الفيلم الجزائري “يما”: الأم والأرض والوطن

Print Friendly, PDF & Email


ضمن عروض مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة بالدورة التاسعة لمهرجان دبي السينمائي (9-16 ديسمبر) والتي تضم 16 فيلما من مصر والجزائر ولبنان والمغرب والأردن قدمت المخرجة الجزائرية جميلة صحرواي تجربتها الجديدة فيلم “يما”.

وتشارك الجزائر هذا العام بفيملين هما “يما” و”زبانا” للمخرج سعيد ولد خليفة في مقابل ثلاثة أفلام من المغرب هما “زيرو” لنور الدين لخماري، و”محاولة فاشلة لتعريف الحب” للمخرج حكيم بلعباس، و”خويا” لكمال الماحوطي، وثلاثة افلام من مصر هي “هرج ومرج” لنادين خان، و”مون دوج” لخيري بشارة، و”الشتا اللي فات” لأبراهيم البطوط.

وهناك فيلمان من الأردن هما “لما ضحكت موناليزا” لفادي حداد، و”على مدي البصر” لأصيل منصور، وفيلم لبناني واحد هو”عصفوري” لفؤاد عليوان، وفيلم تونسي واحد بعنوان “نسمة الليل” لحميدة الباهي وهو ابن المخرج التونسي الكبير رضا الباهي.

المخرجة الجزائرية جميلة صحرواي من مواليد 1950 وهي تقيم في فرنسا منذ عام 1975. أخرجت أول افلامها الروائية الطويلة عام 2006 “بركات” الذي حصل على جائزة المهر العربي من مهرجان دبي في دورته الثالثة، وكانت قد قدمت من قبل عدة تجارب وثائقية منها “في نصف سماء الله” 1995   و”الأشجار تنمو أيضا في بلاد القبائل”.

يا أمي

عنوان الفيلم يحمل في صيغته عدة دلالات تتكشف عبر سياق التجربة فهو صيغة نداء تفيد الاستنجاد بالأم التي تجسد هنا الحنان والأمن والشفاء والرحمة والراحة، وهو صيغة شكوى تفيد التعبير عن الألم الداخلي(آه يا أمي)، وهو صيغة نداء تفيد الشفقة على تلك الأم التي فقدت ولدي رحم وابن افتراضي.

المشهد الأول من الفيلم يبدأ بلقطة واسعة لجبال الجزائر المزدحمة بالخضرة والأشجار، هذا الجمال الطبيعي للأرض التي تبدو بكرا، وفي أقصى الأفق تبدو نقطة وحيدة تتحرك ببطء، تقترب تدريجيا من الكاميرا الثابتة لنكتشف أنها الأم قادمة تجرجر جثة ابنها المقتول، نراه وهو يرتدي الزي العسكري لندرك انه ضابط في الجيش.

في المشهد التالي نتابع عملية التغسيل والتكفين كاملة تقوم بها الأم في إيقاع طقسي وبملامح جامدة مصبوبة، إلى أن تدفن الإبن بجوار البيت الذي تعيش فيه.

عملية التكفين والغسل تستغرق وقتا طويلا كنوع من ترسيخ كم العذاب والحزن الهائل التي يتراكم داخل الأم وهي تقوم بتغسيل وتكفين إبنها الشاب، هذا المشهد سوف يصبح جزءا من الرفض النفسي للشخصية/ الأم ضد ابنها الأخر، علي الذي نراه يأتي بعد ذلك لنعرف أنه أحد قيادات الجماعات الإسلامية المتطرفة وقتما كانت الجزائر تعاني من هجوم المتطرفيين الأسلاميين.

الطريقة التي تعامل بها الأم الإبن الثاني من قسوة ورفض واتهام بأنه قتل اخاه تجعلنا في كل مرة نتذكر مشهد التغسيل والتكفين.

تتفرع الحبكة قليلا في استلهام للقصة التراثية حول قابيل وهابيل، تسأل الأم ابنها المتطرف عن زوجة أخيه التي اختطفها فيقول لها ان الزوجة كانت تحبه هو وان اخاه هو الذي اختطفها ندرك ان ثمة صراع أخوي على امرأة وان أحدهما قد يكون قد قتل اخاه لهذا السبب وليس بسبب ان احدهم جندي والأخر متطرف خارج عن القانون.

