازنة بين طرفين، نشاهد أما تلقّن أطفالها ما سيفعلونه وما سيقولونه لتهنئة الجد والجدة فى ليلة رأس السنة، خارج البناية يتكرر مشهد غريب: رجل يجر جملا خلفه من اليمين الى اليسار وبالعكس، ليس مفهوما بالضبط مغزى هذا المشهد الذى ربما كان مجرد لمسة ساخرة عن الآخر حتى لو كان جملا محملا بأغطية مزركشة، لاننسى أن الفيلم يبدأ بعبارة ظريفة تقول إنه فيلم بلا تدخين، فيلم صديق للبيئة يرفض إيذاء الذات أو الآخر!

هناك عموما لمسات ساخرة جيدة، وشخصيات كتبت بطريقة كوميدية مثل زياد الشاب الذى يكره النساء، فى النهاية لن تستطيع الشخصيات المأزومة الهرب من الآخر: الطبيب يظهر فى الحفل الذى ذهبت إليه زوجته منال، ربيع الصامت يتكلم أخيرا عندما تسقط زوجته ريتا فى الشارع، يحتضنها فى سيارة الإسعاف، تفشل محاولة وجدى للحديث الى  تماثيل المانيكانات  التى عزمها على تناول الطعام، لابديل عن البشر ولذلك سيقوم بتحطيم التماثيل، تنطلق الألعاب النارية احتفالا بالعام الجديد، تتابع الكاميرا آنا الصامتة، تصمت الموسيقى فتواجه الكاميرا، كأنها ستتكلم أخيرا، ينتهى الفيلم، وتنزل العناوين على صورة سماء بيروتية ملبدة بالغيوم.

لا يقول “طالع نازل” كلاما كبيرا، و لايستدعى الحرب أو الشأن الطائفى، ولكنه يستدعى الإنسان الذى يشعر بالوحدة، يستدعى الكلام فى زمن الصمت والخرس العاطفى والوجدانى، يقدم الإنسان كمخلوق جدير بالرثاء، تمنحه ابتسمة قبلة الحياة، ويموت بالإهمال والتجاهل، لدينا مخرج يفهم موضوعه، لا يصرخ ولا يهتف، يستخدم الكاميرا كمرآة أو كحائط للمبكى، تطلع أو تنزل لابد أن تتكلم، لابد أن نكون بقدر الإستطاعة معا كبشر على نفس الموجة.          

مع فريق جيد من الممثلين، ومع جمل موسيقية شجية ومؤثرة، نشعر بنعمة الكلمات والدموع، ونشعر بأهمية المرايا والتفاصيل الصغيرة، لن نمتلك  بالضرورة حلا لكل مشكلاتنا، ولكننا على الأقل سنحس بسحر البوح بعد طول كتمان.

Visited 56 times, 1 visit(s) today