“إكزوتيكا”: الغرابة والاغتراب والرغبة

من الصعب تلخيص حبكة فيلم إكزوتيكا Exotica (1994) للمخرج الكندي من أصل مصري، أتوم إيجويان، دون أن تبدو فوضى عارمة من الشخصيات والثيمات، أو شبكة معقدة على نحوٍ مبالغ فيه من الشخوص والعلاقات، فهي تدور حول محصّل الضرائب المكتئب فرانسيس الّذي يرتاد كل ليلة ناديًا ليليًا يدعى إكزوتيكا ليزور راقصته المفضّلة كريستينا، الفتاة الّتي تؤدي عرض إغراء راقص في هيئة طالبة مدرسة ثانوية.

نحن نعرف أنّها كانت في علاقة مع المقدّم الصوتي للنادي إريك والّذي لا يزال يشعر بالغيرة نحوها، ولكنّه في علاقة من نوعٍ ما مع مالكة النادي زوي، والّتي بدورها أيضًا في علاقة من نوعٍ ما مع كريستينا نفسها.

يقتحم فرانسيس فيما بعد حياة توماس، مالك محل حيوانات أليفة يمارس عمليات تهريب لبيض ببغاوات نادرة، ويقضي ليله في البحث عن عشيق في مسرح الأوبرا.

كما يبدو هي شبكة معقّدة تسير في اتجاهات عدّة، كما أنّها «غريبة»، وتبرز تلك الغرابة إذا وضعنا شخصيات إكزوتيكا جنبًا إلى جنب مع بقية شخصيات أفلام المخرج الكندي آتوم إجويان الأخرى، فهي بين مقيّم أضرار في شركة تأمين، وعضوة في هيئة رقابة سينمائية (الضابط The Adjuster 1991) وممثل صامت (الأجزاء المتكلمة Speaking Parts 1989) ومصوّر كنائس (رُزنامة Calendar 1993).

إنها شخصيات غريبة على نحو أننا لا نلقاها كل يوم، فهي تنزوي في أركان غير مألوفة، وهي محددة بشكلٍ موغل في التفاصيل، غير أن هذا لا يعني أنها تحتوي في ذاتها على عنصر الخطر أو الإزعاج أو الرعب، وإنما هي فقط «غريبة».

يمكننا التمييز بين فصيلين من الغرابة هما الغريب أو الغرائبي exotic والخارق للطبيعة uncanny فالثاني هو الذي يشتمل على عنصر الخوف، غير أنه مألوف بمعنًى ما، فهو يشمل حكايا الغيلان والساحرات ومصاصي الدماء، أي قصص خيالية تنبع من داخل العقل البشري وباتت معروفة ومألوفة (على النقيض من الغرابة) عبر العقود، كما يحتل ذاك الخارق قطاعًا عريضًا من التراث الأدبي والتقليد السينمائي، كما بزغ بشدة في السينما التعبيرية الألمانية في عشرينيات القرن العشرين.

أما المصطلح الأول الذي يتبناه عنوان الفيلم- كما هو واضح- فهو لا يحوي في طياته معاني الخوف أو الإزعاج، وإنما هو فقط غير مألوف، كما أنه لا ينبع من الداخل، فمثل كل كلمة تبدأ بالبادئة exo- يشير إلى علاقة وطيدة مع الخارج، أو الأجنبي، أو الغريب عنا، فمثلًا في عالم اقتناء الحيوانات الأليفة باتت الحيوانات الأليفة غير المعتادة، أي كل ما هو دون الكلاب والقطط، تعرف بأنها حيوانات غريبة exotic animals باعتبارها حيوانات خارجة عن بيئتنا، وهي بالضبط الحيوانات التي نراها في متجر توماس. وهكذا فإن شخصيات إجويان ليست خارقة أو مخيفة بأي شكل من الأشكال، ففرانسيس ليس كاليجاري وإريك ليس فرانكنشتاين، ومع ذلك فهي تبقى غريبة بمعنى أنها ليست من نقابلها في حياتنا اليومية، أو نصادفها في طرقاتنا بشكل دوري.

