أفلام لا تنسى: من “يوليوس قيصر” إلى “عودة الإبن الضال”

ليست هذه مساحة لنقد بعض الأفلام التى لا يمكن نسيانها، ولكنها محاولة لربط كل فيلم بظروف مشاهدته تأكيدا على ما ذكرته من قبل حول المشاهدة “كطقس متكامل”.

 أنا مهتمٌ أيضا بالطريقة التى نتفاعل فيها مع الأفلام، بالتسجيل الدقيق لظروف المشاهدة ودرجة الدهشة ولحظات الإعجاب، أحاول أن تعيش معى تجربة الرؤية باختلاف الزمان والمكان والعمر والتجربة والثقافة، حكاياتى عن الأفلام كتجربة اجتماعية وإنسانية وفنية معاً، مازلت حتى الآن أكتشف السينما، وأجتهد فى معرفة لماذا تبقى فى الذاكرة أجزاء بأكملها من أفلام مختلفة فى مستواها الفنى ، ولا أملّ من تكرار أن السينما أكبر بكثير من أن نتناولها من زاوية واحدة لأن تأثيرها بعدد من يشاهدونها.

سأبدأ بأقدم الذكريات . سأحكى لكم عن فيلم “يوليوس قيصر” (1953) الذى ارتبط فى ذهنى بحفنة من المباهج الملونة ليس أقلها أننى اكتشفت من خلاله لأول مرة الممثل الفذّ مارلون براندو، والشاعر والكاتب المسرحى الأعظم  وليم شيكسبير، بل واكتشفت أيضا شخصية ذلك الإمبراطور الرومانى الملئ بالمتناقضات، وبلحظات القوة ونقاط الضعف.

كنت فى الصف السادس الإبتدائى صبياً شغوفا بمتابعة قناتى التليفزيون المصرى الوحيدتين (الأولى والثانية)، وكانت خبرتى فيما يطلقون عليه الدراما لا تتجاوز مشاهدة أفلام برنامج “نادى السينما”، وبعض الأفلام الأجنبية فى سهرات القناة الثانية، وطوفاناً من مسلسلات السبعينات الأمريكية: من “كوجاك” الى “منزل صغير فى البرارى”، ومن “الساحرة” للرائعة إليزابيث مونتجومرى الى “كولومبو” للماكر بيتر فولك، ومن حلقات “رجل بستة ملايين دولار” الى “المرأة الخارقة” و”مهمة مستحيلة” و”ملائكة شارلى”، بل إننى كنت شغوفا بمتابعة مسلسلات أقدم عند إعادتها فى السبعينات مثل “الهارب” بطولة ديفيد جونسون و”القديس” بطولة روجر مور، “وبيتون بليس” بطولة مايا فارو، و”عائلة بيركلى”، وهو مسلسل “كاوبوى” بديع من بطولة القديرة باربارا ستانويك.

وتحتفظ الذاكرة أيضا بأعمال مثل “هارت توهارت” و”هيتشكوك يقدم” وحلقات عن نصوص أدبية مثل “الحرب والسلام” و”رجل غنى .. رجل فقير” و”الجذور” وغيرها. كنت أتابع أيضا المسلسلات العربية بالإضافة الى أفلام السهرة المصرية التى كنا ننتظرها حامدين شاكرين ومسرورين مهللين.

فى ذلك اليوم الذى لا أنساه، كنت جالسا على مقعد بجوار التليفزيون أقلب صفحات كتاب رياضى عن لاعب الكرة الشهير(ومقدم البرامج حاليا) مصطفى عبده. كنت أسمع فيلما يرطن أبطاله بالإنجليزية وكأنها مؤثر صوتى فى هامش الشعور. ما تعرفش هل زهقت من الكتاب (كان عنوانه: “المجرى”، (ومؤلفه الراحل محمود عفت) أم أحسست بالعطش فتاقت نفسى الى رشفة ماء.. المهم أننى مررت أمام شاشة التليفزيون فى تلك اللحظة التى كان يُعرض فيها أهم مشاهد فيلم “يوليوس قيصر” المأخوذ عن مسرحية شيكسبير: مارك أنطونيو (مارلون براندو) يحمل جثمان يوليوس قيصر(جون جيلجود) ويمدّده أمام شعب روما فى حين يراقبه قتلة قيصر وعلى رأسهم بروتس (جيمس ميسون). وقفتُ متسمراً ومندهشاً من غرابة المنظر، فلما بدأ “أنطونيو” خطبته، جلست لأستمع ولم أعد أبداً الى كتاب “المجرى” بعد أن وقعت فى أسر”التوربينى”.

