أسفار الرؤيا: فيلم “الوادي” اللبناني في مهرجان أبوظبي

Print Friendly, PDF & Email


تضم مسابقة الأفلام الروائية الطويلة خلال فعاليات الدورة الثامنة لمهرجان أبو ظبي السينمائي (23 أكتوبر-1 نوفمبر) سبع عشرة تجربة سينمائية تعكس الكثير من العناصر الوجدانية والذهنية المشتركة التي يتقاسمها سينمائيو العالم الآن على اختلاف ثقافاتهم ومجتمعاتهم وهمومهم اليومية والحياتية. ثمة مساحات نفسية أثيرية تصنع خلفية واحدة ضخمة للعديد من التجارب المشاركة في المسابقة رغم التباين الفكري والأسلوبي والنوعي بين هذه الأفلام.

من هذه المساحات التي يمكن أن نلمحها حاضرة بقوة في عدد من التجارب المشاركة في المسابقة تلك الحالة الأبوكاليبسية (أجواء يوم القيامة)- نسبة إلى الكلمة اليونانية APOCALEBS والتي تعني الكشف- التي تفوح منها أنفاس سفر الرؤيا واضحة ومخيفة، حيث يبدو السينمائيون في عصرنا الحالي أقرب لأنبياء العهد القديم الذين جاءوا لكي يبشروا بالنهاية الوشيكة وقرب الدينونة لأن (سخطي على امة منافقة أرسله.. أوصيه ليغتنم غنيمة وينهب نهبا ويجعلهم مدوسين كطين الأزقة) اشعياء (10-5،6).

يمكن أن نرصد تلك الحالة – الرؤية من خلال عنصرين أساسيين في أفلام المسابقة، الأول هو الإيحاء بفكرة العوالم المتهدمة التي توشك على الزوال في نهاية الزمن والتي نراها حاضرة في سياقات غير مباشرة لكنها تخلق حالة القلق والشعور بالخطر وفقدان الأحساس بالأمان لدى المتفرج في افلام مثل”القط” إخراج ابراهيم البطوط والذي نرى فيه المدينة/ القاهرة بعد الثورة حيث انهارت الدولة وغابت الحكومات وأصبحت أعضاء البشر بضائع للمتاجرة والبيع والشراء من خلال عصابات سرقة الأعضاء التي تتورط شخصية القط في الحرب معها.

وفي فيلم “تمبكتو” للموريتاني عبد الرحمن سيساكو نستشعر تلك الأجواء المخيفة لنهاية الزمان في بلدة نائية تبدو وكأنها أخر قرية في العالم تعيش على الكفاف في ظل حكم يميني متطرف يدعي أنه قادم من السماء ليصلح الأرض بعد أن افسدها العصاة. ويصبح انتظار الموت الوشيك هو الرفاهية الوحيدة المتاحة بينما غزال الأمل/ المستقبل الذي نراه من البداية متماهيا مع الطفلة الصغيرة التي تهرب من مطاردة المتطرفين يوشك أن يتوقف قلبه الصغير ليعلن عن قدوم الدينوية ليفصل ساعتها الرب بين البشر.

اما العنصر الثاني فهو الحضور الحي لفكرة يوم القيامة والذي يمكن رصده بشكل واضح في كل من الفيلم اللبناني “الوادي” للمخرج غسان سلهب، والفيلم الروسي “تجربة” للمخرج الكسندر كوت حيث يقدم كل منهما سفر الرؤيا الخاصة به وكأنه “يوحنا” سينمائي- ويوحنا هو كاتب سفر الرؤيا في العهد الجديد- عبر سياقات فلسفية وسياسية وتراثية وباستخدام لغة سينمائية تنحو بأتجاه التجريب المتوازن والشطح النوعي البراق والجاذب.

القيامة من لبنان

ضمن ثلاثية تضم عناوين الجبل والوادي والنهر يقدم المخرج اللبناني غسان سلهب قراءته عن العالم الذي يوشك ان ينتهي والواقع العربي الذي سوف يكون شرارة القيامة الأولى التي تعلن يوم الدينونة الوشيك.