إلى جانب الغرابة، تعاني شخصيات إجويان اغترابًا ملحوظًا يمكننا أن نلمسه بسهولة في شخصيات مثل فيليشيا في فيلم إيجويان «رحلة فيليشيا» Felicia’s Journey (1999)، أو شخصية المصوّر التي أداها أتوم إجويان نفسه في فيلم «رُزنامة» Calendar (1993)، لأنها شخصيات ترحل بعيدًا وتصبح مغتربة أفقيًا، أي بالمعنى الجغرافي، وهي سمة يمكن تفهمها بالنظر إلى آتوم إجويان كمخرج كندي من أصول أرمينية مصرية، ولكن يصعب لمسها في الشخصيات التي يغيب عنها الشق الجغرافي أو الأفقي، فنحتاج عندها إلى التعمق في الشخصية رأسيًا لنتمكن من رصد منبت هذا الاغتراب.

يبدأ الفيلم بعبارة «يجب أن تسأل نفسك ما الذي دفع المرء لهذه النقطة؟ ما الذي نراه في وجهه وتصرفاته قد أتى به إلى هنا؟» يتضح بعد تجلي المشهد على الشاشة أن قائلها هو مدير جمركي، يخاطب بها أحد مرؤوسيه معلمًا إياه كيفية النفوذ إلى بواطن من يقفون أمامه، لكن اختيار تلك العبارة لاستهلال الفيلم مع تأخير ظهور المشهد لما بعد استنطاق العبارة كاملةً يدفعانا إلى تناولها بقدرٍ من الإطلاقية للتعبير عن شخصيات الفيلم، وربما إلى قطاع كبير من شخصيات إجويان بصفة عامة.

تدور شخصيات «إكزوتيكا» في حلقة لا تنتهي، إنهم يعيدون ذات الأمور مرارًا وتكرارًا، توماس يلعب لعبة التذاكر كل ليلة بغرض البحث عن عشيق، في حين يلجأ فرانسيس إلى ملهى إكزوتيكا حيث تؤدي كريستينا نفس العرض ويكرر إريك ذات التعليق الصوتي، إنهم مدفوعون بتأثيرٍ من ماضيهم، تأثير «دفعهم إلى هذه النقطة»، تأثير «نراه في أوجههم وتصرفاتهم قد أتى بهم إلى هنا».

يعبّر الفيلم عن الاغتراب لونيًا باستخدام اللون الأخضر، وهو اللون المعروف بارتباطه بالنماء والخير، لينزعه إجويان هنا من هذا النسق، فيصير اللون في حد ذاته مغتربًا في كل تجلياته على الشاشة، فالنباتات الخضراء الّتي تصحب تتر البداية ليست النباتات المعتادة المعبّرة عن النمو والازدهار، وإنما هي شبكة من النباتات الغريبة المتسلقة، الّتي لا تعبر إلا عن الالتصاق بالمصير أو خروج الأمور عن السيطرة، والسوائل الخضراء في متجر توماس ما هي إلا هُلام يحجب الحيوانات عن النظر، فتظهر من ورائها أشباحًا وظلالًا، فالحيوانات الإكزوتيك هي بدورها اغتربت عن بيئتها الأصلية حين صيدت وصُدّرت أو هُرّبت إلى كندا.

اللون الأخضر بمختلف الدرجات هو اللون الغالب على الفيلم ككل، بداية من تترات البداية المعروضة بخطٍّ على درجة من الخَضار وفي خلفيته نباتات خضراء، إلى حوائط وجدران نادي إكزوتيكا، وإلى الببغاوات الموجودة في النادي الليلي وعند هارولد والد تريسي جليسة الأطفال الّتي يزورها فرانسيس. ودرجات الأخضر في الفيلم تتسم بشيءٍ من القتامة أو الفساد أو التعفّن، بعيدةً كل البعد عن الجنة الّتي تتصوّر في الذهن فور التطرق إلى اللون الأخضر، ولأن الأخضر مغتربٌ في حد ذاته فلا بد له هو الآخر من ماضِ جلبه إلى هنا مثل سائر شخصيات الفيلم.

هذا بالضبط ما نراه في مشهد الفلاش باك الّذي يقطّعه شريط الفيلم إلى مقاطع عدة تُقدَّم على دفعات عبر مدة العرض، إنه مشهد يعبر عن وقت كانت فيه الشمس مشرقة، وكان الأخضر لا يزال معبرًا عن الجنة، نرى تلّة مخضرة، يهبط منحدرها بتناغمٍ وهوادة أناسٌ يتعاونون ويتشاركون في أمرٍ ما، يتعرّف إريك بكريستينا هنالك أول مرة، نراهما في هيئة مختلفة عن هيئتهما الإكزوتيكية الّتي قدّمها لنا الفيلم، فوقتئذ كانا لا يزالان يحملان قبسًا من البراءة.

