يوميات مهرجان كان 76 (4): أفلام وأفلام
أمير العمري- كان
أصبح تأخر بدء العروض والانتظار الطويل تحت المطر في صفوف لا نهاية لها، هو العرف السائد “الطبيعي” هنا في كان. والسبب ارتفاع أعداد الصحفيين المسجلين بشكل هائل رغبة من إدارة المكتب الصحفي في التباهي أمام مهرجانات العالم بعدد الذين يأتون خصيصا لتغطية هذا الحدث السنوي، مع حقيقة قلة عدد قاعات العرض السينمائي (عمليا هناك 3 قاعات فقط)، مع الإصرار على وضع تظاهرة “نظرة ما” في قاعة ديبوسيه، رغم أنها تحولت إلى برنامج احتفالي يستغرق دائما في عروضه وقتا يتجاوز الزمن المحدد ويضرب عرض الحائط بموعد عرض الفيلم الذي يليه ويجعلنا ننتظر من نصف ساعة الى ساعة كاملة.
سيستمر الوضع على هذا المنوال إلا لو وجد من يمكنه أن يقنع مدير المهرجان تييري فريمو، بنقل عروض “نظرة ما” من قاعة “ديبوسيه” إلى قاعة أخرى حتى لو استأجر المهرجان سينما أوليمبيا مثلا. ولم لا؟ الإجابة طبعا ستكون لأن السينما مخصصة لعروض السوق الدولية للفيلم مثل سينمات أخرى كثيرة في المدينة الصغيرة. فكل شيء في كان مكرس أساسا للسوق، ووجود عشرات من شركات الإنتاج والتوزيع والتسويق، والعاملين فيها هو ما يخلق هذا الزحام المجنون الذي لا نراه مثلا في مهرجان فينيسيا.
أفلام كثيرة جاءت مخيبة للآمال وأخرى لا بأس بها، وقليل منها يبشر بالأمل. من تلك المخيبة للآمال الفيلم الفرنسي “العودة” Le Retour الذي أضيف الى قائمة أفلام المسابقة في وقت متأخر، وهو من إخراج كاثرين كورسيني، ومن نوع الميلودراما التي تجمع بين شخصيات من الفرنسيين السود (من أصول افريقية) والفرنسيين البيض، تتقدمهم “خديجة” وهي مربية لديها ابنتان هما جسيكا وفرح، يعود الجميع بعد 15 عاما من الغياب إلى كورسيكا حيث تنشغل جيسيكا بالبحث عن أصول والدها وكان من الفرنسيين البيض وقتل في حادث سيارة واعتبرت زوجته السوداء هي المتسببة في موته بعد أن قررت هجرانه ربما بسبب سوء معاملة والدته لها (وهو أمر غير ثابت لأننا سرعان ما سنرى أن هذه السيدة التي انتقلت للعيش في منزل ابنها طيبة القلب، ترحب كثيرا بحفيدتها جيسيكا وتحتضنها وتطلب منها اقناع أمها وشقيقتها الثانية بالمجيء للعيش في المنزل الكبير). أما فرح فهي رغم تفوقها الدراسي تنشغل ببيع المخدرات طمعا في الحصول على المال السريع، وهو سلك غير مبرر ويعكس صورة نمطية للسود!
ولكن الطريف أن كل الشخصيات من الفرنسيين البيض التي تبدو في البداية شريرة سرعان ما يتضح أنها طيبة، ولا توجد لديها ذرة من العنصرية، بل إن جيسيكا تجد نفسها مع فتاة من عمرها (15 عاما) تولع بها وتلتصق بها، ولابد بالطبع أن تنشأ علاقة جسدية بينهما لكي يقنعنا الفيلم بأن علاقة فرنسا بسكان المستعمرات السابقة علاقة حميمية ملتهبة!!
يوجد في الفيلم كثير من المناظر السياحية لجزيرة كورسيكا وشواطئها، والموسيقى المصاحبة تجعل من مثل هذه المشاهد تبدو كما لو كانت إعلانات للترويج السياحي. كما أن المشاهد الجنسية بين الفتاتين بدت مفتعلة كثيرا ودخيلة على الفيلم (محاكاة لفيلم الأزرق أكثر الأوان دفئا أو حياة أديل). وهذه المشاهد تحديدا هي التي أثارت ضجة أخرى مفتعلة لا أجدها مقنعة من جانب الصحافة والاعلام بدعوى أنه لا يجوز تصوير المثلية الجنسية بين القُصر أي من هم تحت السن القانوني، في حين أنها حسب علمي ليست المرة الأولى. وبناء على الضجة التي تسببت فيها هذه المشاهد قام المركز السينمائي الفرنسي بسحب مبلغ 680 ألف يورو التي كان قد وعد بدفعها لتمويل المشروع (لا أعرف كيف سحبها بعد الانتهاء من انجاز الفيلم)، وعلى إثر ذلك أعلنت المخرجة في كان أنها قامت بقطع المشاهد الجنسية من الفيلم لإسكات الأصوات الغاضبة!