علاقة بالنظرات

يقول شاعر السينما الفرنسية روبير بريسون إن الفيلم هو بناء علاقة بالنظرات، وهو ما يبدو متجليا في فيلم صحراوي، الشخصيات القليلة والصراع الداخلي المكثف والألم الذي يسكن الملامح الصامتة كل هذا ينحي من الحوار لتحل محله النظرات المعبرة والساردة لأفكار الشخصيات وانفعالاتها.

يعين الإبن المتطرف شابا “أكتع” لمراقبة الأم، يبدو الشاب أكثر طيبة من الأبن واكثر حنية على الأم، يحاول مساعدتها لكنها تتعامل معه في البداية على أنه غير موجود, تفرد جميلة الفصل الاول من فيلمها في الاستغراق داخل عملية شعرية كاملة، بعد أن تقوم بدفن ابنها القتيل، تضع صورته على قبره وتوقد له الشموع وتبكي، يأتي الابن المتطرف ليتهمها بأنها صارت مسيحية ويأمر الشاب الأكتع أن يزيل كل هذه الأشياء الخارجه عن الملة، لقد أرادت أن تحفظ ذكرى ابنها وتراه دوما لكن الابن المتطرف منعها ذلك، في مقابل الشموع التي أطفأها المتطرف فوق قبر اخيه. تقوم الأم بحرق كل اشيائه وأثاث غرفته كنوع من الانتقام المعنوي.

ثم تفرد المخرجة مشاهد ولقطات طويلة لعملية حرث الأرض من جديد وزراعتها، هنا تتجلى الواقعية الشعرية في التجربة، لقد دفن الإبن في الأرض وها هي الأم وكأنها في دأبها على محاولة استصلاح الأرض وزراعتها تحاول أن تنبته من جديد.

في لقطات متتالية نتابع عملية نمو الزرع وكأن الأرض أثمرت مرة أخرى ويتوازى نمو الزرع مع حضور الإبن المتطرف حاملا طفلا صغيرا لا يزال مولودا، نعلم من حواره مع الأم أنه ابن زوجة أخيه التي أخذها المتطرف لنفسه. تقول له الأم هذا ابن اخيك وليس ابنك، يهم بأن يضربها لكن الشاب الاكتع يمنعه عنها.

دلالة ظهور المولود مع نمو الزرع عقب جهد الأم في حرث الأرض واضحة. إن الأم/ الأرض لا تموت أو تنتهي حتى لو مات زرعها فهي قادرة على الانجاب من جديد. يتقرب الشاب الأكتع من الأم عبر صناعة محفة للطفل، تستبدل الأم ابنيها بهذا المولود الجديد وذلك الشاب الذي فقد ذراعه في تفجير أحد الجسور مع الجماعات المتطرفة.

في مشهد مؤثر يأتي الجيش ليفتش عن المتطرفين تحمل الأم المولود الصغير وتشير للشاب الأكتع قائله للضابط”هذا ابني وهذا ابنه”, تجعله يقيم في غرفة الأبن المتطرف وينام في فراش جديد.

وفي المشهد التالي نرى الأم وهي تقوم بعملية تنظيف للطفل المولود ودهن جسده بالزيت وتغيير ملابسه. يذكرنا هذا المشهد مباشرة بمشهد تغسيل الإبن القتيل وتكفينه. لكن هنا الحياة تبدأ من جديد وهناك انتهى الجسد الشاب بالموت، تتعمد المخرجة تلك التقابلات الدرامية والبصرية لهذا تفرغ فيلمها من أي ثرثرة فارغة، شريط الصوت لا يحتوي تقريبا سوى على الأصوات الطبيعية للجبال والرياح وحركة الشجر وصوت الماعز والأبواب والأشياء. حركة الكاميرا شحيحة تشير فقط إلى ما تريد المخرجة للمتفرج ان يتشبع به، انها تريد أن ينصب تركيزه الوجداني على تلك التقابلات والتوازيات الشعرية.

يما أنا بردان

يعود الإبن المتطرف مصابا في ساقه برصاصة، ترفض الأم مساعدته، تغلق عليها الباب، يحاول الشاب الاكتع إخراج الرصاصة لكن يظل الجرح مؤلما. تعيش الأم الآن مع شابين أحدهم أكتع والأخر أعرج، هذا ما خلفته الحرب الطائفية.. هذا ما خلفه الأرهاب باسم الدين والتطرف واليمينية الرجعية, ثلاثة شباب احدهم يرقد في قبر والآخر اعرج والثالث اكتع.