براندو وشكسبير

عندما انتهى الفيلم عُدت الى صحيفة اليوم لأقرأ لأول مرة عن مسرحية شكسبير، ولأعرف لأول مرة أن هناك ممثلا اسمه مارلون براندو فى دور مارك أنطونيو.

يقول الراحل العظيم محمد عبد الوهاب إنه عندما استمع لأول مرة فى طفولته لمونولوج “أنا المصرى” لسيد درويش، أصابته هزة وجدانية أفقدته صوابه، فجعل يجرى محتبس الأنفاس حتى وصل الى منزله وسط ذهول المارة فى الشوارع. لم يجد عبد الوهاب تفسيرا لما حدث، ولكنك تستطيع أن تقول أنها “هيبة الجمال وسطوته”. فى هذه الحالة يصبح جهاز استقبال الجمال لدينا أقل من أن يستوعب الجرعة  التى تعرّض لها رغم احساسه بوجودها وتأثيرها عليه، شيء اشبه بطفل ألقيته فى محيط هائل، فأخذ “يضبّش” ويلتقط أنفاسه حتى لا يغرق.

شئٌ قريبٌ من هذا الوصف حدث لى بعد أن شاهدت “براندو” يبدع ويمتع ويصول ويجول فى دور مارك أنطونيو، الغريب أننى عندما شاهدت الفيلم من بدايته بعد ذلك أكتشفت أن براندو لم يظهر قبل مشهد الخطبة الساحر إلا فى مشاهد قليلة كان يمر فى إحداها مع قيصر أمام المتآمرين.

أحببتُ الفيلم وممثليه ومخرجه والمسرحية المأخوذ عنها ومؤلفها الذى لم أكن قرأت له مسرحية واحدة. لم يحدث أن عرض هذا الفيلم فى التليفزيون المصرى إلا وشاهدته ثم أتوقف طويلا أمام مشهد الخطبة كتابة وأداء وإخراجا (الفيلم من إخراج جوزيف مانكيفيتش مخرج فيلم “كليوباترا” الشهير بطولة إليزابيث تايلور). فى مراحل تالية.

ومن خلال القراءة فى السينما بدأت أستوعب جماليات كثيرة فى مشهد الخطبة: الطريقة التى يستخدم بها براندو أجزاء جسده وأسلوبه فى الإلقاء والضغط على الحروف، التوظيف الرائع للمكان، المونتاج البارع الذى يحافظ للمشهد على وحدته وتماسكه ثم يتدرج مع الإنفعالات ولحظات التحول.

هناك أيضا ملاحظة جديرة بالتأمل: المشهد مسرحى بامتياز حيث خطبة أمام جمهور فى ساحة، ومع ذلك لا تفقد أبدا الإحساس بأنك أمام مشهد سينمائى من خلال لقطات رد الفعل على الوجوه، وزوايا الرؤية المتعددة من خلال عيون الكاميرا.

وبسبب هذا الفيلم بدأت فى البحث عن ترجمات شيكسبير، بل حرصت فى مراحل أخرى على اقتناء عدة ترجمات لنفس المسرحية. أصبحت مفتونا بأعمال الشاعر الإنجليزى الأعظم، ومؤمنا بأن شيكسبير يمتلك معظم مفاتيح الدراما كما قال عنه أحد النقاد، يكفى أن تقرأ مسرحية “يوليوس قيصر ” أو تشاهد الفيلم المأخوذ عنها لتعرف كيف يتم بناء الشخصيات، وكيف يتم عن طريق الحوار فقط التعبير عن عالمها النفسى، وكيف تتحدث كل شخصية بمنطقها، كيف تتفهم مبررات بروتس فى المشاركة فى اغتياليوليوس قيصر بنفس الدرجة التى تتفهم فيها مبررات أنطونيو (الإبن الروحى لقيصر) فى الأخذ بثأره، وتحريض شعب روما على المتآمرين .

حصلتُ على الثانوية العامة ، ودخلت الجامعة، وفى قلب الحرم الجامعى كنت على موعد مع فيلمين لم أنسهما أبدا ليس فقط  لقيمتهما الفنية ولكن لظروف مشاهدتهما.

