السينما السعودية.. بداية واعدة، وآمال كبيرة

تعدّ السينما فن العصر بلا منازع، بما تمتلكه من سحر الصورة المتحركة، وخاصية تثبيت الزّمن. حيث تجمع بين فنون سمعية وبصرية وأدائية دفعة واحدة؛ لهذا صار الخطاب السينمائي سلاحًا في غاية الأهمية والخطورة، فضلًا عن المتعة الجمالية. لا نريد الاستطراد في الحديث عن أهميتها، وأثرها على الفرد والمجتمع. ويكفي أن نستدل بتأثير السينما الأمريكية على ثقافات العالم، ومحاولة تصدير نموذج البطل “السوبر مان” الذى لا يُقهر، ونمط المعيشة الأميركية ورفاهيته، واعتبار الولايات المتحدة أرض الحياة المثاليّة، والأحلام الفارهة. ببساطة لكي تعرف حضارة، وقيمة شعب، يمكنك أن تطّلع على فنونه، وفى مقدمتها الآن السينما.

 لا شك أن المملكة العربية السعودية تشهد طفرة ملموسة في مجال صناعة السينما على كل المستويات، حيث ُتقام المهرجانات، وتصدر الكتب السينمائية، والمجلات المتخصصة، ومواقع إلكترونية رصينة، وتُنشئ جمعيات سينمائية، وورش لكتابة السيناريو، ودورات تدريبية عن الإخراج والتمثيل، وتفتتح دور جديدة للسينما وغيرها من الفاعليات. كل ذلك بدعم ورعاية حكومة تدرك دور وقيمة الفنون والثقافة في حياة الشعوب؛ ممّا يعزّز مكانة الفن السابع بالسعودية، وحضورها العربي والعالمي.

رغم البداية المتأخرة للسينما السعودية، فإن أمامها فرصة تاريخية؛ كي تدخل عين وقلب العالم، وذلك لعدّة أسباب: أولًا وصل فن السينما طور النضوج بعد مائة عام من التّجريب، والبحث، والتّأصيل لشكل فني عُرف بالفيلم بأنواعه المختلفة.

ثانيًا: حدثَ تراكم أعمال إبداعية كبيرة عبر رسوخ مدارس وتيارات فنيّة عالميّة، وتجارب كبار صُنَّاع السينما على المستوى النظري والتطبيقي. علاوة على تطور هائل بالتقنيات المستخدمة والمعدّات، وآلات التصوير، والمونتاج، والصوتيّات.

ثالثًا: سهولة تداول المعلومات في عصر يتسم بانفجار معرفي هائل مقارنة بالزمن الماضي. الباب مفتوح إذن أمام شباب المبدعين، لتشرّب خبرات فنيّة شتّى، والإلمام باللغة السينمائية من مصادر متعددة: غربية، وعربية عبر الإفادة من تجارب البلدان العربية الأكثر قدمًا وثقلًا في المجال، أعنى بالطبع السينما المصرية بتاريخها الطويل، وبعض دول المشرق والمغرب العربي.

كي تمضي السينما السعودية في مسار يضمن لها البقاء، والحيوية، وتُحاذي السينمات العالمية لا بد ألا تقع في فخ السياسي الدعائي، بكلمات أخرى ألا تكون صوت السياسي المغطى بمسحة فنية، بل صوت المبدع الحر المعبّر عن همومه الذاتية، والموضوعية، ورؤيته الخاصة للعالم.

لو نظرنا إلى الوراء قليلًا، شهدت فترة الحرب الباردة أفلامًا أمريكية كثيرة تُشيطن الدب الروسي. في المقابل وجّهت روسيا السينما لتوطيد الفكر الاشتراكي، وروجت المانيا “الهتلرية” للنازية، و”موسولينى” للفاشية بإيطاليا. على المستوى العربي أنتجت مصر أعمالًا تُمجّد حركة ضباط الجيش عام 1952م، وتُؤيد خطواتها السياسيّة والاجتماعيّة، ومن ناحية أخرى شوّهت فترة الحكم الملكيّة أو كما أسمتها بالعهد البائد. السؤال الآن أين مصير تلك الأفلام؟ إنها تلاشت من الذاكرة بانقضاء الغرض، إذ كانت تلبّى حاجة سياسيّة لأنظمة ولّت، وخسرت السّينما جمالها، وديمومتها على مقصلة الأيديولوجيا.

هناك معضلة أخرى، وهي تلك النظرة الدونيّة المهيمنة على ذهنيّة المتفرج العربي للسّينما باعتبارها وسيلة للترفيه والتّسلية لا أكثر. لا يخلو أي فن بالطبع من المتعة مهما نُعت بالنخبوية، والتصق بالصفوة؛ لكن حبس السينما في شكل واحد سواء أكان كوميديا أو رعب أو خيال علمي يضع السينما في مأزق، وينحرف بعربة التجربة السينمائية الوليدة عن الطريق المبتغى. ثمة علائق تبادلية بين الأنواع الفيلمية، فالملهاة تنبع من المـأساة، ولا غنى عن تواجد كافة الأشكال الفنية.

