“يومان وليلة”.. إنعكاس المرآة الخالص

حينما أقبلت على مشاهدة فيلم “يومان وليلة” للأخوين داردان، طفقت أتذمر نوعا ما بعد ربع الفيلم تقريبا، هل لهذه المادة الفيلمية أن تسير وفقا لهذا المؤشر المستقر إلى حد التأفف. هل سنضطر كمتفرجين أن نبحث عن متعة ما بين تنقلات هذه السيدة بين بيت لزميل وآخر، لإستجدائه حتى يصوت لصالح بقائها فى عملها، بعدما أخبره صاحب العمل أن استمرارها يعنى خسارة علاوته المالية التى يعمل بكد ليحصل عليها؟ نفس الكلمات فى كل مرة، التوسلات والبكاء. وخطة الحدث التى لم تخذل التوقعات تكمل المسار بغير مبالاة.

حقا انتابتنى حالة من التململ، حينما بعثت بتوقعاتى للنهاية، وركضت وراء متوالية الصورة، وأنا أسلسلها تباعا وفقا لما أتنبأ به. سهم خيبتى فى هذا الوقت من المشاهدة بلغ الذروة، وانتابتنى حالة من اليأس. ولكن لسبب أو لآخر، ثابرت على إتمام الفرجة. وهو ما قلب الموازيين السابق ذكرها.

إذا نظرت فى المرآة وقبلها أدرت بعض الموسيقى، واحتفظت بإنعاكس صورتك وقتها فى مخيلتك، ومن ثم أوقفت الموسيقى، وعاودت النظر إليك ستجد الصورة قد احتالت إلى كيان آخر، قد يتسق فى الملامح الشكلية للصورة الأولى، ولكنه يحمل طلة أخرى ويبث إلي نظرك نكهة وجود مغايرة. ستختلف أيضا حينما تعاود تأمل إنعكاسك وأنت تتحدث إلى شخص ما، أو تمارس الرقص، أو ..، أو ….

الأخوان داردان، إختارا أن يُقدما لنا معايشة شديدة البساطة تتمثل فى هذه السيدة، وكأنها فى اليومين والليلة المشار إليهما، استماتت لكى تُبقى نظرها على انعاكسها المشوش فى المرآة. ونحن بصدد مراقبتها، نجدها واقفة فى صمت تتملى إنعكاسها، وقد إختار داردان الصورة المجردة لمراقبة هذا الإنعكاس، فى هدوء، يشى ولكنه لا يبذل عناء فى لفت نظر المتفرج، ويضع ضرورة توريطه كأولوية أولى. بينما صاغ له الصور المتتالية لهذا الإنعكاس مغلفا داخل إطار ردات فعل ساندرا “ماريون كوتيار” ليشير إلى الصراع المتفاقم الذى يأتى من داخلها. ويبقى بالنسبة لمن يصر على النظر من بعيد، مجرد وقفة بائسة أمام مرآة لن تتعدى كينونتها الشكلية.

ساندرا

إمرأة تقف على حافة الإنهيار، فى الظاهر تدخل فى قتال لكى تستعيد وظيفتها. ولكنها فى حقيقة الأمر، بصدد الرجوع إلى ذاتها خلال هذه الرحلة التى لا تبدو شاقة إلا بالنسبة لها. فمن البداية لم يركز السيناريو على إبراز أى تبعات ملموسة لخسارة ساندرا لعملها. فقط طريقة تلقيها الأمر هى ما تجعلنا نخمن هوله وصعوبته. ولكننا فى المقابل، نجد أسرة محدودة الأفراد، تعيش فى منزل يسر الناظر، وتحيا بنوع من الأناقة حتى وإن كان بسيطا. قد تتغير هذه الأمور بعدما تنقطع أموال عمل ساندرا، ولكن رؤية هذا الوضع المريح فى مقابل ركوض ساندرا خلف إستعادة عملها، وهلعها من فقده، يدفعنا إلى تأمل الأحداث من وجهة نظر أخرى تخص ساندرا وحدها.

هى إمرأة جميلة، تغالى فى إهمال مظهرها والإعتناء بأنوثتها، وفى المقابل تواظب على إدمان المهدئات. هذه الأعراض النفسية القوية وغيرها من بكاء مستمر، ونوبات عدم القدرة على النطق، توحى بما يعتمل فى صدر هذه المرأة من ألم.