من الأفلام الجيدة فيلم المخرج البريطاني ريتشارد جلايتزر “منطقة الاهتمام”، The Zone of Interest (ناطق بالألمانية) الذي يروي موضوعا يتعلق بالهولوكوست ولكن من زاوية جديدة مختلفة تماما عن سائر الأفلام التي ظهرت عن الموضوع نفسه، فهو يختار شخصية رودلف هيس مدير معسكر أوشفتز الرهيب، وأسرته التي تقيم في منزل بديع مجاور للمعسكر الذي عرف بتجميع اليهود قبل قتلهم داخل غرف الغاز.
إلا ان الفيلم كان من الحصافة بحيث لم يرد فيه أي ذكر لغرف الغاز بينما كان هناك الكثير وبالتفاصيل الهندسية عن انشاء المحارق، وهي موجودة حتى الآن داخل المعسكر الموجود بالقرب من كراكوف في بولندا، بينما غرفة الغاز الوحيدة الموجودة فيه أقيمت عام 1949 بعد انتهاء الحرب بسنوات، كوسيلة لاطلاع السياح والزوار على نموذج لغرفة غاز لم يثبت قط أنها كانت موجودة في أوشفتز أو غيره.
الجميل في الفيلم أنه لا ينشغل أبدا بتصوير اليهود وما يجري لهم في المعسكر، فقد أشبعت مثل هذه الصور أفلام عديدة أشهرها “قائمة شندلر”، أما ما نراهم من اليهود في الفيلم، فهم فقط بعض الخادمات اللاتي يعملن في منزل السيدة هيدويج وأبنائهما الأربعة. أي أننا نرى كيف تستمتع هذه الأسرة، بل وكيف تقدر على الاستمتاع بالطعام الجيد والحفلات وحمام السباحة والحديقة البديعة المليئة بالأزهار في ذلك المنزل بينما يجري تعذيب مئات الآلاف من السحناء على الجانب الآخر من السور، وفي أحد المشاهد نرى أيضا كيف تستولي السيدة هيدويج على بعض الملابس الثمينة من ملابس اليهوديات، كما تتحدث عن عثورها على فص من الماس داخل أنبوبة من أنابيب معجون الأسنان.
رودلف هيس رجل سرة محب لأطفاله، يداعبهم ويلاعبهم، يتناول معهم الطعام، أي أنه مثل أي شخص عادي، لكنه ليس عاديا على الاطلاق، فهو يخفي أكثر مما يظهر، نشيط لا يكل ولا يمل، يعمل باستمرار، حتى وهو في بيته، يجري الاتصالات، مع رؤسائه، يحاول بشتى الطرق تعطيل قرار نقله من أوشفتز حيث يتمتع بالمنزل الجميل والحياة الثرية.
الفيلم يكشف من خلال مشاهده التي لا تعرف الثرثرة، كيف كانت البيروقراطية النازية تعمل وكيف كان أهم شيء هو اطاعة الأوامر والتفاني والتجويد في تنفيذها طمعا في الترقية والمناصب الأعلى. ويتميز الفيلم بانتقالاته الباردة ولقطاته المحسوبة بدقة وابتعاده عن التكرار والاعتماد على الإشارات في توصيل الإحساس بالحالة الإنسانية الخاصة التي أمامنا: التفاني في القتل والتصفية في برود تام (من دون أن نشاهد مناظر القتل بالضرورة) لكننا نشعر بها تماما.. وعلى شريط الصوت تتناهى إلينا أصوات معذبة وصرخات الناس والحراس في معسكر الموت.
أداء تمثيلي مخيف وشديد الاقناع من جانب كل من كريستيان فريدل في دور هيس، وساندرا هيللر في دور هيدويج، الأول برع في تجسيد البرود بحركته الجسدية المحسوبة وتوجسه وكيف يهرع بعد ممارسة الجنس مع امرأة يهودية أتوا له بها الى مكتبه من المعسكر (علاقته الجنسية بزوجته باردة وميتة وكلاهما يرقد في سرير منفصل).. لكننا لا نراه في مشهد جنسي بل يكفي أنها تدخل وتجلس وتسدل شعرها وتخلع حذاءها بينا يتحدث هو على الهاتف في أمر من الأمور العملية تماما، لكننا نراه بعد ذلك وهو يقوم بتظهير عضوه الجنسي ربما خوفا من الإصابة بمرض جنسي، أو من فكرة أنه ضاجع امرأة يهودية أي من الجنس الأدني!
أما ساندرا هيللر فهي نموذج الزوجة التقليدية الألمانية من الطراز القديم، لا يهمها سوى تحقيق السعادة لها ولأبنائها، أي الاستمتاع بالحياة الرغدة التي وعدهم بها الفوهرر كما تقول، وتتشبث بالبقاء في المنزل الذي تقول إنها بنته وشيدت حديقته، متجاهلة تماما ما يحدث على الجانب الآخر.