“الرحلة 404”.. فيلم من رحم سينما الماضي

لم أكن أتوقع أكثر مما شاهدته في فيلم “الرحلة 404” للمخرج هاني خليفة. فعلى الرغم من الاجتهاد في محاولة تقديم فيلم شخصية أكثر منه فيلم حبكة، إلا أن ما فيه من مبالغات شديدة، بل وبعض الارتباكات والتناقضات سواء في الشخصية الرئيسية أو الشخصيات المحيطة التي تدعمها وتبرز سر أزمتها، جعل فيلما يظهر في 2024 يبدو كما لو كان قادما من رحم أفلام الأربعينيات الماضية.

مرة أخرى، يصبح “غشاء البكارة” هو مفجر الأزمة الأخلاقية والاجتماعية عند بطلة الفيلم أو شخصيته الرئيسية “غادة” (منى ذكي)، فسوف نعرف بعد أن يتقدم السرد بعض الشيء، أن فقدان غادة غشاء بكارتها مبكرا عندما كانت طالبة جامعية، مع حبيبها الأول “طارق عبد الحميد” (محمد ممدوح)، سيصبح هو الدافع (غالبا مع الفقر وإلحاح أمها الجشعة) للسقوط في براثن العهر أو احتراف الدعارة.

مرة أخرى سيصبح لدى غادة رغبة قوية في “التوبة”، والتكفير، بترتيب رحلة للذهاب إلى مكة لأداء فريضة الحج. أي أنها مازلت بعد مرور سنين كثيرة، تشعر بالعار مما حدث لها في الماضي، رغم أننا سنعرف أيضا أنها تزوجت بعد ذلك من طارق آخر (يقوم بدوره محمد فراج)، وكأنه صورة أخرى لطارق الأول الذي تخلى عنها بعد أن نالها، لكي يتزوج من فتاة ثرية، ورثت “بيزنس” أبيها، أما طارق الثاني الذي تزوجته غادة، فهو منحرف، مدمن وتاجر مخدرات، يدخل السجن بعد وشاية من صديق قديم له، ولغادة أيضا، هو “هشام” (محمد علاء) الذي كان طبيبا ثم أصبح طبالا في الملاهي الليلية ثم اتجه إلى أعمال السمسرة والنصب والاحتيال، لكنه مازال يعمل طبالا. أمر مربك.. أليس كذلك!

سنعرف كل المعلومات عن كل شخصيات الفيلم، وخصوصا غادة، من خلال الحوار، فهو الوسيلة الوحيدة لشرح كل تفاصيل حياة غادة في الماضي والحاضر، وتفاصيل علاقتها بالشخصيات الغريبة التي تقابلها، وتفاصيل المشاكل النفسية والشخصية التي يعاني منها الجميع، مع غياب أي مشاهد استعادة لأحداث من الماضي ولو حتى على شكل تداعيات سريعة يمكن أن تنبعث في وعي غادة وهي تواجه المواقف العصيبة المختلفة خلال يوم واحد تقريبا، مما يجعلنا أمام شخصية “أحادية”.

صحيح أنها ارتدت ما يسمونه الحجاب أي غطاء الرأس، ورغم ذلك تحرص على ارتداء السراويل الضيقة والحذاء ذي الكعب العالي، مع كمية كبيرة من الماكياج، ربما للإشارة إلى أنها مازالت حائرة بين توبتها وغوايتها، أو بين حاضرها وماضيها، ولكن هل كانت هي تستمتع أصلا في الماضي، أم كانت بكل بساطة تعيش حياة اللهو بهدف بيع جسدها مقابل الحصول على المال وربما- إرضاء أمها التي مازالت تطاردها حتى اليوم بعد أن أصبحت تعمل في شركة سياحية، تريد الاستيلاء على ما ادخرته من مال لرحلة الحج المرتقبة، وظلت يضاأيضا قادرة على منح الآخرين نصائح دينية عن الغفران والتوبة.

سوف لا نملك إلا أن نتساءل: ما أكثر “أصدقاء” غادة الذين يحشو بهم محمد رجاء السيناريو الذي كتبه لهذا الفيلم، وكلهم ويا للعجب، مازالوا يطمعون في مضاجعتها ولو لمرة واحدة، بمن فيهم زوجها السابق تاجر المخدرات الثري الذي يمكنه الحصول بالتليفون على أجمل فتاة ليل متاحة بماله الوفير!