دعنى أصف لك أولاً الأجواء العامة فى فترة الثمانينات من القرن العشرين. كانت التيارات الدينية مازالت موجودة فى الكليات وفى المدينة الجامعية حيث نقيم، ولكن كان هناك أيضا هامش لممارسة النشاط الفنى.

أذكر أنه فى الساعة الخامسة مساء كل يوم، كانت كل أجهزة الراديو فى حجرات الطلاب تُفتح على إذاعة أم كلثوم، وكنا نتردد على مسرح كلية التجارة بجامعة القاهرة لمتابعة عروض مهرجان المسرح الجامعى حيث شاهدت الكثير من الموهوبين والموهوبات. لا أنسى مثلا أننى شاهدت “بروفة جنرال” لمسرحية محمد صبحى الشهيرة “إنت حرّ” من بطولة طلاب هواة ومن إخراج الممثل المعروف صلاح عبد الله، وهو الوحيد الذى كان يعمل ممثلا محترفا وقتها فى فرقة صبحى.

مجانين المسرح

وشاهدتُ مسرحية طلاّبية بعنوان “المجانين” من بطولة ثلاثة من الموهوبين أصبحوا نجوما فيما بعد هم: عمرو عبد الجليل بطل المسرحية ، ومحمد هنيدى، ومحمد سعد. وأشهد أن هنيدى وسعد أشعلا المسرح ضحكاً وصخباً وتصفيقاً. هنيدى تحديداً كان يقوم بدور مجنون الكرة الذى يرتدى شورتا وفانلة طوال الوقت، وكانت المسرحية مجرد اسكتشات مفككة تماما عن رجل يقول إنه طبيب (عمرو عبد الجليل) ، يقوم باستقبال حالات من المختلين عقليا.

وأذكر أننى شاهدت فى ليلة عرض “المجانين” المخرج الكبير يوسف شاهين، ومن خلال هذا العرض اختار شاهين الممثل الصاعد عمرو عبد الجليل لبطولة فيلمه “اسكندرية كمان وكمان”، واكتفى باسناد دور صغير فى نفس الفيلم لمحمد هنيدى. على مسرح كلية التجارة شاهدت أيضا النجم خالد صالح  وهوطالب فى كلية الحقوق. كان مميزاً جداً، وكان يؤدى أدواراً جادة وكوميدية بنفس درجة التألق .

أعود معكم الى الفيلمين اللذين شاهدتهما فى الحرم الجامعى. ربما كنا وقتها فى العام 1986، وكانت كلية الإعلام (حيث أدرس) تحتل الطابق الرابع فى مبنى كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، وذلك قبل إنشاء المبنى الضخم المستقل لكلية الإعلام.

لحسن الحظ استفدنا من استضافة كلية الإقتصاد لنا حيث تكونت فى تلك الكلية العريقة أسرة جامعية كان رائدها د. جودة عبد الخالق أستاذ الاقتصاد المرموق ووزير التضامن الإجتماعى حاليا (فى وزارة مابعد الثورة برئاسة د. عصام شرف).

كان أحد أنشطة هذه الأسرة تنظيم عروض سينمائية لأفلام مختارة، وإقامة ندوات مع صناع ونجوم هذه الأفلام، وهكذا أتيح لنا (نحن دراويش السينما فى كلية الإعلام) أن نحتل الصفوف الأولى فى المدرج الكبير بالدور الأرضى لكلية الإقتصاد والعلوم السياسية لمشاهدة الفيلمين الكبيرين “المومياء” و”عودة الإبن الضال”، ثم حضور ندوتين لمناقشة الفيلمين مع ما تيسر من صناع العملين.

فى عرض فيلم “المومياء”، كان هناك خبران أحدهما سئ والآخر جيد، الخبر السئ هو النسخة الرديئة التى تم عرضها للفيلم، عرفنا أنها نسخة تمتلكها هيئة قصور الثقافة، وتتميز (النسخة لا الهيئة) بالألوان الباهتة، وكان يؤلمنا أكثر أننا شاهدنا الألوان الرائعة للفيلم فى النسخة التى عرضها التليفزيون المصرى فى برنامجه السينمائى المميز “أوسكار” بعد وفاة مخرج الفيلم “شادى عبد السلام”. أما الخبر السار فعلاً فهو حضور نجمة الفيلم الرائعة نادية لطفى للمشاركة فى الندوة التى أعقبت الفيلم، ومعها مصمم ديكورات الفيلم وتلميذ  شادى الكبيرالراحل صلاح مرعى.

