“الحفلة”.. التسلية الفارغة والغموض الساذج!

Print Friendly, PDF & Email

بعض الأفلام التى تتحفنا بها السينما المصرية تُقدّم نوعاً من التسلية الفارغة، شئ يقترب من أكياس البوب كورن التى تتناولها بطريقة آلية، ثم تنساها، فلا أنت تناولت شيئاً، ولا أسنانك توقفت، مع ذلك، عن الأكل، مجرد حاجة تتحرك والسلام.وبعض الأفلام تمارس لعبة الغموض الى درجة مضحكة، تجعلها تُلامس سقف السذاجة، إنها تبدو هنا مثل لاعب الورق الذى يُسرف فى إخفاء أوراقه، يحميها بيديه فى قلق، بيما تنعكس أوراقه كاملة أمام منافسيه على مرآه تقع خلفه، هو وحده الذى يعتقد أن أحداً لم يكشف أوراقه، حالة بائسة من التذاكى المثير للرثاء.

فيلم “الحفلة” الذى كتبه وائل عبد الله، وأخرجه أحمد علاء الديب، فى تجربته الثانية بعد فيلم” بدل فاقد”، مزيج فريد لهذين النوعين من الأفلام، جهد كبير وصورة جيدة وأشخاص تروح وتجئ على الستار الأبيض، وعودة الى الماضى والمضارع والمستقبل، ورغى ومعلومات وتفاصيل، لنكتشف فى النهاية أننا فى قلب لعبة ساذجة خالية من المضمون أو المعنى، واحد فاضى قرر أن يلعب على البوليس، ولأن البوليس ساذج، فقد شرب المقلب.

وائل عبد الله الذى أطلق موجة العودة الى أفلام التشويق والجريمة والغموض بفيلم “ملاكى اسكندرية”، بعد غياب رائد النوع ومبدعه الكبير كمال الشيخ، يبدو فى فيلم “الحفلة” وكأنه يقدم التسلية للتسلية، حتى طريقة رسم الشخصيات التى كانت تجد نوعاً من العناية فى أفلام سابقة مثل “الشبح” أو “المصلحة”، تتحول هنا الى ما يقترب من قطع الشطرنج المرصوصة. 

مشكلات بالجملة تتكدس مشكلات السيناريو لتصنع لعبة بلا أساس، أولى هذه المشكلات هى أن وائل عبد الله خرق أهم مبادئ الإستمتاع بأفلام التشويق: أن يمتزج اللعب “مع” المتفرج فى سبيكة واحدة مع اللعب “على” المتفرج، بمعنى أنك يجب أن تقدم بذور اللغز كاملة، دون أن تستبقى معلومة الى النهاية، وإلا ستبدو كما لو أنك صنعت فيلماً جديداً بعيداً عن الفيلم الأصلى.

تظل المشكلة الثانية الخطيرة فى أن شخصية ضابط البوليس التى لعبها ببراعة وبحضور فائق ومفاجئ الممثل محمد رجب، ليست فى الواقع سوى مندوب المتفرج داخل الفيلم، هزيمة هذه الشخصية، رغم مهارتها وخفة ظلها، ورغم أنها أفضل الشخصيات درامياً، لا تعنى الضحك على البوليس، ولكنها تعنى بالأساس هزيمة المتفرج، كأنك بالضبط أخرجت الملك من لعبة الشطرنج، أى انك قضيت على اللعبة نفسها، بينما تريد أن تجعلها أكثر إثارة.أما المشكلة الثالثة فتبدو فى الثغرات الساذجة التى تمتلى بها تفاصيل الأحداث.

هذه النوعية من الدراما قائمة على أدق التفاصيل، وأى هفوة صغيرة تجعل الحدوتة ساذجة، فإذا كان الهدف أصلاً هو اللعب بلا أى مضمون أو معنى، فإن الفيلم يبقى فى هذه الحالة فى مأزق حقيقى لا يمكن الخروج منه.تعاون وائل عبد الله مع أحمد عز بطل فيلم “الحفلة” فى أكثر من فيلم كاتباً ومنتجاً، تقريباً هو الذى دفع عز الى الصفوف الأولى، ولكن “أفلام اللعبة” السابقة كانت لا تخلو من المعنى، فى “ملاكى اسكندرية” مثلاً كانت الشخصيات قوية ومرسومة بعناية، وكان المعنى فى أن الصعود قد يكون بداية السقوط، وفى “الشبح” كان المعنى أجمل، وهو فكرة فقدان الذاكرة التى يمكن أن تكون بمثابة الميلاد الجديد للإنسان، حتى فيلم “المصلحة”، الذى جمع بين عز وأحمد السقا فى الموسم الماضى، كان يفتح ملفات عالم المخدرات، ويحلّل الصراع الداخلى بين الرغبة فى الإنتقام، والحرص على أداء الواجب.