لمفارقة المذهلة الّتي تؤطر هذا المشهد الفردوسي العذب والفريد وسط أحداث الفيلم تبرز حينما يتضح لنا أنّه في حقيقته مشهد بحث عن جثة مفقودة.

يخبر إريك وقتها كريستينا بأنّه يتطلّع إلى بنية أو أساس structure، لأنه ليس راضيًا عن حياته الّتي تتساقط فيها أيامه دون أن يحقق شيئًا يُذكر، نبصر إرهاصات عصر إكزوتيكا مع هذه العبارة، وفي مونتاج بديع يخلط إجويان الفلاش باك العذب بواقع إكزوتيكا، التلة الخضراء والشمس المشرقة بغرف ذات جدران عكرة ومصباح صغير يعبث به إريك بشكل متقطّع، نقرات البيانو النقيّة في الفلاش باك بموسيقى إكزوتيكا الّتي تنذر باغتراب الروح، ويبزغ الفارق جليًا كذلك بين نسختي إريك وكريستينا القديمتين والحديثتين، إذ يتلاشى قبس البراءة لينتصبا في العراء خيالين داكنين، يتطاير بينهما مكان الأُلفة والكلام شررٌ من النظرات والصمت التام. لقد وجد إريك لنفسه ولكريستينا الأساس أو النظام الّذي كان يرغب في إيجاده، نظامًا لا يُخشى فيه تساقط أيام الزمن لأنّه لا يستمد أي قيمة من الزمن، فهو منغلق على نفسه وأعضائه الّذين يداومون على تكرار كل ما يفعلونه.

كما عبّر الفيلم عن الاغتراب بالصورة نجده يعبّر عنه صوتيًا كذلك، بدءًا من موسيقى ميشيل دانا التصويرية (سيتحصل على الأوسكار لاحقًا عن فيلم حياة باي) الّتي تمزج آلات شرقية مثل العود والفلوت الأرميني بالآلات الغربية المعهودة في المجتمع الكندي، كما لا يمكن إنكار دور الأصوات التمثيلية والغنائية، انطلاقًا من أغنية ليونارد كوهين الّتي تؤدي عليها كريستينا عرضها الراقص في كوريوجرافيا جامدة وباهتة، تلائم كلمات الأغنية وطريقة إلقائها.

إنها المقاربة الصوتية في تعرية الحقيقة، وبصوت عارٍ ومتجرّد عن المشاعر الإنسانية. لا يمكن كذلك التغاضي عن أصوات الممثلين المميّزة، صوت إريك (إلياس كوتياس) هو ما سيتم التحدث عنه داخل النص صراحةً حينما تخبره كريستينا بأنه «عليه أن يفعل شيئًا بصوته» في عبارة تصدح وكأنها لعنة لأنها حينما تقال نكون على علم بما يفعله إريك بصوته الآن، آرزين خانجيان الّتي تؤدي دور زوي (وهي زوجة آتوم إجويان وشريكته في كل أفلامه تقريبًا) تتميّز بصوتٍ عميق من الصعب عدم ملاحظته، كذلك بروس جرينوود في دور فرانسيس (اشتهر مؤخرًا بعد أداء دور البطولة في مسلسل مايك فلاناجان سقوط منزل آشر) يتميّز بصوتٍ عميق ورخيم، إنها مجموعة أصوات منتقاة بعناية كما يبدو لتحقيق هدف واحد، البوح بحقيقة الاغتراب.

 ظاهرة أخرى تعبّر عن الاغتراب الروحي يبدو أن إجويان اهتمّ بها عبر مسيرته هي تغييم التواصل الإنساني عبر محطات بينية أو حلقات وسطى متمثلة في وسائل التواصل التكنولوجية المختلفة، فقد ناقش في فيلم «الأجزاء المتكلمة» (خمس سنوات قبل إكزوتيكا) هوس الناس بتسجيل ذكرياتهم على شرائط الفيديو، وكسلهم في حضور الاجتماعات الحقيقية واستيعاضهم عنها بالمحادثات عبر الفيديو، بل ربما يعد «الأجزاء المتكلمة» من أوائل الأمثلة الّتي تطرّقت إلى الجنس السيبراني حينما صوّر عملية جنسية تتم بين رجل وامرأة عبر شاشتين وكاميرتين، ولكن على كل حال فإن التواصل التكنولوجي في «الأجزاء المتكلمة» كان تفاعلًا متبادلًا على الأقل.