حول “المومياء” و”الإبن الضال”

خرجتُ من الندوة باستفادة عميقة عندما تحدث مرعى شارحاً أسباب استخدام الفصحى المبسطة فى الحوار، كما تحدث عن حركة الممثلين البطيئة ومغزاها وعن التعبير بالإيماءات  ولغة العيون، وقال الكثير عن مشاكل الفيلم مع الرقابة لدفاعه عن الهوية المصرية فى زمن المدّ القومى.

كان حديثه أول محاضرة أستمع إليها فى تذوق الأفلام، وبينما كان القسم الأكبر من الطلاب قد اتجهوا بعد المحاضرة الى نادية لطفى للحصول على صورها وتوقيعاتها على الأوتوجراف، فقد ذهبت مع حفنة قليلة لمصافحة صلاح مرعى، ولا أنسى أبدا تواضع الرجل وهو يرحّب بنا ويجيب عن اسئلتنا، الطريف أن أحد أصدقائى الأعزاء أحضر لى سعيداً وظافراً صورة من الرائعة نادية لطفىتحمل توقيعها، ومازلت أحتفظ بالصورة حتى اليوم امتناناً لهذه الفنانة العظيم لدعمها المبدعين مثل شادى عبد السلام، وامتناناً لهذه الندوة المميزة فى قلب الحرم الجامعى.

أما عرض “عودة الإبن الضال” فقد كان أفضل كثيراً، كان المدرج الكبير مكتظاً كالمعتاد، وفى الموعد المحدد فوجئنا بوجود يوسف شاهين شخصيا مع الدكتور جودة عبد الخالق.

أدهشنى أن المخرج الكبير كان يشرف بنفسه على تركيب “بوبينات” الفيلم التى أحضرها من مكتبه، وأظن أيضاً أنه أحضر آلة العرض الخاصة بالمكتب. كان المشهد رائعاً ومُلهماً: عاشق السينما الكبير يقدم للعشاق الصغار فيلمه الذى يحبه.

كانت المشكلة أن العرض  يتم “بوبينة .. بوبينة”، وفى كل مرة تنتهى “البوبينة” يتوقف العرض ويقف شاهين للإشراف على تركيب “البوبينة” الجديدة بلا كلل أو ضيق.

انبهرنا يومها بكل شئ: بالفيلم الذى لم أكن شاهدته فى المرة الوحيدة التى عرض فيها بالتليفزيون، بشاهين وبساطته وحبه واحترامه للجمهور على عكس ما كان يُشاع عنه ، بنجمة الفيلم سهير المرشدى التى استقبلت مع شاهين تصفيقاً أسطورياً يليق بالفيلم وبالمناسبة السعيدة.

الآن دعونى أصف لكم ما بعد العرض: كان شاهين  منتشياً وسعيداً، ينحنى للجمهور فيزيد التصفيق، ينظر الى بطلة فيلمه ثم يقبّل يدها عرفاناً وامتناناَ وكأنه يستقبل تحية جمهور مهرجان كان . فى الندوة ، لم يرفض الإجابة عن أى سؤال، وحتى بعد انتهائها، تحلّقنا حوله  وانهالت عليه أسئلة عن أغنية “الشارع لنا”، وعن قرص الشمس الأصفر الباهت الذى يتجه إليه بطلا الفيلم فى مشهد النهاية.

سألناه عن الفتاة “فاطمة” وهل هى رمز للوطن، كان الرجل سعيدا بجمهوره الصغير لدرجة أنه اقترح على من يريد أن يواصل الحوار معه فى مكتبه (35 شارع شامبليون) .

قال لى صديق بعد مشاهدة “عودة الإبن الضال”: “إيه اللى شفناه ده ياجدع ؟”. بدا لى كأننا لم نشاهد سينما من قبل، ومازلت أعتبر الفيلم من أهم وأفضل أفلام يوسف شاهين. لم أنس أبداً أننى شاهدت العمل الكبير لأول مرة فى الحرم الجامعى، وأننى استمتعتُ بالتحاور مع مبدعه الكبير بعد العرض.

Visited 125 times, 1 visit(s) today