أوراق سان سباستيان (5): “أنشودة لاعب صغير”
كولن فاربل في دور "لود دويل" اللباعب الصغير
أمير العمري- سان سباستيان
كنت أتطلع في شوق كبير، لمشاهدة الفيلم الجديد للمخرج السويسري- النمساوي “إدوارد برجر” الذي سبق أن أدهشنا بفيلميه الكبيرين “كل شيء هاديء في الميدان الغربي”، ثم في الفيلم الذي تجاوزه كثيرا من الناحية الجمالية، أي تحفته المصممة بعناية “الاجتماع المسكوني” أو “المجمع المقدس” Conclave.
وكما كان لديه في “المجمع المقدس” ممثل من أفضل أبناء جيله هو رالف فاينس، أسند بطول فيلمه الجديد إلى كولن فاريل الذي لا يقل موهبة عن ابن عصره “فاينس”. وكما كان “المجمع المقدس” مقتبسا عن عمل أدبي هو رواية روبرت هاريس، استند “أنشودة لاعب صغير” إلى رواية لورانس أوسبورن (2014) المحملة بالأفكار الفلسفية والتي قورنت بروايات جراهام جرين وديستويفسكي، ولكن الفيلم الذي تدور أحداثه في ماكاو الصينية، التي أصبحت أحد أكبر مراكز القمار في العالم، وقيل إن حجم استثمارات القمار فيها يبلغ سبعة أضعاف الموجود في لاس فيغاس الأمريكية، جاء على نحو مختلف عما توقعناه!
أجواء القمار وشخصية المقامر الذي ينجرف وراء رغبته المرضية في المقامرة ولو بالاقتراض والسرقة والاحتيال والتظاهر بغير الحقيقة، كلها جوانب سبق أن شاهدناها في أفلام أخرى شهيرة، أتذكر منها بشكل خاص- فيلم “المقامر” The Gambler (1974) للمخرج كاريل رايز الذي قام ببطولته الممثل الأمريكي الراحل جيمس كان، وكان مقتبسا عن رواية ديستويفسكي الشهيرة.

أما “أنشودة لاعب صغير” فهو يبدو أكثر، كاستعراض شكلاني لماكاو بناطحات السحاب العملاقة فيها، وفنادقها اللامعة، كازينوهات القمار الشاسعة ومناظرها الغريبة المصنوعة صنعا بغرض الإبهار. والحقيقة أن إدوارد برجر لا يكف عن الدوران من حولها جميعا، بكاميرا مدير التصوير الألماني البارع جيمس فريند (الذي صور له “كل شي هاديء”) ولكن الصور تبتلع في جوفها بطلنا، أي ذلك اللاعب الصغير أو الذي يفترض أن يكون كذلك، وهي صور تبدو مقصودة في حد ذاتها لكي تقول لنا إن هذا العالم مصطنع، فاقد الروح، أو يعاني من ضياع الروح، في مقاربة مقصودة مع سنسمعه فيما بعد على لسان فتاة صينية شابة جميلة هي “داو مينج” (فالا تشين) التي تكتشف أن بطلنا الذي يطلق على لنفسه اسم “لورد دويل” (كولن فاريل)، هو “روح ضالة”، وتنجذب إليه لهذا السبب، ربما لأنها تريد ان تنقذه من نفسه. إلا أن مثل هذا “الاكتشاف” لا يمكن أن يعد اكتشافا بالنسبة لفتاة تعمل في كازينو للقمار، مصرح لها بأن تقرض المقامرين الزبائن إلى أن تغرقهم في الديون. ولكنها بعد انتحار أحد هؤلاء الذين أفلسوا وتراكمت ديونهم، تقرر أن تهجر العمل وتبتعد في شقتها التي تقيم لفيها بمفردها أو ذلك الشاليه الصغير الرائع الذي يقع في جزيرة قريبة. وستصبح داور مينج، “الروح” الوحيدة وسط هذا الجو العفن رغم لمعانه من السطح، وهي ستجذب صاحبنا وتجعله يبحث عنها في جنون، كما لو كان يتشبث بها باعتبارها طوق النجاة الوحيد بالنسبة له، ولكن إدمانه سيدفع به أيضا إلى “خيانتها” على نحو ما، أو بالأحرى، سرقة مدخراتها جميعا على أمل أن يعود ويقامر ويربح ويعوضها- شأن كل تطلعات المقامرين!

لورد دويل مجرد محتال صغير رغم أنه يقيم في جناح فخم كثيرا جدا في أحد فنادق الدرجة الأولى في ماكاو. ولابد أن يكون قد ربح الكثير من المال من القمار لكي ينزل في فندق كهذا، خصوصا وأن جناحه يمتليء بزجاجات الشمبانيا الفارغة، التي يصر على أن تكون دائما من أرقى الأنواع. ولكن لابد أن قدراته المالية كانت قد تبدت قبل أن يبدأ الفيلم، ومع ذلك فهو يقول لنا في البداية عن طريق التعليق الصوتي من خارج الكادر- أنه “أجنبي” في هذا البلد، ويتمتع بالتالي بالقدرة على فعل أي شي، ولا أحد يمكنه أن يراه، لكن الحقيقة أن الجميع يرونه ويعرفون جيدا مأزقه، ومدير الفندق يهدده بإبلاغ الشرطة إن لم يسدد ما عليه من ديون بلغت عدة آلاف مؤلفة من الدولارات. وعندما ينجح في التسلل من جناحه يجد أمامه في إحدى ردهات الفندق، امرأة غريبة الأطوار، ليست أقل من تيلدا سوينتون، بعد أن صبغت شعرها بلون منفر، وتركت شعرها مهوشا، ووضعت على عينيها نظارات بلاستيكية نحيفة وردية اللون، مثل نظارات الأطفال. وهي موفدة من طرف المؤسسة المالية التي اقترض منها صاحبنا ما يقارب المليون جنيه إسترليني في لندن، وهرب بعد أن عجز عن السداد، وغالبا أيضا، صور أنه قضى نحبه بطريقة ما.