أما في «إكزوتيكا» فقد هبط درجة أكثر اغترابًا، إذ أن التواصل عبر الشاشات لم يعد تفاعلًا بأي شكل من الأشكال، وإنما أضحت الصورة تمر في اتجاه واحد دون الآخر، مثل المرايا ذات الوجهين الّتي يستعرضها الفيلم في المطار وفي النادي الليلي، من يقف على ناحية يَرى ولا يُرى، ومن يقف على الأخرى يُرَى ولا يَرى.

 ومثل ذكريات فرانسيس مع ابنته الّتي يحتفظ بها على شريط فيديو فيما يشبه التواصل مع الماضي، والّذي هو -بالتعريف والضرورة- علاقة أحادية الاتجاه، تمثلت أيضًا في احتفاظ فرانسيس بتريسي جليسة ابنته وإبقائه على علاقته بها رغم عدم وجود شخص لتجالسه الآن، ومثل تجسس فرانسيس عبر اللاسلكي لمحادثة توماس وكريستينا، المكافئ الصوتي للمرايا ذات الوجهين، فيما يمكن اعتباره أحد أروع مشاهد الفيلم، وأكثرها تعبيرًا عن مفهوم الاغتراب، إذ سمع فرانسيس في هذا المشهد قصة حياته كأنها قصة شخص آخر، لقد سمع فرانسيس حكايته لأول مرة، تمامًا كما سمعناها كمشاهدين لأول مرة في هذا المشهد. وإذا كان التواصل في حالة مترديّة في «إكزوتيكا» عما كان عليه في «الأجزاء المتكلمة»، فإنه سينعدم تمامًا في «رحلة فيليشيا» (خمس سنوات بعد إكزوتيكا) إذ أن فيليشيا لن ترى حبيبها مطلقًا.

 يناقش آتوم إجويان الرغبة والهوس في كل أفلامه تقريبًا، وكما تقول العبارة التي صاحبت بوستر إكزوتيكا «في عالم من الإغراءات، الهوس هو الرغبة الأكثر فتكًا» فشخصيات إجويان غارقة في الهوس لأخمص قدميها، مثل هوس ليزا بزميلها في الفندق في «الأجزاء المتكلمة»، ومثل علاقة سام المحرمة بابنته في فيلم الآخرة العذبة The Sweet Hereafter (1997)، وإن كان قد صُوّرت الرغبة سينمائيًا بالفعل بشتى الطرق، فإن إجويان يتميز بتمثيل الرغبة داخل عباءة ميثولوجية أو إلهية أو مؤسسية.

يستعرض الفيلم الرغبة وسط رمزيات دينية، فعندما يخاطب إريك الزبون (فرانسيس أو توماس) في دورة المياه، يذكرنا هذا المشهد بطقس الاعتراف الكنسي، إذ أن الخاطئ ينحبس في كابينة مغلقة محجوبًا عن مخاطبه، ولكن يجوز اعتداده اعترافًا كنسيًا عكسيًا إن جاز التعبير، عكسيًا من ناحية لأن القس (إريك) هو من يخبر الزبون بخطيئته، وعكسيًا من ناحية أخرى لأن الخطيئة لم تُرتكب بعد، وإنما ستُرتكب لاحقًا، بعد الاعتراف وليس قبله.

رمزية دينية أخرى هي الببغاء الذي نراه في بيت تريسي ونراه في ملهى إكزوتيكا والذي يهرّب توماس بيضه، هو الطائر الذي أُعتبر في عصورٍ قديمة معجزة إلهية لما يتحلى به من قدرة على الكلام ومحاكاة الإنسان، ثم صار فيما بعد رمزًا مسيحيًا يبزغ في اللوحات بجانب السيدة العذراء رمزًا لأمومتها العذرية.

إن ألسنة الببغاوات التي لطالما رؤيت كلماتها بمثابة حضورٍ علويّ قد سكتت حسب كلام هارولد، ليس لأنها نسيت أو فقدت قدرتها وإنما لأنها لم تعد تهتم أو لم تعد تجد معنًى، وهو ما يمكن فهمه في ضوء الموت النيتشوي للإله، أو في ظل الاغتراب الّذي يعانيه الإنسان المعاصر.