الفيلم يحاول أن ينقل لنا صورة عن “التدهور” في المجتمع المصري، فجميع الشخصيات التي نراها، فاسدة، فقدت كل القيم، وأصبح هاجسها الوحيد الحصول على المال: طارق عبد الحميد الانتهازي الذي تزوج ممن كفلت له الحصول على معرض أبيها، وطارق المدمن الذي تزوجها واكتشفت أنه قتل أمه بسب عقده النفسية الخطيرة ومع ذلك استمرت في زواجها منه لكنها أجهضت نفسها حتى لا تأتي بابن منه، وبعد دخوله السجن حصلت على الطلاق منه، وهشام الذي يورطها في عملية احتيال واضحة، وصديقه الذي يستولي على عمولتها ويلقي بها في صحراء منتجع “العين السخنة”، وأمها التي تتشاجر معها تريد أن تنتزع كل ما لديها من مال قليل في عرض الطريق ثم تصاب إصابة بالغة عندما تصدمها سيارة، والقوادة “شهيرة” (شيرين رضا) التي تساومها على العودة إلى عالم الدعارة مقابل أن تقرضها المبلغ المطلوب لدفع تكاليف العملية الجراحية لأمها التي ترقد مصابة في المستشفى. أضف إلى ذلك بالطبع، زوجة أبيها “الهام” (عارفة عبد الرسول) التي تريد الاستيلاء على دكان تمتلكه غادة وشقيقتها بسعر بخس لكي تحصل على “عمولتها”.

الغريب أن كل هذه الشخصيات المتدنية الفاسدة التي لابد أن غادة تعرف بتدنيها الأخلاقي، هي نفسها الشخصيات التي تلجأ إليها غادة واحدة بعد الأخرى، وهو ما يجافي أي منطق، تطلب مساعدتهم لها في أزمتها الملحة أي اقتراض مبلغ كبير مطلوب تسديده للمستشفى قبل إجراء العملية الجراحية لأمها.

كما نرى في الفيلم، هذه الشخصيات كلها ترغب في أن تنهشها رغم علمهم بأنها تتهيأ للذهاب إلى الحج. ربما يكون الوحيد الذي تلجأ إليه ولا يحاول أن ينالها، هو “ياسر” (يقوم بالدور خالد الصاوي) ولكن رغم طيبته فهو شخصية مضطربة تعاني من تاريخ إشكالي مع زوجته التي خانته (كما سيروي لها ولنا من خلال الحوار بالطبع!)، وهو يأخذها الى بيته، لا لكي ينال جسدها، بل لكي يقص عليها مأساته الشخصية ثم يوقع لها فجأة على عقد بيع شقته لها، دون أن نعرف متى أتى بالعقد، ولماذا يبيع شقته هكذا بكل بساطة ثم يذهب يحاول الانتحار بتناول عقاقير، وعندما تسارع هي وتحاول إنقاذه فهي لا تساعده على التقيؤ بل بتسليط الماء على رأسه، وهي طريقة مبتكرة بالتأكيد لغسل المعدة!

من هو ياسر هذا؟ وما علاقتها به، هل هو واحد من زبائن الماضي؟ ليس مهما أن تعرف، ولكن لماذا هو طيب لدرجة أنه يريد أن يمنحها بكل بساطة شقته؟ فماذا تعني هي عنده؟ وهل يتصور أنها يمكنها أن تبيع الشقة في ظرف ساعتين لتحصل على المال اللازم للعملية؟ هذا الافتراض لابد أنه يفترض أيضا أن المتفرجين بلهاء!

في أحد المشاهد التي تصطبغ بها عادة أفلام الرسالة الأخلاقية الساذجة، تجد غادة نفسها أمام امرأة مسنة سقطت تلهث على سلم منزلها، تساعدها وتأخذها الى شقتها وتناولها الدواء لاستعادة قدرتها على التنفس، لكنها تصبح أمام اختبار أخلاقي عندما تتاح لها الفرصة للاختلاس من حقيبة مليئة بالمجوهرات في غرفة نوم السيدة التي تستلقي في الخارج في انتظار أن تأتي إليها بالدواء. هل تأخذ ما تحتاجه أي تمارس السرقة تحت ضغط الحاجة وهي المقبلة على الحج؟ أن توبتها أصبحت قاطعة ونهائية؟

سنعرف فيما بعد أن السرقة لم تكن فقط خاطرة مرت بذهنها بل إنها أخذت بالفعل تلك المجوهرات، لكنها تعود إلى شقة السيدة لإعادتها إليها في مشهد عاطفي مؤثر، تعترف فيه بما يوحي بترددها وتشككها وعدم يقينها، ولو كان الفيلم قد استفاد من هذه الفكرة أي فكرة عدم اليقين، وعمقها، وجعلها محور هذه الشخصية، لربما كنا أمام عمل أكثر إثارة للاهتمام، ولكنه اكتفى بالتصوير الظاهري الخارجي سواء لهذه الشخصية أو لغيرها من الشخصيات التي تدعم فكرة التدهور العام، والفساد الاجتماعي. وحتى فكرة التدهور تم تناولها بشكل سطحي لا من خلال شخصيات أكثر عمقا يمكننا فهم أزمتها. ومنها على سبيل المثال شخصية الأم التي تجعل أي متفرج يكرهها من البداية، خصوصا وأن الفيلم يشير على استحياء، إلى مسؤولية الأم عن دفع ابنتها للدعارة؟ من ناحية أخرى، هل الفساد قاصر فقط على أبناء الطبقات الشعبية كما نرى في الفيلم؟

