“الأمير الأخضر” طفل حماس جاسوس لإسرائيل

من أشهر الأفلام الإسرائيلية التي تناولت موضوع التجسس الفيلم الوثائقي الطويل “الأمير الأخضر” The Green Prince الذي أخرجه الإسرائيلي ناداف شيرمان، وهو الذي سبق له أن أخرج فيلما وثائقيا آخر عن أشهر الجواسيس الإسرائيليين الذين عملوا في مصر، أي الجاسوس “لوتز” الذي عرف باسم “جاسوس الشمبانيا” – وهو نفسه عنوان الفيلم الذي كشف النقاب عن الكثير من الحقائق حول لوتز وكيف أنه تخفى تحت هويته الألمانية الأصلية وظل خلال سنوات من ستينيات القرن الماضي، يخدع الكثير من الضباط المصريين الذين وثقوا فيه باعتباره راعيا للخيول، بينما كان يرسل الرسائل المفخخة للخبراء الألمان العاملين في برنامج الصواريخ المصري.

يروي “الأمير الأخضر” من خلال الشهادات المباشرة والصور والوثائق، قصة مصعب حسن يوسف، إبن حسن يوسف، القيادي في حركة حماس، الذي تمكن جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) من تجنيده وظل يعمل لحساب هذا الجهاز في التجسس على والده وأعضاء حماس في رام الله بالضفة الغربية، لمدة عشر سنوات.

شهادات

يعتمد البناء الأساسي للفيلم على الظهور المباشر لمصعب، يروي من وجهة نظره تداعيات القصة من بداياتها، وكذلك الشهادة المباشرة المصورة التي يقدمها ضابط وكالة “شين بيت” الذي جنده وكان يتولى تشغيله من البداية، وهو جونين بن إيزاك، مع الانتقال بين الشهادتين باستخدام المونتاج عبر مسار الفيلم، بحيث يكمل بعضهما البعض ولو مع اختلاف زاوية الرؤية للحدث نفسه الذي يتحدثان عنه مباشرة أمام الكاميرا.

يستخدم المخرج الكثير من الوثائق المصورة التي تتابع حسن يوسف وولده، ولحظات تعرض الأب للاعتقال أكثر من مرة، كما يستخدم لقطة تتكرر عبر سياق الفيلم، لعربة van كبيرة وهي تلتقط مصعب للمرة الأولى نحو مصيره لمقابلة ضابط الشين بيت الذي سيبدأ تشغيله في التجسس على والده وعلى حركة حماس وكل ما يتعلق بنشاطها في الضفة الغربية بدءا من عام 1997 حتى 2007. وهناك أيضا الكثير من اللقطات التي تبدو كما لو كانت قد التقطت بكاميرات سرية من جانب أجهزة التجسس الإسرائيلية، ربما يكون المخرج حصل عليها من وكالة “شين بيت” التي لاشك أنها أعطت موافقتها المسبقة على إنتاج هذا الفيلم.

يروي مصعب كيف أنه تأثر كثيرا باعتقال والده وهو طفل صغير في السادسة من عمره، وكيف أصبح يكره الإسرائيليين وأنه كان على استعداد لقتل الإسرائيليين بسبب ما وقع لوالده، وحينما كان في السابعة عشرة من عمره اشترى أسلحة دون نية مسبقة لاستخدامها، فاعتقل وتم تعذيبه، ثم عرضوا عليه العمل لحسابهم، فاستجاب لأنه – حسب ما يقول في الفيلم- أراد أن يساهم في وقف تيار العنف والعنف المتبادل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كما أنه وجد نفسه مشدودا لفهم طريقتهم في العمل. ولكن ضابط الشين فين “جونين” يقول إنه لاحظ أن مصعب كان مشدودا الى فكرة “المغامرة”، ويعتقد ربما أنه سيصبح مثل جيمس بوند، ثم أرسلوه كسجين إلى قسم سجناء حماس حيث وجه سجناء حماس سؤالا أساسيا هو: هل عرضوا عليك العمل معهم؟ ويضيف أنه لم يكن يستطيع أن ينفي لأنهم كانوا يعرفون أن الإسرائيليين عادة يعرضون التعاون على كل من يعتقلونهم، ومن هنا بدأت رحلته في عالم التجسس، ويطلق شين بيت عليه “الأمير الأخضر” نسبة إلى علم حماس الأخضر، وباعتباره إبن أحد القياديين في الحركة.

يقول “جونين”، الضابط الذي جنده وقام بتشغيله، إنه حاصل على ماجستير في علم النفس، وإنه لسبب ما أدرك أن مصعب على استعداد للتعاون، وأمكنه باستخدام وسائله الخاصة التوصل إلى نقطة ضعفه ثم الايقاع به، وإنه كان يعلم أنه يسوق مصعب الى خيانة وطنه، ويروي كيف أنه طلب منه أن يكمل دراسته الجامعية لكي يصبح ذا شأن وسط مجتمعه وبالتالي تعلو قيمته بالنسبة لهم. وعن هذه النقطة يعلق مصعب بأنه شعر أن جونين يتعامل معه مثل والده تماما، يخشى عليه ويريد مصلحته. ويقول جونين إنه في مرحلة أخرى، أدرك أن مصعب لم يكن مجرد عميل يعمل مرغما نتيجة الضغط بل إنه كان مقتنعا بما يفعله وبأنه كانت لديه رغبة حقيقية في المساهمة في وقف العنف (لقد كان معنا ولكن على الطرف الآخر).