إن ملهى إكزوتيكا- باعتباره معبدًا للرغبة- له بنية مؤسسية أو ميثولوجية مهيبة، إنه مكان ذو حضور إلهي أو شيطاني، تدرك كريستينا أن علاقة إريك بالمالكة زوي هي في حقيقتها تعاقدٌ من الطراز الفاوستي في سبيل أن تنجب وريثًا ليتملّك المكان، ذاك المعبد المنتصب في ضواحي تورونتو، والّذي لا نرى سوى شريط ضيّق من تاريخه، لأنه على ما يبدو قد حظى بماضٍ دسم مع والدة زوي، وها قد اكتسب مستقبله بحملها (من الجدير بالذكر أن الممثلة آنزين خانجيان كانت حاملًا في الحقيقة وقت تصوير الفيلم) وعلى صعيد تصميم المكان فإن الحضور المتعالي متجلٍ بشدة، في الطاولة الّتي تقبع على ربوة عالية، يعتلي مقعدها المقدّم الّذي تنكشف له بذلك طاولات الزبائن من تحته، بينما يتجلّى أمامه الببغاء رمز الإعجاز الإلهي رابضًا على الطاولة، يتكرر هذا التصميم في أفلام إجويان، فهو مشابه لتصميم هيئة الرقابة السينمائية في فيلم «الضابط»، حيث يجلس المدير معتليًا القمّة، بينما يقبع الأعضاء الموظفون في أسفلٍ منه، إنه نموذج برج البانوبتيكون في المراقبة الّذي صممه الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بنثام، في عصرٍ قد بدأت فيه المؤسسات لعب دور الإله واقتباس فكرة الرقيب المتعالي عن الميثولوجيا والأديان، وفيلم «إكزوتيكا» حافلٌ بأنواع المراقبة، سواء العتيقة المشابهة لبرج البانوبتيكون، أو الأكثر حداثة على نهج أخ جورج أورويل الأكبر، مثل التنصت الراديوي والمرايا ذات الوجهين.

يتميّز الطابع المؤسسي للرغبة في أفلام إجويان بعنصرين صارمين هما القواعد والأكواد أو البروتوكولات، فإن الرغبة تبقى في إطارٍ آمن إذا اتبعت القواعد، لكن حينما تكسر القواعد ستصير في عداد الهوس، الّذي هو الرغبة الأكثر فتكًا في عالم مملوء بالإغراءات، مثلما خرقت هيرا القواعد في فيلم «الضابط» بتسجيلها مقاطع من المادة المعروضة على الرقابة، ومثل فرانسيس في «إكزوتيكا» حين لمس كريستينا ومثل توماس الّذي كشف في إحدى نزواته عن البيض المهرّب، ليتضح لاحقًا أن نزوته تلك كانت مع الضابط الجمركي الّذي استفاد من نصيحة رئيسه الّتي افتتحت الفيلم. أما الأكواد أو البروتوكولات فهي ما تغلّف الرغبة بإطارٍ نظامي، أو هي ما تشكّل اللغة الّتي يتحدثها سكان عالمها، وحين تنكشف معانيها في الفصول الأخيرة من الفيلم يصطدم المتلقي بشيءٍ من لغة العالم الّذي سكنه لمدة العرض، مثلما انكشف في النهاية أن عبارة إريك المعتادة عما يمنح فتاة المدرسة طابعها المميّز هي في حقيقتها شفرة استدعاء كريستينا، ومثلما تبيّن في نهاية فيلم «رُزنامة» أن المكالمات الحميمية الّتي تجريها الممثلات هي في الحقيقة مشاهد ممسرحة كأجزاء من المقابلات واختبارات الأداء.

 حين يغري إريك فرانسيس بلمس كريستينا، ليخترق بذلك قواعد إكزوتيكا مرتكبًا الخطيئة الّتي سيطرده بسببها إريك نفسه، سيحارب فرانسيس من أجل العودة إلى إكزوتيكا، المكان الّذي يمثّل له القيمة الوحيدة المتبقية في حياته، سيستغل توماس في حبكة التنصت اللاسلكي، وحينها سيعلم حقيقة الخديعة الّتي تعرّض لها ليطلب مقابلة زوي المالكة، فيخبرها بأنه لا يقدر على الاستغناء عن هذا المكان، تدرك زوي أن فرانسيس يتخذ إكزوتيكا كمكان للعلاج أو لتعويض المأساة في حياته، وترفض هي هذه الفكرة بداعي أن إكزوتيكا هو مكان للإستمتاع وليس العلاج، وتعرض على فرانسيس توفير أماكن بديلة ولكنه يرفض ويصر على عودته إلى إكزوتيكا. يمثل الحوار بين فرانسيس وزوي منظورين متعاكسين للرغبة، الرغبة الفرويدية الأوديبية التي يوجدها التحليل النفسي لتسد نقصًا أو خوفًا أو عيبًا، والرغبة الدولوزية (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز) حين تصبح الرغبة حركة أو فعلًا بذاتها، وتتحرر من كونها رد فعل نفسيًا.