ولأننا أمام فيلم يسعى للوصول إلى هدف محدد من البداية، هو أن يقول لنا إن الخير يغلب الشر، وان غادة تمر باختبار من عند الله، وأن الله سوف ييسر لها أمورها (إن بعد العسر يسرا)، لتنفرج أزمتها في النهاية بطريقة سحرية، لتتجه غادة في طريق النور بعد أن انتصر الخير على الشر في قلوب الرجال الذين يعترفون بذنوبهم.

الفكرة العامة للفيلم جيدة. وكان يمكن أن تصنع فيلما أفضل كثيرا مما شاهدناه، لولا أن شكل المعالجة دراميا وعلى مستوى الأسلوب، أعاقت وصول الفكرة بحيث لم ترتفع بالفيلم إلى مستوى آخر، مستوى العمل الفني الرفيع الذي يخاطب الفكر والوجدان، ويصل للمشاهدين في العالم، فظل الفيلم يقبع ضمن سياق أفلام المواعظ والحكم الأخلاقية، مستندا على الفكرة الدينية التي تطغى على الشخصية الرئيسية وتُسيرها، أي تجعها تبدو كما لو كانت من دون إرادة إنسانية، فكل شيء رهن بالأقدار.

ومع ذلك فلابد من إبداء الإعجاب أولا بالحوار التلقائي الواقعي البسيط، ثم بأداء منى ذكي التي تحمل الفيلم على كتفيها، من مشهد إلى آخر، تحافظ على إيقاع الحركة الكلام والأداء بشكل يجعل الشخصية قريبة منا كمشاهدين، خصوصا في طريقتها في الحديث وإيقاع كلامها الذي ينسجم مع الطريقة الشعبية السائدة اليوم، ولاشك في دور المخرج هنا، الذي يدير منى ذكي بل والممثلين جميعا، باقتدار ومهارة، داخل الديكورات أو في التصوير الخارجي للمشاهد المختلفة، ببراعة، رغم أنه يظل محكوما بحدود السيناريو الذي يسير في اتجاه واحد، وينتقل من موقف إلى موقف جديد، مراكما مأزق غادة التي تود الحصول على المال لإنقاذ حياة أمها، وهو المأزق الذي يطغى كثيرا على الاهتمام بالمأزق الأكبر، أي  دون أن يتجاوز المأزق الاجتماعي- الأخلاقي، إلى المأزق الوجودي.

يبدأ الفيلم بداية قوية مبشرة، مع تلك الشخصية التي تبدو متماسكة، قوية، مسيطرة حتى في تعاملها مع أبيها وأمها وشقيقتها وصديقاتها، قبل أن يرتد فيستطرد، ويستند إلى الحوار في الكشف عن الشخصيات مع بعض المشاهد الزائدة، مثل شخصية ياسر التي كان يمكن استبعادها تماما من الفيلم دون أن يفقد الفيلم شيئا، فهي بالإضافة إلى غموضها وعدم مصداقيتها ربما بسبب الصورة الكاريكاتورية التي يؤدي بها خالد الصاوي، فهي أيضا لا تضيف شيئا ولا تطور شيئا.

يعود الفيلم أيضا إلى تصوير بعض الأنماط المقولبة: القوادة “شهيرة”، مدمن المخدرات الذي يكاد يلتهم المخدرات التهاما وبشكل بعيد عن الإقناع أيضا، والطبال “هشام” الذي يحاول إغواء غادة بالطرق على الطبلة ليذكرها بالماضي (وهو مشهد ساذج كثيرا وغير مقنع)، فهل كان هذا الماضي مبهجا، أي يستحق أصلا تذكره أو التردد أمامه والتفكير في إغوائه؟!

أخيرا فعنوان الفيلم “الرحلة 404″، هو عنوان لا معنى له، فلا توجد رحلة تحمل رقما أصلا، كما أن الرقم نفسه لا يعني شيئا، وحتى العنوان الأصلي الذي رفضته الرقابة (وهو القاهرة- مكة) لا يصلح لفيلم يدور حول محنة امرأة في غابة من ذئاب المدينة العصرية. وكان الأفضل اختيار عنوان يتماهى مع محنة بطلته، لكن الفن اختيار!

Visited 15 times, 1 visit(s) today