لكن “الحفلة” لا يقول أى شئ سوى أن شاباً اسمه شريف ( أحمد عز) قرر أن يقتل زوجته الثرية سارة (روبى)، لأنها خانته، وحملت من وراء ظهره، دون أن تعرف، ودون أن نعرف أيضاً، أن المسكين لا يستطيع الإنجاب، لم يكتف المدعو شريف بذلك، بل إنه تفرّغ، وهو الذى يعمل فى شركة لتشغيل الأسهم فى البورصة، لكى يخترع حكاية خطف زوجته التى قتلها، ثم يلصق التهمة بخطيبها السابق حسام (تامر هجرس)، الذى لا نعرف بالضبط موقفه من الجنين الذى بدأ التحرك فى أحشاء سارة هانم.

هذا هو موجز الفيلم الذى تصل إليه بعد صداع من المواقف والتفاصيل والشخصيات التى لا هدف لها سوى بذر الشك فى الجميع: الأم نهاد ( مها أبو عوف)، وزوجها مراد (تميم عبده) رجل الأعمال الثرى، وسكرتيرته الحسناء نرمين، وجارة الزوجين نانسى (جومانة مراد)، والجار ممدوح (محمد ممدوح)، وزوجته غادة (دينا الشربينى)، والحمد لله أن دائرة الشك لم تتسع أكثر من ذلك، كانت بالضبط على مقاس كيس البوب كورن!شوف العصفورةمن ألعاب الطفولة المعروفة، أن تقول فجأة لرفيقك:” شوف العصفورة؟!”، وما أن يتجه ببصره الى حيث تشير، حتى تخطف منه شيئاً، وتقول بلهجة ظافرة:” هيييه.. وضحكت عليك”، شئ مثل ذلك تقوم به أفلام الجريمة والغموض، ولكن شرط اللعبة وجمالها، أن تمرّر اللغز وسط المعلومات، وإذا لم تستطع أن تقدم المعلومة، فلابد أن توحى بها، وليس فى مقدمات الفيلم أى سيرة أو إيحاء بحكاية مشكلة شريف مع عدم الإنجاب التى هى عمود البناء كله، والتى لا تُذكر إلا فى نهاية الفيلم، أى أن أهم معلومات الفيلم هى أصلاً خارج اللعبة،

وعندما نعرفها فى النهاية، سيشعر المتفرج أنه أمام فيلم جديد لم يشارك فيه. يدمر وائل عبد الله أيضاً قواعد اللعبة عندما يقدم صورة الضابط الذكى والظريف فاروق (محمد رجب) فى ثلاثة أرباع الفيلم، يجعله مندوباً بارعاً للمتفرج فى البحث وجمع المعلومات، ثم ينتهى به الى شخص غبى فاتت عليه ثغرات مضحكة، انشغل بتفاصيل يحكيها كل واحد، دون أن يتحقق منها، كل شخصية تحكى له ما حدث فى حفلة أقامتها نانسى قبل اختفاء الزوجة بيوم، من الغريب أن البعض يحكى عن أمور قد لايكون عرفها، كما أنه من الصعب أن تصدق أن تمتد الأمور الى حكايات شخصية حساسة، وإيحاءات بعلاقات مريبة جنسية ومالية!                

من العجيب أن المحقق الذكى الذى نراه أكثر من مرة وهو يشاهد كاميرات المراقبة فى السوبر ماركت مكان الإختطاف، فات عليه التحقيق فى حكاية تردد الزوج على المكان من قبل، وفات عليه تفاصيل علاقته بزوجته، وفات عليه حكاية وجود خطيب سابق للزوجة يتشاجر مع الزوج، ثغرات عجيبة لا يمكن أن تمر أمام عين ضابط حاذق كما رسمه السيناريو.المدهش أيضاً أن الحفلة التى يحمل الفيلم اسمها لا تقدم شيئاً مهماً فى حل لغز الفيلم، ولكنها ربما زادته تعقيداً، والمعلومات التى تتبادلها الشخصيات فى الحفلة أقرب ما تكون الى جلسات النميمة، يضاف الى الثغرات الواضحة كذلك أننا لا ولن نعرف مبرراً لخيانة سارة للأستاذ شريف، الذى يبدو فى كامل لياقته البدنية، والذى نفهم أنه لا يمانع فى تصدير قدراته مع الجنس الآخر للجميلة نانسى، كل ما فى الأمر أنه لا يستطيع الإنجاب، وهذه لعمرى قضية أخرى.

ثم ما الذى يجبر سيدة مجتمع شابة وثرية على أن تنسب طفلاً لزوج تستطيع أن تنفصل عنه؟ ما الذى جعلها تنفصل أصلاً عن خطيب فى لياقة وعنفوان تامر هجرس إذا كانت تريد حباً وحناناً؟ وما الذى يجعل شخص مثل شريف يتآمر على قتل زوجته مع سكرتيرة لا يعرفها مثل نرمين حتى لو كانت مثله تكره العائلة الملعونة؟ وكيف فاتت بسهولة العلاقة الواضحة بين نرمين وشريف على الضابط فاروق رجلنا فى الفيلم الساذج؟

لن تجد إجابة عن هذه التساؤلات المحورية، لأن هدف السيناريو هو اللعب، واللعب فقط، الهدف أن تنشغل بالعصفورة، أو العصافير دون أن تكون موجودة من الأساس، نسى المؤلف أن متعة اللعبة فى معرفة المتفرج بقانونها، لا توجد لعبة بدون شروط وقوانين، وإلا أصبحنا أمام عرض عشوائى غير ممتع.