ويقول مصعب إنه شعر بالغضب الشديد جراء العمليات الانتحارية التي وقعت في التسعينيات، ويروي كيف ساهم في الايقاع بالكثير من العناصر التي قامت بها، كما تجسس على والده وكان ينقل كل اتصالاته الى الاسرائيليين ، ولكنه اعترض على اغتيال والده بعد أن وضعه السياسيون الاسرائيليون على قائمة الاغتيالات، فهم لم يكونوا يعلمون أن مصعب يعمل لحساب الشين بيت، ولكن الجهاز كما يقول جونين، لم يكن يستطيع اغتيال حسن يوسف بسبب تعاون ابنه معهم، وقد اكتفوا بالتالي باعتقاله وسجنه. ويروي جونين أيضا كيف أنهم في شين بيت، اعتقلوا مصعب نفسه أكثر من مرة في عمليات مدوية، هاجموا خلالها منزل الأسرة وروعوا والدته لكي تعترف بمكانه ثم قبضوا عليه وسجنوه، وذلك بغرض أن يتجنبوا اكتشاف أمره من جانب أعضاء حماس بعد وشايته بالكثيرين منهم.

وينتقل الفيلم في الجزء الأخير منه إلى ما حدث للضابط جونين الذي كان يغالي في التعامل مع مصعب وهو يروي كيف أنه تجاوز أكثر من مرة القواعد التي تحددها الوكالة في العمل، بل وعندما وجد أن مصعب يشعر بالاضطراب والخوف استضافه على نفقته دون اذن من الوكالة في أحد فنادق تل أبيب، وأخذ يحاول تهدئته، الأمر الذي أدى الى طرده من الخدمة. وبعدها قرر مصعب السفر الى الولايات المتحدة، حيث طلب اللجوء السياسي، ولكن طلبه رفض في البداية الى أن قرر جونين، الذي يقول إن العلاقة بينه وبين مصعب أصبحت علاقة صداقة، أو علاقة والد بوالده، السفر الى أمريكا وتقديم شهادته أمام المحكمة الأمريكية، نافيا عن مصعب أي علاقة له بالعنف بل إنه “على العكس من ذلك” ساهم في منع وقوع أعمال عنف، وعلى إثر ذلك حصل مصعب على اللجوء السياسي في أمريكا وأصدر كتابا يروي فيه قصته.

إن أي مشاهد لهذا الفيلم الإسرائيلي، لابد أنه سيسأل نفسه: هل ما قام به مصعب حسن يوسف كان مبررا؟ أي هل كان انتقاله من معسكر أهله من الفلسطينيين أصحاب القضية الانسانية العادلة الذين يواجهون يوميا قمع المحتلين الاسرائيليين لهم ورفضهم الاعتراف بأبسط حقوقهم الانسانية وذلك الغضب الذي يجتاح العالم رفضا للممارسات الاسرائيلية، إلى المعسكر الآخر، معسكر “الأعداء” أصحاب الأساليب العنيفة الخبيثة في تجنيد العملاء (وهو جانب يكشف الفيلم عنه ضمنيا)، هل كان هذا مبررا وهل هو أمر يمكن قبوله ويمكن لأي مشاهد للفيلم أن يقوم به في ظروف مشابهة؟

أنسنة جاسوس

إن هذه في الحقيقة هي الاشكالية الأساسية التي يواجهها هذا الفيلم الذي يحاول أن يقدم مصعب حسن يوسف باعتباره أحد ابطال “السلام” دون أن يقول لنا ما الذي حدث لقضية السلام بعد كل ما فعله مصعب وبعد كل ما قدمه لاسرائيل من خدمات جليلة.

إن الفيلم في الحقيقة يحاول “أنسنة جاسوس”، وأن يخلع عليه صفات البطل التراجيدي الذي يقع ضحية لمجتمع يعتبره خائنا يجلب العار، ويناقش طويلا في سياق الفيلم، مسألة “العار” ومفهومه عند الفلسطينيين وتعارض هذا المفهوم تماما مع ما قام به مصعب، رغم تأكيد مصعب على حبه لوالده وإخوته الذين خانهم جميعا حسب مفهومهم الخاص للخيانة والعار والشرف والاستقامة بالطبع كما يقول هو في الفيلم، وهو مفهوم يعذبه ويجعله لا يشعر بالراحة حتى وهو في المهجر الذي اختار الذهاب إليه هربا من مصيره المنتظر كأي خائن لأبناء وطنه. إنه يشكو في نهاية الفيلم كيف أنه وصل الى أمريكا مجردا من الأهل والحماية والعمل، وكيف كان كل الذين يستمعون الى قصته، يتشككون فيه، تماما كما كانت وكالة شين بيت تتشكك فيه طول الوقت، وكيف أن التشكك في العميل- كما يقول ضابط شين بيت “جونين”- قاعدة أساسية، فهو ليس “شريكا” بل “هدف”.

إن فيلم “الأمير الأخضر” رغم براعته التقنية في عرض موضوعه، واستناده إلى الكثير من اللقطات الحقيقية التي تصور كيف كان ممكنا أن يحدث ما حدث، يلعب ولو من طرف خفي، دورا في استعراض القوة الإسرائيلية، والتلاعب بمشاعر المشاهدين حينما يؤكد على فكرة أن وكالات الاستخبارات الاسرائيلية لا تتخلى عن عملائها، أو في معنى آخر “أصدقائها”، حتى لو كان الثمن التضحية بأحد الضباط العاملين فيها، الذي يعترف هو نفسه في نهاية الفيلم بأن ذهابه الى أمريكا وشهادته الى جانب”الأمير الأخضر”، كان يمكن لوكالة شين بيت أن تمنعها، لكنها لم تفعل لأنها أرادت أن تترك له المجال لمساعدة مصعب. فهل هناك دليل أبلغ من هذا على “خيانة” مصعب لوطنه، ونهايته الرديئة في ركن مجهول من العالم!

Visited 77 times, 1 visit(s) today