أوراق سان سباستيان (7): أهمية هذا المهرجان ومهرجانات السينما عموما
أمير العمري- سان سباستيان
يعتبر مهرجان سان سباستيان واحدا من أهم مهرجانات السينما في العالم وأكثرها حسن تنظيمِ وتأثير، خصوصا في الجزء الناطق باللغة الإسبانية من العالم إلى جانب حضوره الأوروبي المؤثر. وهو يستقطب سنويا منذ تأسيسه في عام 1953، عشرات الآلاف من أفراد الجمهور، وبضعة آلاف من الصحفيين والنقاد ورجال الصناعة السينمائية.
هذا العام مثلا استقطب المهرجان 182 ألف متفرج اشتروا تذاكر لمشاهدة أفلام المهرجان التي تجاوز عددها 200 فيلم، في جميع الأقسام، كما حضر المهرجان نحو 1100 صحفي وناقد يمثلون نحو 600 وسيلة إعلامية بين صحف ومجلات ومواقع ومحطات تليفزيون. أما عدد الحاصلين على بطاقات للمشاهدة الذين تم تسجيلهم في المهرجان فبلغ نحو 6 آلاف شخص من السينمائيين والمنتجين والموزعين ومسؤولي المهرجانات، كما يمنح المهرجان بطاقات لعدد من شباب المدارس والمعاهد الفنية والجامعات.
هذا المهرجان واحد من بين عدد قليل من مهرجانات السينما التي تنتمي إلى الفئة الأولى (A) من طرف الاتحاد الدولي لمنتجي السينما (الفياف) وهو الجهة التي تصنف المهرجانات السينمائية في العالم، وتمنحها الاعتراف الدولي مما يفتح المجال أمامها لتنظيم مسابقات دولية ذات قيمة ومعترف بجوائزها، كما تشجع شركات الإنتاج العالمية على المشاركة بأفلامها طالما أن المهرجان يحترم الأفلام ويعرضها كما يشاء لها أصحابها، كما أن مهرجان سان سباستيان معروف بدفاعه عن حرية التعبير الفني.
في أوائل الخمسينيات كان نظام الجنرال فرانكو يريد إعادة صياغة صورة إسبانيا دوليًا – للانتقال من دولة فاشيّة معزولة إلى حضور ثقافي أكثر “احترامًا” في الغرب خلال فترة الحرب الباردة. لذلك رحب بظهور المهرجان عام 1953 لكي يستخدمه كواجهة للانفتاح الثقافي الإسباني، حتى مع خضوعه لرقابة مشددة. وكان يُنظر إلى السينما كأداة للقوة الناعمة، وكانت المهرجانات فعاليات عالمية تُعزز المكانة الدولية، تماما كما سبق أن كان الديكتاتور الفاشي الإيطالي موسوليني وراء تأسيس أول مهرجان سينمائي دولي في العالم وهو مهرجان فينيسيا الذي أصبح جزءا من بينالي فينيسيا الدولي للفنون منذ عام 1932.
وبالتالي ساهم مهرجان سان سباستيان في تعزيز صورة إسبانيا “الودية” أمام الزوار والصحفيين الأجانب. كما ساهم في الترويج الاقتصادي والسياحي لمدينة سان سباستيان، في إقليم الباسك، كمدينة سياحية راقية، وهو ما يتسق مع رغبة النظام وقتها في جذب السياحة ورأس المال الأجنبي، وخاصةً من فرنسا ودول أوروبية أخرى.
في السنوات الأولى، ضمنت الرقابة الصارمة عرض الأفلام التي تتسق مع قيم النظام: ولذلك تم حظر كثير من الأفلام الأجنبية أو حذف بعض لقطاتها، خصوصا ما يتعارض مع القيم الكاثوليكية أو القومية الإسبانية، أو سلطة فرانكو.