المخرج عبد الله المحيسن

إنّ إعطاء السينما الجادة الحق في النمو والازدهار بجوار الفيلم الخفيف المسلي؛ يوسّع دوائر التلقي والإبداع، مثلما يربى جيلًا من عشاق السينما؛ فيخرج نقاد ومبدعون ومتذوقو الفن الرفيع، وليس جمهورًا غرائزيًا تسوقه الدعاية والضحك الفارغ.لذا ينبغي الاهتمام بتأسيس ثقافة سينمائية تنغرس في وجدان الناس، وتكون أولوية من أولياتهم اليوميّة. تبدأ من الصفوف الأولى للتلاميذ، ولا تنتهي بالدّراسة الأكاديمية عبر معاهد السينما بمجالاتها المتنوعة، مع وجود حركة نقدية نشطة تواكب الزخم الإبداعي، تلقى بظلالها على مناحي الحياة السينمائية؛ فتكتمل أضلع مثلث الإبداع.

تجدر الإشارة إلى أن الفن يتألق في مناخ يتصف بالحرية، أي بإزاحة المكبّلات عن كاهل المبدع سواء سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة بالخصوص. لابد من مساءلة الإرث الثقافي، والديني، والاجتماعي دون خشية، أو إرهاب، ومحو الرقابة تحت أي ذريعة، والانفتاح على كل الأساليب الفنية، والموضوعات، والأسئلة الشائكة حتى ندخل روح العصر لا قشرته.

 يبقى سؤال جوهري ينبغي طرحه بشكل مباشر: ما الذي يدفع بالسينما السعودية إلى الأمام؟الإجابة أن تكون سينما سعودية، عربية الهوى، ذات طابع شرقي. تعبّر عن مشكلات وتحديات بيئتها، تطرح أسئلة تشغل بال المواطن، تحافظ على خصوصيّتها الثقافيّة، فيجد المتفرج حياته على الشاشة، فلا يشعر باغتراب عبر اقتباسات، ومعالجات نصوص أجنبية. بالتأكيد ما يميّز سينما عن غيرها ليست التقنية العالية، بل صدق تعبير الفرد عن همّه الذاتي، والعام، وكيفيّة مواجهة قدره، والقراءة الصحيحة لظروف المجتمع، وملابساته وإمكانية تغييّره.

هيفاء المنصور

حققت السينما السعودية خطوات واسعة على طريق الإبداع السينمائي في السنوات الخمس الأخيرة، عبر التواجد في المهرجانات الدولية وحيازة العديد من الجوائز والتكريم. تاريخ الفيلم السعودي يرجع جذوره لنصف قرن مضى، متكئًا على جهود فردية قليلة. كانت بداية الاعتراف والتّحقق عندما شارك الفيلم التسجيلي “اغتيال مدينة” للمخرج “عبد الله المحيسن” رائد السينما السعودية في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وحاز حينها على جائزة (نفرتيتي) لأفضل فيلم قصير عام 1977م، كما نال شهادة تقدير من مهرجان الخليج الأول للإنتاج التلفزيوني.

انتظرت السعودية ردحًا من الزمن؛ لتعود إلى الظهور مع الجيل النسائي هذه المرة، إذ سطعت على الساحة الدولية المخرجة “هيفاء المنصور”، تمكن فيلمها الروائي “وجدة” 2012م من اقتناص ثلاث جوائز عالمية أثناء عرضه في مهرجان “البندقية” السينمائي التاسع والستين، وسلّطت الضوء على الفيلم السعودي، ثم توالت الإبداعات النسائية.

في عام 2019م كان فيلم “سيدة البحر” للمخرجة “شهد أمين” نقلة نوعية في مجال الفيلم السريالي الغرائبي، فقد تجاوز السرد الاجتماعي التقليدي، كما حاز الفيلم العديد من الجوائز الدولية. على الجانب الآخر يحاول جيل الشباب الوصول لأسلوب سينمائي خاص بهم، يتبدى ذلك في فيلم “أغنية الغراب” للمخرج “محمد سلمان” عام 2022م، وفيلم “شمس المعارف” للمخرج “فارس قدس” 2020م، و”مندوب الليل” للمخرج “على الكلثمي”  2023م، وسواها من الإبداعات التي قد تصيب وتخطئ فنيًا، لكن مع توافر الشروط الإنتاجية الداعمة، والمناخ العام المنفتح ستضع المخرجين السعوديين في الصّدارة، والمنافسة مع كبار الفنانين والمخرجين في العالم.

_________

Visited 14 times, 1 visit(s) today