رغم أن فرانسيس قد عوّض شيئًا من اغترابه بسماعه لقصته على لسان كريستينا، ثم بقصّ مأساة ابنته ومأساته مع زوجته وأخيه على توماس، فإنه يستمر في جنونه ويرغب في قتل إريك الذي حرمه من القيمة الوحيدة في حياته، فينتوي قتله، ويلتقط مسدس والد توماس في سبيل ذلك، ويبدو الاغتراب هنا متمثلًا في عدم إدراك الإنسان لعمومية الآلم، لأن حينما سيلتقي فرانسيس بإريك سيدرك أنه هو من عثر على جثة ابنته من ضمن فريق المشاركين في البحث على التلّة الخضراء، فيحتضنه فرانسيس ممسكًا بالمسدس الذي كان قد عزم على قتله به. ربما تمثل هذه اللقطة إدراك الإنسان لحقيقة الآخر من حيث هو آخر، واجتيازه جدار الاغتراب الفردي الذي يعانيه الفرد في البيئة الكندية رغم تعدد ثقافاتها وأعراقها. يختتم الفيلم بعدها بفلاش باك آخر ندرك فيه أن كريستينا كانت في الماضي جليسة لابنة فرانسيس، وأن في عصرٍ أنقى وأكثر طيبة رأت فيه مثلًا تتمنى لوالديها لو كانا مثله، وهو بدوره رأى فيها ابنة كذلك.

ينتهي الفيلم بعدما يوصل فرانسيس كريستينا لمنزلها، لتجتمع بهذا كل قطع البازل الّتي ألقاها الفيلم على شخصياته، يكتمل الطريق الّذي رسمه الفيلم حين تدخل كريستينا المنزل وتتلاشى بداخله، تعبّر الموسيقى التصويرية عن اكتمال الطريق ذاك بدخول الموسيقى الأوركسترالية على الثيمة الرئيسية للفيلم، وكأنّ الأنين الّذي لطالما سكت قد آن له أن يخرج، أو أن الأعين الجافّة قد آن لها أخيرًا أن تبكي في أصوات الوتريات، تنتهي الموسيقى الأخيرة (بعنوان الرحلة إلى المنزل) بأصوات أو ابتهالات بشرية قد تعبّر عن بلوغ الإنسان للحقيقة بتجلّيها العلوي، وهي صوت أذان إسلامي مشرقي واضح في نسخ المواقع الموسيقية الرسمية المختلفة، غير أن أُستبدلت بها أداءات صوتية شرقية أخرى في نسخة الفيلم الّتي بين أيدينا الآن لسبب مجهول.

مثل رحلة الإنسان الغريب في داخل ذاته، إكزوتيكا هو بدوره فيلم غريب، قد لا يحدث الأثر في المتلقي مباشرةً لكنه قد يعود ليجبره على العودة إليه، أو التفكّر في ماضيه ومستقبله، أو تخيل حيوات شخصياته قبل أحداثه وبعدها. إكزوتيكا هو فيلم حزين رغم أنه لا يبكي، ومؤلم رغم أنّه لا يئنّ، وكابوس لكنه لا يراهن على فزع المتلقّي في أي نقطة على وجه التحديد من زمن عرضه، وإنما هو حزين كذكرى فائتة يصعب استرجاعها على العقل أكثر من حدوثها نفسه، وهو مؤلم كأنين خافت يتسرّب تحت الجلد تدريجيًا، ومفزع في أنّه يأتي بالكثير ولكنه لا يقول شيئًا في الوقت ذاته، تمامًا كالببغاوات الّتي سكتت، ليس لأنّها نسيت أو عجزت، بل لأنّها لم تعد ترى المعنى بعد الآن.

Visited 22 times, 1 visit(s) today