كيف أمكنه أن يفعل ذلك؟ لا نعرف، وربما ليس مهما أن نعرف، فطرق الاحتيال كثيرة. لكن هذه المرأة (بيتي) تريد الحصول على صورة له تثبت بها وجوده في ماكاو وأنه لم يمت، وهي ستمنحه 48 ساعة لسداد المبلغ وإلا أبلغت الشرطة التي ستقوم بترحيله من البلاد. ومع ذلك فسرعان ما تبدو بيتي مشدودة بطريقة غامضة إلى شخصية هذا المقامر المحتال، ربما هي لا تصدق وجود أمثاله في هذا العالم، فهو مقدام يغامر بآخر قرش معه، بل ويصر على اقتراض مبلغ 500 دولار منها على وعد بأن يسدد لها أضعاف ذلك. ولكن المؤكد أن شخصية بيتي مثل شخصية لورد دويل، شخصية سطحية غير مدروسة في السيناريو، فوجودها في الفيلم لا يدفع بالأحداث في أي اتجاه بل وسرعان ما ننساها لفترة طويلة قبل أن نعود إليها.
سيكسب صاحبنا كثيرا بعد سلسلة خسارات متتالية، لكن كل شيء سيضيع بعد أن تتحطم الروح الضالة تماما. ما الذي حدث وكيف وقع له هذا التحول، من الطلبية المطلقة التي لا تحول دون أن يسرق كل مدخرات “داو مينج” الرقيقة ليقامر بها ثم يندم ندما شديدا عنما يعلم بانتحارها.
ما الذي يمكننا أن نتواصل معه في سياق هذه القصة التي صاغها روان جوفيه في سيناريو ضعيف، يبتعد عن الجوهر بقدر ما يغرق في الشكل، أي أنه يقدم الشخصية بحيث تبدو من دون أي أبعاد غير البعد الأحادي التقليدي السطحي الذي نراه في شخصية مقامر كثل كثير من المقامرين غيره. من هو، ومن أي جاء بالضبط، وكيف أصبح على ما أصبح عليه، ولماذا يغامر في بلد غريب بالقبض عليه، وكيف استطاع أصلا اقتراض كل ما اقترضه من مال، وماذا حدث لكي يصاب بنوبة قلبية، وما الذي يدفع “داو مينج” حقا للوقوع في حبه، ثم ما الفاصل بين الحقيقة والخيال هنا، أي ما الذي يدفع القائمين على الكازينو إلى منعه من اللعب وإبلاغ جميع أماكن القمار في ماكاو بحقيقة أمره، بعد أن أصبح فجأة لا يمكن أن يخسر أبدا على مائدة القمار، ويقولون له بكل جدية- إن هناك شبحا يقف وراءه يلقنه ويطلعه على الأوراق الرابحة. ما حقيقة هذا الشبح، وكيف أصبح موجودا فجأة هذا إن كان له وجود أصلا، وإن كانت اللعبة تقوم على المزج بين الحقيقة والخيال، فعنصر الخيال يكاد يكون مفقودا تماما في هذا الفيلم.

لا ينجح الانتقال المستمر في حركات دائرية ولولبية بالكاميرا، في أرجاء الأماكن الغريبة من ماكاو المبهرة، في جعلنا نقترب من المغزى المراد من وراء تصوير هذه الشخصية السطحية في فيلم لا يقول لنا شيئا في نهاية الأمر.
في أحد المشاهد مثلا نرى هذا المقامر الذي نعرف أيضا أن له اسما آخر غير الاسم الأرستقراطي المزعوم الذي يطلقه على نفسه، يجلس في مطعم، يلتهم عشرات الأطباق من الأطعمة المختلفة، يحشرها حشرا في فمه، بطريقة مقززة، كما لو أنه يريد فجأة أن يلتهم العالم أو ينتقم لشعور قديم عارم بالجوع. أو ربما هو التعبير الفج عن “الجشع”. كلها استنتاجات لا تؤدي بنا إلى شيء.
والنتيجة أن “أنشودة لاعب صغير” يضيع في طيات سيناريو، لم ينجح في الوصول قط، إلى روح وجوهر العمل الأدبي الأصلي، ولا في صياغة “رؤية” جديدة لفكرة إدمان المقامرة، فليس بوسعنا التعاطف من أي زاوية- مع هذا المحتال المتباهي بذاته وبقدراته الخاصة على أن يهزم العالم.
هناك جهد كبير في الإنتاج، وتصميم المناظر، والتصوير المبهر، والأداء التمثيلي المرهق من جانب كولن فاريل، الذي بذل جهدا كبيرا في محاولة أن يضفي شيئا أعمق على الشخصية، ولكن من دون جدوى، بل إن ظهوره في جميع المشاهد، أصبح في وقت ما، عبئا على الفيلم نفسه. كما أن اللهاث المستمر، والدوران حول الذات، من دون أدنى محاولة للتوقف ومساءلة الذات ولو للحظة واحدة، وجمع الملايين من الأوراق النقدية الملونة وحشرها داخا حقيبتين جلديتين والانتقال بهما في شوارع المدينة، لا يصل بالفيلم سوى إلى الفراغ. وهو في النهاية، أمر يؤسف له كثيرا جدا!