أنجز سلهب قبل أربعة اعوام أولى اجزاء هذه الثلاثية “الجبل”2010  وعاد هذا العام ليقدم الجزء الثاني “الوادي” في سياق زمني يتجاوز الساعتين، وفي لقاء له عقب عرض الفيلم بمهرجان ابو ظبي صرح بأن الرابط بين كلا الفيلمين قائم على الخلفية الفكرية لكليهما فقط فكل جزء من اجزاء الثلاثية بما فيها الجزء الثالث الذي لم ينجزه بعد يرتبط عضويا ووجدانيا بالجزء السابق له لكنهم منفصلون على مستوى الشخصيات والحبكة والبناء الدرامي.

يبدأ الوادي على شاشة سوداء وصوت سيارة تتعرض لحادث عنيف ثم تبدأ اللقطة الافتتاحية لحية مقطوعة لنصفين تتلوى على الطريق ثم لقطة واسعة للوادي. وفي منتصف الكادر يبدو رجلا ما صاعدا من اثر الحادث وقد تلوث قميصه بالدم.

فيما بعد عندما يطلق على هذا الرجل اسم ملاك من قبل المجموعة التي سوف تعثر عليه على الطريق يمكن استعادة المشاهد الافتتاحية للفيلم وربطها بالاسم عبر المنظر الأبوكاليبسي “رأيت ملاكاً آخر جبّار اًينزل من السماء بيده كتاب صغير مفتوح” (رؤيا10،1-2).

 استعادة المشهد الأول تجعلنا نشعر أن هذا الملاك/ الرجل سقط من السماء بالفعل وفي المفهوم النبوئي كلمة “ملاك” تدلّ على إنسان مرسل من الله، وليس على ملاك سماوي، وعندما يمنحونه أورقا كي يكتب اسمه يطلب منهم اجندة صغيرة وفيها يبدأ في تدوين معادلات كميائية واسطر شعرية غامضة ذات تأثير سحري مبهم على كل من يقرأها من اصحاب مزرعة المخدرات المعزولة التي يجد نفسه مسجونا فيها أو تجد العائلة الغريبة نفسها مسجونة معه دون أن تدري أن هبوطه لم يكن مصادفة وإنما إيذانا ببدء القيامة.

إذا اضفنا إلى ذلك أن الرجل/ الملاك فاقد للذاكرة لا يعرف شيئا عن قدومه أو وجهته ولكنه يستشعر نفسه في مهمة ما يجب عليه انجازها دون أن يدري تحديدا ما هي، يمكن أن نرى كيف شرع سلهب منذ بداية الفيلم في بناء أجواء الرؤية التي سوف تصل إلى ذروتها مع نهاية الفيلم بهجوم عسكري ضخم من اسرائيل يزيل لبنان والشرق الأوسط بأكمله من الوجود أو كما يذيع الراديو(بيروت انمحت).

الوادي هنا هو رمز للأرض والبلد والشرق الأوسط كله مختزلا في مساحة الأرض المنبسطة التي تعيش فيها الأسرة الغرائبية التي تزرع المخدرات، معزولة عن العالم ومنفية اختياريا وتبدو دلالة إنتاج المخدرات واضحة لدرجة المباشرة فنحن شرق ننتج التغييب ونتعاطاه ونتقنمه أكثر من اي شئ أخر، وفي خلفية شريط الصوت عندما نسمع باستمرار نشرات الأخبار السياسية والتي تبدو وكأنها لا تعني احدا في المرزعة ندرك آليات العزلة والغياب التي يمارسها أهل المزرعة بأريحية ومتعة لن تلبث إلا أن تتحول إلى جحيم نفسي عندما يشرعون في البحث عن أي كلمة مذاعة عبر أي محطة لكي يفهموا ماذا يحدث في الخارج ولماذا جاءت القيامة مبكرا عن موعدها وبشكل مخالف عما تصوروه.

يستغرق سلهب وقتا طويلا في التعريف بملائكية الشخصية حسب المنظور النبوئي ويستخدم وعي وعينا الرجل/ الملاك لتكون مفتاح التعرف على الشخصيات والمكان الذي يصطحبونه إليه فنراه ينظر إلى الوادي من شباك السيارة الذي قام بإصلاحها لهم على الطريق قبل أن يقرروا اصطحابه معهم، ونراه يستشعر العزلة والسجن في متابعته لنحلة تريد الخروج من النافذة الزجاجية ولا تدري أن هناك حاجزا شفافا يمنعها من ذلك.