حتى عالم البيزنس وانحرافاته يظل هنا سطحياُ ومصنوعاً، نانسى التى تريد أن تستخدم شريف فى تلاعبات البورصة، وهو يرفض دون نعرف لماذا، وممدوح الذى يتلاعب بأرصدة عملاء البنك دون أن تعرف لماذا يحتاج الى هذه الحيلة الساذجة، وغادة زوجته التى لن تعرف لماذا تشك فيه، وسارة التى لن تفهم هل تشك فى إخلاص زوجها أم أن الأمر لا يعنيها، ومراد رجل الأعمال الذى لا تعرف بالضبط ما الذى يعمله، مجرد شخوص مثل قطع الشطرنج تدور حول نفسها، ولولا مناوشات الضابط فاروق، والحيوية التى قدّم بها محمد رجب الشخصية، لكان البناء بأكمله أقرب الى الثرثرة الدرامية.

فجأة سيتم العثور على جثة سارة، وفجأة سيُتهم خطيبها السابق باختطافها وقتلها بمنتهى السهولة، سيتأكد بذلك أن المتفرج قد أصبح خارج اللعبة، وأن المؤلف قرر أن يلعب بمفرده، فى ملاكى اسكندرية يحدث إنقلاب درامى كامل، ولكن تفسير الحكاية كلها سيكون بناء على ما رأيناه فى البداية، أما حكاية عدم قدرة شريف على الإنجاب، فهى فيلم آخر بأكمله، لدرجة أن ربط حل اللغز بما رأيناه أصبح مفتعلاً ومصنوعاً وساذجاً ومثيراً للرثاء، ولك أن تتخيل مثلاً أن الحل سيأتى بعد ثلاثة شهور من اكتشاف الجريمة.تنبعث من الصالة الضحكات عندما يتساءل شريف المسكين وهو يقتل سارة: “ليه عايزة تلبسينى طفل”؟!، لاتجد سارة أى إجابة، ربما كانت تريد أن تقول له:” والله ما انا عارفة، اسأل المؤلف؟”، المهم أن اللعبة السخيفة لا تتوقف، حيث يظهر شريف فى المشهد الأخير مع نرمين، السكرتيرة المتآمرة معه، تخبره هى أيضاً انها تنتظر طفلاً منه ، يبدو أنها خدعته أيضاً دون أن تعرف أنه لا ينجب، الحقيقة أن المشكلة عند شريف وليس أى شخص آخر، كان عليه أن يعلق لافتة تحذر من خيانته، وتؤكد أنه لا ينجب، وتلفت نظر أى سيدة ألا تخونه لأن المؤمن لا يلدغ من واحدة مرتين!

لم يتميز من الممثلين سوى محمد رجب، موهوب حقاً هذا الممثل، قدّم الشخصية بذكاء وبساطة وخفة ظل وثقة، ملاحظة أخرى غريبة وهى امتلاء بعض الممثلين مما أثّر على قدراتهم التعبيرية بالوجه، أتحدث تحديداً عن جمانة مراد وأحمد عز، أصبحاً فى كثير من اللقطات القريبة التى يمتلئ بها الفيلم أكبر سناً، بل إن تقاسيم الوجه المألوفة تغيّرت، ورغم مشاكل السيناريو التى ذكرتها تفصيلاً، فإن الفيلم يتمتع بصورة رائعة (مدير التصوير أحمد مرسى)، وديكورات مميزة (باسل حسام)، وموسيقى تصويرية مناسبة ولافتة ( عمرو اسماعيل)، ومونتاج منح المشاهد تدفقاُ واضحاً (أحمد حافظ) مع ملاحظة أن تكرار نفس اللقطات/ القصاصات السريعة، فى كل مرة عند العودة الى الحفلة، كان أمراً زائداً ومبالغاً فيه.

المخرج الشاب أحمد علاء الديب موهبة واعدة حقاً، من الواضح أنه يمتلك أدواته جيداً، كما أنه يحب أفلام التشويق، ويجيد صنعها كما لاحظنا فى تجربته الأولى الأفضل  فى فيلم “بدل فاقد”، يبقى فقط أن يكتشف أن الصنعة تبدأ من السيناريوالمتماسك ، وليس من أى شئ آخر.فى الحفلة التى تشغل مساحة واسعة من الفيلم، ترقص نانسى على نغمة أغنية تقول “جو تو هيل .. جو توهيل”، ألم يفكر صناع هذا الفيلم أن مشاهداً اصابه الصداع، أو اكتشف سخافة اللعبة، يمكن أن يغنى لهم أيضاً نفس الأغنية أثناء خروجه من قاعة العرض؟!

Visited 123 times, 1 visit(s) today