كان القائمون على المهرجان حريصين على تجنب المحتوى “الإشكالي”. وكان من الممكن أن تتأثر الجوائز بالسياسة- فكانت الأفلام المؤيدة للإسبان أو الكاثوليكية تتمتع بفرصة أفضل للفوز. ولكن مع مرور الوقت، في أواخر الخمسينيات ثم الستينيات- ازدادت مكانةً المهرجان وبدأ يكتسب مصداقية بفضل ضيوفه البارزين وعروضه الأولى. ومن حضور كبار الشخصيات السينمائية التي استضافها من أمثال: ألفريد هيتشكوك، وأفا غاردنر، وكيرك دوجلاس، واليزابيث تايلور، وتوني كيرتس، وجين سيبرج، وجينا لولوبريجيدا، وكاترين دينيف، وجوزيف مانكويتش، وفيلليني، ولويس بونويل وروبرت الدريتش، وجوزيف لوزي، وأندريه فايدا، وأوتو بريمنجر، وأودري هيبورن، وبيتي ديفيز، وميريل ستريب.. إلخ
وفي حقبة السبعينيات، ومع تصاعد التوترات السياسية مع بلوغ إسبانيا السنوات الأخيرة من حكم فرانكو، بدأ المهرجان يتجاوز الحدود. فعُرضت أفلام مثيرة للجدل، مما أثار صراعات مع الرقابة. وبدأ صناع الأفلام والنقاد والجمهور في التمرد، وانتقدوا النظام علنًا في بعض الأحيان. وبعد سقوط نظام فرانكو في 1975 بعد وفاته، رُفعت الرقابة وأصبح المهرجان منارةً لحرية التعبير، ومنصة لا مثيل لها في العالم، بالنسبة للسينما الإسبانية وسينما أمريكا اللاتينية. ولعل من أهم مميزات المهرجان، اهتمامه الكبير بتخصيص مسابقة خاصة سنوية لأفلام المخرجين الشباب الجدد لاكتشاف المواهب الجديدة، وكذلك قسم أفلام أمريكا اللاتينية، إلى جانب المسابقة الدولية والعروض الأولى لعدد كبير من الأفلام التي يتم تدشينها للتوزيع الأوروبي من بوابة سان سباستيان.
أهمية المهرجانات الدولية وما يجب أن تكون عليه
من الخصائص التي يجب توافرها في أي مهرجان دولي لكي يحظى بالتقدير والاحترام في العالم، أن يلتزم بالمعايير الدولية في العروض، ويحترم الأفلام وصناع الأفلام ولا يقوم بحجب مشاهد منها أي لا يخضع الأفلام للرقابة، وأن يتمتع ببنية أساسية جيدة صالحة (شاشات ودور عرض صالحة، تتوفر لها دورات مياه جيدة، وأجهزة عرض جيدة مناسبة لعرض مختلف الفورمات، مع مستوى ممتاز من الصورة والصوت، ومقاعد جيدة، وإمكانية تنظيم عدة عروض للفيلم الواحد (في المتوسط 4 مرات) وليس الاكتفاء بعرض وحيد أو عرضين فقط، وأن تُخصص عروض للنقاد والصحفيين، ووجود مركز صحفي يعمل ويكون المسؤولون عنه على معرفة بالسينما في العالم، وبالصحافة الدولية والمحلية، ويضم طاقما محترفا مدربا.
وفضلا عن هذا كله، يجب أن يكون رئيس المهرجان ومديره الفني، على معرفة بصناعة المهرجانات وبثقافة السينما عموما وأن يكون لهما خبرة جيدة في هذا المجال، بعيدا عن النجومية التي تتصف بالصلف والتفاهة وقلة الذوق في التعامل مع الضيوف والنقاد ولا تقدر قيمة النقد، بل تعاقب الناقد على رأيه وعلى ما يكتبه، وتشجع أنصاف الصحفيين الذين يطبلون لرئيس المهرجان وينافقونه، وتفرض قيودا سخيفة على المشاركات وتشارك في شبكة الفساد التي تسمح بمنتجي بعض الأفلام المحلية التي تقبلها نتيجة حسابات معينة وبعد قبض المعلوم من أصحابها، بشراء القسم الأعظم من تذاكر العروض لحساب أنصارهم الذين يحضرون بأطفالهم للتصفيق والتهليل للفيلم ومنتجيه ونجومه. وأنا أكتب هذا وفي ذهني أمثلة محددة على ذلك. كما يجيب عدم وجود تعارض مصالح، أي ألا يكون هناك من لديهم مصلحة مباشرة في عرض أو تلميع فيلم ما، لتداخله في الإنتاج أو الترويج.

في الوقت نفسه، يجب أن يتمتع أي مهرجان محترم بالقدرة على المنافسة وعلى جذب الموزعين المحليين في الداخل لشراء حقوق توزيع الأفلام الأجنبية الجيدة التي تكسر احتكار الفيلم الأمريكي السائد، والقدرة على الترويج للفيلم المحلي، والاهتمام بعرض أحدث الأفلام المحلية مع الكلاسيكيات المميزة المرممة، والعمل على الترميم الحقيقي للأفلام بالاشتراك مع المؤسسات الدولية، وعلى أسس علمية حديثة مدروسة، وهو دور يقوم به الآن كثير المهرجانات الكبرى في العالم، وبذلك تسدي خدمة عظيمة لتاريخ السينما.