يقول روبير بريسون في كتابه ملاحظات في السينماتوغرافيا (إن الفيلم هو بناء علاقة بالنظرات) ولا يعني هذا ان تظل الشخصيات تحدق في بعضها ولكن أن تحمل النظرة الثقل الشعوري والنفسي والفكري للشخصية سواء كانت تنظر إلى شخصية أخرى أو إلى مكان او شئ ما، ويبدو بالتطبيق أن سلهب اعتمد بشكل اساسي على النظرات في بناء العلاقة ما بين الشخصيات وبعضها أو بيان طبيعة العلاقة بينها، فأفراد العائلة بحكم كونها تمارس عملا سريا تعودوا على أن يكون حوارهم بالعيون دوما خاصة مع وجود شخص غريب وسطهم لا يدرون من هو وهل وجوده هنا مصادفة أم تدبير يتجاوز وعيهم أو حساسيتهم الأمنية.

والملاك ينظر إليهم محاولا أن يستشف ما في صدورهم نحوه أو لعله يخرج منهم باجابة عن الأسئلة التي تؤرقه حول طبيعة وجوده وسببه، ولكن تدريجيا يغادر الثقل الدرامي شخصية الملاك ليصبح الفيلم في الفصول التالية مرتكزا على أن هذه العائلة تنتظر صفقة كبيرة ولكن القيامة المفاجئة تبطل كل مشاريعها وتضعها وجها لوجه أمام دينونة لم تكن في الحسبان.

في العهد الجديد يتلقّى يوحنّا رسالة الرؤيا على شكل رموز يعجز الإنسان عن فهمها، وقد طلب منه الربّ بوضوح عدم تفسيرها “أكتم ما نطقت به الرعود السبعة كلمات الله في  تفسره (رؤيا 10-4).

يتحرك الكتاب الصغير الذي يدون فيه الملاك رموزا وأشعارا بين الشخصيات وتنشغل به ويصبح مثار الشك الرئيسي في شخصية الرجل/ الملاك ويدفعه هذا إلى الرغبة في الهرب مما يدفعهم إلى احتجازه وتعذيبه لكي يبوح بالسر أو يستعيد ذاكرته.

هذا التحول في علاقة العائلة بالملاك يأتي بعد أن أشاع بينهم روحا جديدة لم تكن حاضرة من قبل، تلك الروح التي تجسدها الدراما في مشاهد نهوضه من مائدة الطعام قبل أن يكمل الباقون أكلهم مما يدفع الفتاة الشابة التي تبدو أكثرهم قربا منه إلى النهوض هي الأخرى وكسر تقاليد العائلة، ثم مشهد الرقص حيث تنهض الشابة أيضا تاركة الطعام وتبدأ في الرقص مما يدفع الجميع إلى الحذو مثلها ثم باستخدام اسلوب الصورة على صورة “المزج” تبدو الشخصيات الراقصة وكأن كلا منها اثنان يرقصان وليس شخصا واحدا أو وكأنهم شخص وروحه وكلاهما يراقصان بعضهما البعض.

ولكن الأزمة التي يولدها عادة الاقتصاد الكبير في الحوار والاعتماد الكامل على النظرات هي الأزمة التي تحدث عنها بريسون ايضا في كتابه عندما قال (من غير أن تنقصهم الطبيعة تنقصهم الطبيعية) فالشخصيات التي يبالغ المخرجون في جعل النظرات حوارها الأساسي تبدو تدريجيا أقرب للصم والبكم خاصة مع وجود الحوار كعنصر اساسي في الفيلم وليس على سبيل المثال كما قدم المخرج الكسندر كوت فيلمه “التجربة” بشكل اقرب بالفعل للسينما الصامتة دون جملة حوار واحدة في سياق نوعي مخالف نسبيا لسياق “الوادي”رغم أن كلاهما يتحدث عن القيامة الآن.

وعندما تخرج العائلة من المزرعة لكي تكتشف أن العالم كما تعرفه قد انتهي، وأن الوادي يتلاشي عبر الانفجارات المتتالية في كل مكان كما نراه في المشهد الأخير حين يقف الملاك متأملا الأرض/ الوادي وقد زالت عنها ملامح الحضارة الانسانية وبدأت النهاية.