لم يهتم السيناريو بإيضاح مسبباته بشكل تفصيلى. ولكنه دلل على دافع هام من دوافعه وهو التلميح حول شحوب علاقتها بزوجها على الرغم من صحة جانب الزوج، فى تصرفاته الداعمة على الدوام، والمهتمة على طول الخط. إلا أن ساندرا فى مشهد ما، تخبره بأنه لم يعد يكن لها الحب، بقدر ما يشفق عليها. وفى الوقت ذاته ترمى إلى عدم ممارستهما الجنس منذ شهور. اعترافات ساندار هذه يتلقاها المتفرج فى وقتها، بنوع من التصديق، أو على الأقل التشكك فى الوجه الآمن لما يبديه الزوج. ولكن بعدما تتقدم الأحداث، وتتأتى تبعات محاولة ساندرا الإنتحار، يُسلل إلينا السيناريو شيئا من اليقين، الذى يبرأ ساحة الزوج، ويضيف إلى تشوش نفسية ساندرا، وعدم قدرتها على بلوغ رؤية واضحة لكل ما يحدث من حولها.

لم يبالى السيناريو بترتيب ما أصاب ساندرا. هل إحساسها بالضآلة المتقدم كل أفكارها، والمغير لمسار تعاملها مع أدق الأمور، هو ما أوصلها إلى هذه النفسية المهزوزة، أم العكس.

ولكن السيناريو نسج هذه الحالة البائسة فى براعة. وخلق دورا ثريا ممتلئا بشتات هذه السيدة. التى قبل محاولة الإنتحار، وفى كل مرة تذهب إلى منزل أحدهم يُنتقص من داخلها شىء. لأنها فى بساطة تقيّم الأمر من جهتها بشكل سىء، يدعو إلى النفور، ويدفع المتفرج نفسه إلى تصديق الوضع الرخيص الذى ترى فيه نفسها. ولكن بعدما تتبدل نظرتها هى لما يحدث (بعد محاولتها الإنتحار، وشعورها بنوع من كذب نظرتها حيال شعور زوجها، ومعنى قتالها لعدم خسارة عملها) نجد أنفسنا أكثر تأقلما مع ما تواجهه.

فى هذا التوقيت من الطرح، يُبدى جانبا إيجابيا فى كل شىء، قسمات ساندرا، نبرة صوتها، وابتسامة ما بدأت تتقافز عنوة فوق شفتيها. ونستمع إلى زميلتها وهى تخبرها بأنها ستترك زوجها، ذلك الزوج الذى يتدخل فى حياتها لدرجة مشاجرتها بإستماتة حول تلقيها علاوتها من عدمها، فتقول الفتاة إلى ساندرا ” سأترك زوجى، لأول مرة أتخذ قرارا فى حياتى”. فبعدما كانت تنظر ساندرا إلى إجتهادها فى إستعادة عملها كنوع من التحريض على العنف، نتيجة لما كانت تراه يحدث بعد زيارتها لبعض منازل زملائها من شجار بينهم وبين ذويهم حول موقفهم من التصويت لها. نجدها كانت سببا فى مساعدة أحدهم فى التخلص من جانبا كابوسيا فى حياته، لم يجرؤ على التنصل منه قبلا. (إنها متوالية تغير صورة إنعكاس المرآة فى صمت).

حقيقية التنفيذ

كما أشرت من قبل، إختارالأخوان  داردينى الصورة المجردة لمحاكاة هذا الإنعكاس الداخلى لساندرا، دون أية تدخلات جانبية. فنجد تنفيذ الفيلم، إلتزم بهذا المنطق بالتبعية. حيث تبدت الكاميرا فى حركتها حرة، نابذة لقيود المونتاج إلا فى أضيق الحدود المحَتِمة للقطع، تتنقل بين الوجوه التى تتحدث فى انسيابية، وتلاحق خطوات تحرك الممثلين بالمشهد من مكان لآخر فى حيوية. إلى جانب عدم اللجوء لإستخدام الموسيقى، والإعتماد كليا على لغة المحيط المجاور.

فى حالة من الحالات النادرة التى على الرغم من تكررها فى أفلام كثيرة، تدفعنا دون غيرها لتذكر مقولة انطونيونى ” إن أصوات الطبيعة والمؤثرات، كما يسجلها الميكروفون مباشرة، لها قوة لا يمكن الحصول عليها فى التسجيل اللاحق” . إنه إنعكاس المرآة الخالص بكل ركونه الشكلى، وصخبه المتوارى.

آخر كلمتين:

دور ساندرا كان مستعدا ليفقد كل حضوره، إن لم تلعبه ماريون كوتيار التى وافقت على لعب الدور على الفور، من قبل قراءة السيناريو.

Visited 32 times, 1 visit(s) today