الروتين المُجدد للحياة في فيلم “أيام مثالية” لفيم فيندرز

Print Friendly, PDF & Email

بين النظر والسمع تتحرك دراما أيام فيندرز المثالية نحو تأمل في حرية العزلة. منطلقًا من دعوة لتقديم صورة تسجيلية للمراحيض العامة في مدينة طوكيو يقرر المخرج الالماني المعروف بسينماه المميزة صناعة فيلم روائي طويل يزدهي بشاعرية مفرطة، يتأسس على فكرة المراحيض العامة ومعمارها الجاذب لصياغة حكاية رجل يمتهن تنظيفها كل يوم وهي النظيفة اصلا!

يجمع فيندرز رفقة الكاتب الياباني تاكوما تاكاساكي في السيناريو أفكارا تنغمس بالثقافة التقليدية اليابانية من خلال الاشارات الأدبية والمرجعيات الاجتماعية التراثية والدينية ونسق الحياة المحلية، متأرجحة بين صورة لأشجار في غابة وملمس اليد على ورق الكتب روايات وقصص ومقالات تستدعي أرواح وذكريات وأفكار ملهمة، وأغانٍ عتيقة خالدة تنبعث من شريط كاسيت.

 في عالم السيد (هياراما) لازالت كل الأمور تناظرية مثل أشرطته الصوتية النادرة، تتبع نسق الطبيعة وتستوحي أجواءها من بيئة روحانية، على خلاف العوالم المادية المعاصرة التي تستهلك أناسها مثل عالم أخته وزوجها، أو الشاب الذي تشارك معه العمل حيث تغرق في نسق ما بعد الألفية الجديدة الحضاري القلق والمُشتت حين تبدو الاشياء مفصلة بكل دقائقها على حسابات رقمية تقيس حتى المشاعر وفق معايير التقييم الباردة والمفرغة من دفء التواصل الشعوري.

ربما هذا ما يفسر هروب ابنة أخته إليه ورغبتها في السكن معه. فروحها النقية تتوق الى عالم قديم متجدد بفيض احاسيس تتجرأ على الخيال الادمي مثل أحلام هياراما المولدة بفعل إنساني وليست مشروع خيال تكنلوجي كصورة ضبابية لذكرياته اليومية تتماهى مع بنايات المدينة ووجوه ناسها المُستترة بأغصان الشجر- وتعطي للنبل الانساني في التواصل مع الموجودات قيمة عُليا، وما لحظة احتضانها لجذع شجرة التي اطرها الخال بصورة سوى الرجع لصوت ذاتها الداخلي.

لكي تفهم الفيلم وشخصية السيد هياراما عليك الانغماس قليلًا في تراث الثقافة اليابانية حيث يتجلى بوضوح عقيدته في تقديس الطبيعة والتعايش معها كمرجع لتنقية الروح وصفائها من اثقال العيش.

فعلاقته بالغابات ومعابدها والأشجار بمثابة نقطة ارتكاز تحفظ ايقاعه الحياتي وتوازن عالمه وتديم روتينه المتجدد بفيض الطاقة المُستمدة منها.

فالمفهوم المعماري للبيت الياباني التقليدي يقوم على مبدأ محو الحدود بين الداخل والخارج، لذا حتى في حالة اغلاق ابوابها فهي لا تمنع وصول اصوات الرياح والحشرات ومظاهر الطبيعة الاخرى والتي تعتبر بكل تجلياتها نعمًا إلهية.

وهذا الاعتقاد يعود الى السكان القدماء الذين نظروا للغابات كأماكن مقدسة تسكنها الآلهة أو تزورها ما يفسر لنا سر استيقاظه الصباحي على صوت مكنسة الرجل العجوز تخط الشارع حيث تغدو أقرب لتعويذة سحرية تفتح مغاليق النهار.

يربط المخرج فيندرز بين إِبْهَام شخصية فيلمه الرئيسية والغابة واشجارها في مسعى سردي يدفع باتجاه تفسير شاعري لفكرة النسغ الممتد بين الطبيعة والانسان المُنعكس في سلوكياته اليومية والمُعبّرة عن حكمة تستمد ديمومتها من تجليات الغموض الذي ما ان نُدرك ماهية استمراريته حتى نتخلى في نهاية المطاف عن الفكرة التي تظل تطرق اذهاننا كمشاهدين لفهم ماضي السيد هياراما.

وأي تفسير نحتاجه أمام ابتسامته الخاشعة كجزء من حواريته الدائمة لرد التحية على الكائنات الخضراء بتلك المشاهد واللقطات لحركة اوراق الاشجار واغصانها يبرز فيها صوت حفيفها كأنها تشدو بعذوبة سلام خير الصباح والفجر المنبثق من لجة الليل.

يشرح فيندرز ذلك بصريًا حين يضعه في احدى اللقطات مؤطرًا بنباتاته الصغيرة التي يرعاها كناية عن طيف المشاعر المختلفة بينهم كنوع من الانتماء.