ويمكن القول إن الغالبية العظمى من المهرجانات التي تقيمها مؤسسات رسمية في العالم العربي وتسند إدارتها إلى “أهل الثقة” وليس “أهل الخبرة والمعرفة والعلم” هي مهرجانات لا ينطبق عليها كل ما ذكرناه سالفا، فهي ليست منصات لحرية التعبير وحرية الرأي وفتح المجال أمام الأفلام الطليعية المتخلصة من القوالب النمطية السائدة وتشجيع إنتاجات الشباب، وبالتالي احترام التعبير السينمائي والسياق النقدي، بقدر ما هي منصات دعائية للحكومات والأنظمة الرجعية والديكتاتوريات الحاكمة بأشكالها المختلفة.
وفائدة المهرجان لجمهور البلد الذي يقام فيه تتمثل أساسا في اطلاعه على أحدث الأفلام العالمية وإدارة نقاش جدي حولها، وفتح المجال أمام توزيع عدد من أفضلها في الداخل وكذلك تشجيع الإنتاج المشترك وعقد صفقات شراء الأفلام بين المنتجين والموزعين. كما أن المهرجان يتيح الفرصة لاستعادة مشاهدة الأفلام على الشاشات الكبيرة مع جمهور من عشاق السينما يتفاعل مباشرة مع الفيلم، وهو ما يعيد للسينما سحرها القديم الذي تهدده وسائل المشاهدة الحديثة الانعزالية.
والمهرجان بالنسبة للنقاد يتيح المجال أمامهم لمشاهدة الأفلام على الشاشات الكبيرة كما يجب، ويتيح لهم فرصة الاحتكاك مع بعضهم البعض من مختلف الثقافات، واكتشاف الجديد من الأفلام الطليعية التي لا تتوفر في شبكات العرض الرئيسية الكبرى في العالم، وبالتالي القدرة على التعامل معها الأمر من خلال النقد وتسليط الأضواء، مما يتيح أمامها المجال للتوزيع في الأسواق المختلفة وشبكات التليفزيون العالمية، وهو ما يقدم فائدة عظمى للمخرجين الشباب الذين يتطلعون الى استكمال العمل في أفلام جديدة بعد العمل الأول. كما يعيش الناقد السينمائي أيضا أجواء العرض السينمائي على الشاشات الكبيرة، كما يجب للفيلم أن يعرض، وليس على شاشة الكومبيوتر المنزلي أو التليفزيون.

من الأفضل كثيرا أن تكون المهرجانات مؤسسات مستقلة تحصل على دعم حكومي دون التدخل المباشر في عملها ومساراتها واختياراتها، ولكن إذا كان هذا يمكن أن يتوفر في البلدان التي تتمتع بمؤسسات ديمقراطية، فمن الصعوبة بمكان أن يتحقق هذا في الدول السلطوية المحكومة بنظم قد لا تسمح بوجود مؤسسات مستقلة عن السلطة.
كان هناك مهرجانان ناجحان يوفران الكثير من السمعة الجيدة والدعاية الممتازة لدولة الإمارات العربية المتحدة هما مهرجان دبي السينمائي، ومهرجان أبوظبي السينمائي. ولكن قرارات علوية صدرت في أوقات متقاربة بوقف المهرجان الأول ثم الثاني دون إبداء الأسباب، وهكذا قتلت تجربتان كانتا تحققان هامشا لا بأس به من النجاح. وهو مثال مؤسف بالطبع على التدخل العلوي، يوضح طبيعة المشكلة التي ليس من الممكن تصور حدوثها في مهرجانات أوروبية مثلا، فمهرجان برلين يقام بشكل متواصل دون أي توقف منذ عام 1951، ومهرجان لندن منذ عام 1957، ومهرجان كان مذ 1946، ومهرجان لوكارنو منذ 1946، وهكذا. وكلها مؤسسات مستقلة ترعاها الدولة (أو الحكومة) مع تغير وتعاقب الأحزاب التي تحكم وتدير البلاد.
وهو ما كان.. وما يجب أن يكون.
أرجو في النهاية أن يكون هذا المقال مادة للمناقشة أمام من يريد أن يساهم في ترسيخ أفكار جديدة بعيدة عما هو سائد من أفكار مغلوطة حول المهرجان السينمائي عموما، والمهرجانات التي تقام في بلادنا العربية بوجه خاص.
