السينما والواقع في تجربة خيري بشارة

هذا الكتاب الصادر ضمن مطبوعات مهرجان الإسماعيلية للسينما التسجيلية ممتع ومدهش، وأتمنى فعلا بأن يتجاوز طبعته الخاصة بالمهرجان، لكى نراه متاحا فى الأسواق.
الكتاب بعنوان «خيرى بشارة.. السينما والواقع»، ومؤلفه المخرج خيرى بشارة نفسه، الذى يوثق تجربته فى تقديم ثلاثة أفلام تسجيلية مشهورة للغاية ومعروفة، وتشكل ثلاثية مصرية، تشهد على زمنها، بقدر ما تشهد على رؤية وانحيازات مخرجها الكبير.
من المهم بالتأكيد أن يكتب النقاد عن أعمال المخرجين، ولكنى أعتقد أيضا أن شهادة المخرج عن أعماله أمر ضرورى ومختلف، لأنه يقدم تفاصيل صناعة الأفلام، ومشكلاتها، ولأنه يذكر أفكارا مهمة لطريقة تحويل مادة العمل إلى فن، وقد يكشف كذلك عن أسرار الحرفة، ومحاولات ترويض ظروف الإنتاج الصعبة.
يبدو أن بشارة قد قام بهذا التوثيق فى وقت مبكر، مستشعرا ضرورة أن ينقل خبرته، بحلوها ومرها إلى أجيال تالية، ومنتهزا الفرصة لكى ينقل أيضا رؤيته لمفهوم الفيلم التسجيلى.
وبينما تتصدر الكتاب عبارات واقتباسات متعددة اختارها بشارة من كتب وأدبيات نظرية عن الفيلم التسجيلى، من أسماء كبيرة ولامعة، مثل دزيجا فيرتوف وجريرسون، ورغم أن المعنى العام هو الصدق فى التعبير عن مفردات الواقع، دون تجميل أو تزييف، إلا أن بشارة لا يغفل أبدا أن الرؤية فى الفنان وليست فى الواقع، الفن فى تشكيل هذه المادة، وليس فى نقلها كما هى.
الفيلم التسجيلى ليس أن تصور الواقع، ثم تضع اسمك كمخرج على التترات، ولكنه فى أن تقدم رؤية عميقة، شكلا ومضمونا، خلاقة ومبتكرة، لمادة الواقع، وتجارب بشارة، فى مراحل التفكير وجمع المادة وكتابة السيناريو وعمل المونتاج والنسخ النهائية، لأفلامه الثلاثة الهامة والمفصلية فى تاريخ الفيلم التسجيلى المصرى، تؤكد كل ذلك.
الصعوبة فى إنجاز أفلام لا تنسى من إخراج وكتابة بشارة مثل ثلاثية «صائد الدبابات» و«طبيب فى الأرياف» و«طيور النورس»، ليست فقط فى تصوير موضوعاتها، وفق ميزانيات بسيطة، وخلال فترات زمنية قصيرة، ولكن الصعوبة الأهم فى أن تصنع من مادتها فنا باقيا، أن تحفظ البشر والأماكن والظرف والمناخ العام على شريط سينمائى، وأن تضيف وتطور من طريقة التعبير فى الفيلم التسجيلى، وأن يكون الفيلم تعبيرا مزدوجا عن المادة وعن الفنان معا.
لم يكن ممكنا لبشارة ولجيله تحقيق ذلك، لولا الوعى بالقضايا والمجتمع والناس، والوعى بأدوات فن السينما، أى أن المسألة ليست مجرد وعى سياسى أو اجتماعيا فقط، وإنما يحتاج الأمر إلى ترجمة هذا الوعى إلى معالجة فنية، سواء على مستوى بناء الفيلم، أو على مستوى الرؤية البصرية، أى تحويله من فكرة عامة وهائمة، إلى جسد فنى له رأس وقدمان وقلب وعقل وأطراف ومفاصل، وله بداية ووسط ونهاية.