عندما يحضر الأكتع عقار المورفين للإبن المصاب تأخذ الأم المورفين محدجة الشاب بنظرة صارمة. إنها تريد لابنها المصاب أن يتعذب من الجرح تريد أن تنقل له ما للألم من معنى وشعور.

في الليل يطلق ندائه المستغيث “يما انا بردان”. يتكرر النداء بالصيغ الثلاث التي اسلفناها الأستغاثة والتألم والشكوى والاستنجاد.. لا تتمكن الأم رغم رغبتها في عقابه من تجاهل النداء فتخرج له بطانية ووسادة لكنها تظل تنظر له في غضب وكره، هذا فيلم محور السرد فيه صوت النظرات المتلاحقة، النظرات هي التي تحمل الصراع وتفيد تصاعده، لا توجد حبكة بالمعنى المعروف، لكن ثمة حكاية تروى بشكل مختلف نستطيع أن نقول أنه فيلم عن “ما بعد الحكاية” أو “ما بعد الحبكة” انه فيلم عن النتائج وليس الأسباب.

دراميا يبدو الفيلم مركبا بشكل متماسك سواء على متسوى بناء الشخصيات أو القرارات التي تتخذها بناء على هذا البناء أو الذرى التني تنتجها تلك القرارات. إن شخصية الأم الصلبة الحزينة على ابنها يجعلها تمنع المورفين عن الأبن الأخر المصاب كي يتعذب فيدفعه الألم من ناحية و طبيعته العنيفة المتطرفة من ناحية إلى مهاجمة الأم مهددا إياها بالطفل الصغير اذ لم تعطيه حقن المورفين وعندما تتكسر تلك الحقن يصاب بالجنون فيحاول الحصول على السلاح من الأكتع والذهاب لسرقة المورفين من أي مكان. هنا يقرر الأكتع الذي اصبح ابنا لتلك الأم وتوحد مع المها أن يمنع المتطرف من ذلك، ينقلب عليه بعد أن رأيناه في الفصل الأول يتعامل معه بخنوع واستسلام بحكم عاهته، الأن صارا متساويين أحدهم أكتع والآخر أعرج.

تقودنا تلك الانفعالات والقرارات إلى الذروة الأخيرة.. يصطحب الأكتع الإبن الأعرج إلى الجبال ومن بعيد يأتينا صوتان فقط، أحدهما لدفعة رشاش متتالية، تعقبها بقليل صوت رصاصة وحيدة يليه بكاء الطفل المولود.

هذه الذروة هي إحدى تجليات الواقعية الشعرية مرة أخرى داخل الفيلم، لقد قتل الإبن المتطرف وانتحر الشاب الأكتع لكن الحياة لم تنتهي ثمة بكاء الطفل الوليد، او الروح الجديدة التي تنطلق من الأرض بمجرد أن تقبض روح أخرى.

لا نرى جثة الأبن المتطرف لكننا الأم تحمل العكازين وتضعهم بجانب قبر اخاه دلالة على انها فقدت كلاهما, تصور المخرجة المشهد ليلا في اضاءة كابية كئيبة وتبدو الدلالة الشعرية والمعنوية للقطة واضحة وهي مرسومة بالضوء والظلال وتكوين جسد الأم المسجى فوق قبر مرتفع تضع بجانبه عكازين قديمين.

لكن صحراوي لا تنهي الفيلم على هذه اللقطة، فهي لا تفيد رسالتها سوى بشكل جزئي، المشهد الأخير في الفيلم هو لقطة واسعة بعيدة كتلك التي بدأ بها المشهد الاول، لكنها هذه المرة للبيت وقد أحاطه الزرع النامي، وصوت بكاء الطفل الوليد يملأ الأفق وتنقله الرياح إلى أركان الأرض الأربعة، والأم تهرع داخل البيت كي تجيب ندائه، لقد بدأ المشهد الأول بالأم تجرجر جثة ابنها أي بدأ بالموت بينما انتهى بالأم تهرع من أجل حفيدها الذي ينادي عبر بكائه أي انتهى بالحياة الجديدة.

لم تجعلنا المخرجة على يقين من أن الحفيد إبن الضابط أم المتطرف، في المستوى الشعري نستطيع ان نقول أنه ابن لهما، أي لكليهما، وهو أيضا تأويل سياسي مقترح وواضح، فالمستقبل في النهاية هو ابن الصراع بين خصوم الحاضر.     

Visited 86 times, 1 visit(s) today