عندما تخرج العائلة يطيل المخرج في عملية اكتشافها العالم الخارجي أو طبيعة ما حدث فيترهل الايقاع نسبيا وتتوه الشحنة الانفعالية المطلوبة لبث الذروة في نفوس المشاهدين حيث تبدو العائلة وكأنها تكتشف مدينة أخرى غير التي كانت تعرفها فيدخل أحدهم ورشة لتصنيع الأبواب الحديدية- والِاشارة واضحة بالطبع لكون هذه الأبواب لم تمنع الهجوم الأخير- وكيف يعثر في الورشة على راديو بموجات قصيرة وكتاب في الشعر في دلالة واضحة عى أن صاحب الورشة الهارب كان جاسوسا يستخدم الراديو لتلقي الرسائل وكتاب الشعر العربي لفك الشيفرة بينما مهنته أن يكون صانع ابواب حديدية أي موكل بالأمن والدفاع!

معادلة تجريدية

وفي محاولة من المخرج لنفي صفة الفانتازيا عن فيلمه فقد قام بتحديد الاماكن والجيوش أي بيروت واسرائيل، ولكن النظرة المتأنية تجعلنا نستشعر أنها معادلة تجريدية رغم المسميات فإسرائيل بالفعل تمثل رمز سياسي واضح وكذلك بيروت ولكن إسرائيل هنا هي رمز العدو وبيروت هي رمز البيت أو الحالة العربية التي يشير إليها المخرج كما سبق واسلفنا بالعزلة وصناعة التغييب، ولا ننسى أنه من علامات القيامة في الديانة الاسلامية أن تقوم حرب عظيمة بين المسلمين واليهود تنتهي بانتصار المسلمين وإفناء اليهود، ولكن المخرج هنا لا يتحدث عن نهاية القيامة الدينية ولكن عن القيامة السياسية التي سوف تودي بالشرق الأوسط كله للهلاك ذات يوم – ومصطلح الشرق الاوسط يورده المخرج على لسان احد الشباب الذي تسأله العائلة عما حدث عقب هجوم الطيران وبداية الانفجارات فيقول لهم الشرق الأوسط كله لم يعد له وجود.

ولكن نزوع المخرج نحو واقعية تحمل سمات تجريدية لا ينفي بالطبع النفس الشعري الواضح في الفيلم ككل بداية من الايقاع التأملي العام البطئ الذي تجاوز بزمن الفيلم الساعتين والربع مرورا بمساحات الصمت الطويلة التي تمارس فيها العيون دور الألسن في تبادل الديالوجات المتفردة والتي نحاها المخرج لصالح الصورة، بالاضافة إلى السطور الشعرية التي تخرج من الكتاب الصغير الذي يدون فيه الملاك رموزه الغريبة.

وتلوح الشعرية أيضا في تلك العلاقة بين الملاك والشابة الصغيرة التي يبدو وكأنها تستقبل شيفراته الوجدانية وتعيد افرازها في شكل لوحات مرسومة بالفحم وهي التي تبدأ في التواصل معه والتأثر بوجوده في مشاهد مائدة الطعام والرقص وأخيرا تقرر أن تحوله إلى لوحة من لوحاتها بأن ترسم على جلده بالفحم ولا ننسى أنها هي التي اطلقت عليه اسم “ملاك” وهو الاسم الوحيد الذي نسمعه في الفيلم فبقية الشخصيات بلا اسماء رغم حضورها المستمر وحركتها في الزمن والدراما لأننا في النهاية لسنا امام شخوص واقعية بالفعل ولكنها تتحرك في مستوى تجريدي مقصود ومفعم بالرموز والاشارات، وتظل تلك الرسومات موجودة على جلد الملاك حتى النهاية ليبدو اقرب إلى لوحة دبت فيها الروح كي تشهد القيامة.“عمّا قليل يتحوّل لبنان جنّةً، والجنّة تحسب غاباً.‍‍وفي ذلك اليوم يسمع الصمّ أقوال الكتابوتُبصر عيون العميان بعد الديجور والظلام…لأنّ الظالم قد انقرض والساخر قد فُنيواستؤصل جميع الذي يسهرون لأجل الإثم”

)أشعيا 29، 17)

اليس هذا تحديدا ما حدث للعائلة التي تقطن المرزعة في الفيلم، كانوا عميان القلوب وصم العيون، يسهرون من أجل تصنيع المخدرات كما نراهم مشاهد المعمل وتحضير العينات لبيعهافجاءهم الملاك نذيرا بخطر وشيك لكنهم أسروه وقرروا قتله فقامت قيامتهم واستؤصل عالهم المعزول والمغيب كما كل العوالم العربية المعزولة والمغيبة التي سوف تفاجئها الدينوية عما قريب.

  • الموضوع يستكمل عبر قراءة الفيلم الروسي “التجربة”


Visited 72 times, 1 visit(s) today