الفيلم التسجيلى ليس هو نقيض الفيلم الدرامى الخيالى كما يعتقد البعض، بل إنه يبحث عن الدراما أيضا، ولكن فى مادة الواقع مباشرة، وهذا ما حققه بشارة بامتياز.
تلقائية خيرى بشارة، وروحة الإنسانية الشابة العابرة بالأجيال، ومحبته للحياة، لا تعنى أنه يعامل فنه بخفة وسطحية، بل على العكس، فإن ثقافته، ورؤيته، وانحيازاته السياسية والاجتماعية، عميقة وخطيرة، وواضحة حتى فى أكثر أفلامه مرحا وبساطة وحيوية.
ولكنها روح الفنان التى توهمك بأنه يحكى ويمرح ويغنى، بينما هو يبنى ويحفر ويدين ويشتبك، إنه الصوت الهامس المبتكر، وبشارة من أكثر أبناء جيله تطويرا لطرق التعبير عن الواقع بحرية، وسينماه التسجيلية، رغم أنها تخلد الواقع ومادته، إلا أن فيها بصمة الفنان، وابتكاره، ورغبته فى إيجاد معادل شاعرى يعمق الفكرة.
يحافظ بشارة على أصوات أبطاله: عبدالعاطى المقاتل و زملاؤه فى «صائد الدبابات»، ود. خليل فاضل فى «طبيب فى الأرياف«، وطلبة مركز التأهيل فى «طيور النورس»، ولكنه يعيد تقديمهم من خلال بناء بصرى وسمعى ومونتاجى جديد، وعبر إشارات وعلامات بارعة، كأن يكتب أسماء صناع الفيلم وعناوينه على دبابات العدو وعلى منازل قرية عبدالعاطى فى الفيلم الأول، وكأن يعاد سرد يوم الطبيب فى الفيلم الثانى ممثلا وممتزجا بلقطات حية عفوية مختلسة، وكأن تشكل طيور النورس علامة بصرية بين مشاهد الفيلم الثالث، تعبير عن أرواح تريد التحليق، تنزل بتواضع لالتقاط الرزق من أى ميناء أو مكان، دون أن تفقد طموحاتها وأحلامها السماوية الهائمة.
الفكرة ليست فى الجانب العملى، ومهارة دراسة الموضوع والشخصيات والمادة، ولا فى التحايل على عدد علب الخام المحدودة التى يسلمها المركز القومى للسينما للمخرج، ولا فى محاولة التغلب على ضعف الإمكانيات، كل ذلك هام وواضح فى كتاب بشارة، ولكن لو لم تكن هناك رؤية فنية للمادة، لما أدى ذلك إلى عمل فيلم ناجح.
المهارة فى أن تؤثر بالفن لا بالشعارات، العبرة بجسارة قرار حذف ما صورت فعلا، لأن وجوده سيفسد بناء الفيلم، وهذا ما حدث فى حذف بشارة لأجزاء صورها بالأبيض والأسود، كانت بداية لفيلمه «طبيب فى الأرياف».
العبرة بأن تلتحم أجزاء المادة معا، فتؤثر فى النهاية، والعبرة فى الحصول على معنى إضافى، بسبب الرؤية الأعمق للإنسان، والتى جعلت الرجل العادى عبدالعاطى، بطلا فى المعركة، وفى القرية، وجعلت من د خليل فاضل إنسانا قبل أن يكون طبيبا، وجعلت من فيلم دعائى عن مركز لتأهيل الشباب لأعمال البناء، حكاية أحلام تبحث عن فضاء، مثلما تبحث النوارس عن سماواتها، وجعلت من الأفلام الثلاثة قصائد حب لقدرة المصرى على ترويض حياته، والإنتصار على ظروفه الصعبة، مثل مقاتل يصيد دبابة، أو كطبيب يهزم مرضا، أو كصياد يبيع سمكا، أو كخرّاط يعيد تشكيل الحديد.
شكرا خيرى بشارة على فنك، ووعيك، وعلى أفلامك التسجيلية والروائية.
وشكرا على كتابتك التى لا تقل جمالا وعمقا عن صورك المتحركة الباقية.

Visited 16 times, 1 visit(s) today