تكتسب الشخصية حقيقتها من التكرار الغامض للعادات، وتفسر نفسها مع الوقت معيارا للتقاليد التي تصبح بعوالم موازية مهشمة تحت عجلة الحداثة وتقنيات الديجيتال المُستلِبة تتجلى مع كل تلك التقاطعات الكوميدية بين معرفته العتيقة وعجالة تعقيدات العالم المعاصر المُربكة والمُنهكة بالنسبة لرجل يتجنب الالم من خلال الموسيقى والكتب والعناية بالأشجار وتصوير ألفة أغصانها في الفضاءات الزاهية.

“فقط قمر ضبابي يتابع بصمات الامس” تقول إحدى أغاني الفيلم التي تُعتبر اشبه بمحطات سرد تطرح الحالة النفسية والمزاجية للشخصية ويستخدمها المخرج في الاشارة الى تجلياتها الروحية وسجالات النفس مع الذاكرة. يفسر من خلالها سماته المتوارية وخشيته من الاخرين ويمعن النظر بذائقته كضوء على عوالمه الغامضة وأسراره المخبوءة.

وحتى عنوان الفيلم هو استعارة من احدى الاغاني الواردة في الفيلم. فالناس الذين يتهمونه بالغرابة كونه يستطيع العمل بجد وشغف في هكذا مهنة تتطلب تنظيف نفايات الاخرين لا يدركون حقيقة ان نظرتهم الدونية والاستعلائية والمحتقرة احيانا – مثل نظرة تلك السيدة التي وجد طفلها الضائع في المراحيض فبدلا من شكره اخرجت مناديل معقمة ومسحت يد ابنها الذي بنقاء الطفولة وجه له تلويحة شكر وعرفان- لن تغير من سماته كنفحة من أنفاس إلهية اكتسبها من زياراته المواكبة للغابات وفق النظرة الدينية اليابانية التقليدية الواردة في عقيدة الشنتو فجعلته غير مكترث لا يتذمر لأنه ببساطة قرر أن يعيش بسلام مع ذاته والآخرين من خلال مسافة النأي التي يتركها معهم، فحتى كلامه على قلته أقرب للصمت والهمس.

وهنا لابد من الاشارة الى الاستخدام الذكي لشريط الصوت من قبل المخرج حين يلتقط كل التداخل بين الطبيعة وبينه ويجعلها معبرة بشكل وافي وصريح عن افعاله وسلوكه بل ولسانه الناطق.

تعمل مقارنات فيم فيندرز البصرية على منطق السهل الممتنع فترصد ذاكرة شخصية وتقدم قراءة تفسيرية بمنهج تعبيري يستغل الطبيعة والمعمار في عرض التاريخ الغامض للشخصية ومن خلاله للأمكنة ومحاولة رصد واقعه بعين التأويل، فألغاز وحدته تضعه بمقاربة جاذبة مثل فرادة برج (سكاي تري) الذي ظل علامة بصرية تتكرر في الارتباط معه طوال الفيلم او صورة لوحة جبل فوجي بقمته البيضاء وغواية الوصول اليها تمثل الكشف الموازي لشاهق داخله المخفي عن عيون النظارة وفضولهم.

في أحد المشاهد المهمة والكاشفة لمعنى (ايام مثالية) يضع الصانع هياراما وسيارته تحت شجرة تظلل عليه كأنه جزء من جذعها وعلى جانبي الكادر يمينًا ويسارًا اشجار ايضًا في عرض رمزي للشخصية الساعية نحو ترسيخ ثقافتها التقليدية من منظورها الخاص وفق ايمانها وقناعاتها المستمدة من تراث محلي وما الغسل في الحمام العمومي الا جزء من هذه البيئة الشعبية.

كان شراؤه لكتاب “أشجار” للكاتبة والروائية آيا كودا ليس فقط لعنوانه كتعبير عن علاقته الوثيقة مع الأشجار، بل هو اشارة ايضا الى الشكل التقليدي للشخصية اليابانية التي تمثل كتاباتها كشفًا لطبيعة الفرد الياباني وسلوكياته واحاسيسه تجاه متقلبات الحياة.

إسقاطات فيندرز المُلهمة على الثقافة اليابانية التقليدية لم تتحقق بذلك الانسياب الشعوري لولا الاداء التمثيلي الباهر للممثل كوجي ياكوشو الذي استطاع استظهار المكثف الروحي بتعابير وجهه المميزة ونظراته الثرية بفيض تقلباته الشعورية ومزاجه العاطفي. كانت اعمدة الصمت تشكل هيكل المعبد الفني للفيلم الذي شيده المخرج وبطل فيلمه بجمع الاستشعارات للسمع والبصر وسط هبات الريح المتحركة على نغمات الاغاني بين جنبات اشجار طبيعة تبث صدى ارواح خالدة تغازل السماء بحفيفها الذي يثري الانفس.           

Visited 2 times, 1 visit(s) today