“ياخيل الله”: براعة البناء والإفلات من النمطية

إذا أردنا اختيار أكثر فيلم تعرض للظلم ضمن أفلام مسابقة مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية فسيكون بلا جدال الفيلم المغربي “ياخيل الله”، والذي خرج من المهرجان خالي الوفاض دون أي جائزة أو إشادة بالرغم من حصوله على إحدى الجوائز الفرعية في مهرجان كان الذي شارك به في “قسم نظرة” ما، وحصوله أيضا على جائزة أحسن سيناريو في مهرجان فيسباكو الذي يعد أكبر مهرجان سينمائي إفريقي.

عدم حصول الفيلم على أي تنويه يعد أحد أسباب حالة عدم الرضا العامة على اختيارات لجنة التحكيم التي انتصرت للأفلام ذات الحس التجاري كالفيلم الكيني “نيروبي نصف حياة” والحس الخطابي كالفيلم التونسي “مانموتش” الذي توج بجائزة المهرجان الكبرى، وذلك على حساب الأفلام ذات القيمة الفنية الأعلى كفيلم “ياخيل الله” وفيلم هالة لطفي “الخروج للنهار” الذي منحته اللجنة تنويها بدا وكأنه محاولة لحفظ ماء الوجه.

بين التطرف الديني والخطابة

وبمقارنة سريعة بين الفيلمين المغربي والتونسي ستجد أن تيمة التطرف الديني تظهر بوضوح في كليهما وتعد المحور الرئيسي للصراع، وهو ما تكرر أيضا في الفيلم الجزائرى “يمّه” بصورة تعكس مدى شغل القضية لخيال المبدعين في المغرب العربي وربما في مصر أيضا.

ولكن بينما اختار المخرج التونسي نوري بوزيد، الذي يسرد حكاية خيالية تماما، شكلا خطابيا تتحدث فيه الشخصيات بلا انقطاع عن التطرف وعيوبه، وتقول إحدى الشخصيات فيه صراحة للمتطرف إن الثورة هي التي أخرجته وأمثاله من السجون لكي يحيلوا حياة من حولهم جحيما، فإن نبيل عيوش الذي تنطلق حكايته من أساس واقعي أظهر إخلاصا أكبر للإنسانية وابتعادا أكبر عن المباشرة والخطابة.

الحكاية لمجموعة من الشباب الذين شاركوا في أكبر هجمة إرهابية شهدها المغرب في تاريخه المعاصر، وهي هجمات 16 مايو 2003 التي راح ضحيتها عشرات الأبرياء في الدار البيضاء على أيدي أبناء وطنهم، ومعظمهم من سكان العشوائيات الذين يبحث الفيلم عن كيفية تحولهم من شباب يحلم بالمستقبل إلى قنابل موقوتة مستعدة للانفجار في نفسها قبل أن تنفجر في بني جلدتها.

وبالرغم من ضخامة الحدث الإرهابي، إلا أن نبيل عيوش قرر من البداية أن يهمشه تماما لحساب التفتيش عن مسبباته. والتفجيرات التي ينتهي الفيلم بها لا نراها صراحة بل نكتفي بلحظة وقوعها ثم نقرأ تبعاتها على شاشة سوداء، مع التأكيد على أن جميع المشاركين في الهجمة تقريبا ينتمون إلى العشوائيات ومدن الصفيح وعلى رأسها حي سيدي مؤمن الذي تدور أحداث الفيلم بالكامل تقريبا داخله.

قيمة المكان

المكان في “ياخيل الله” ليس مجرد مجموعة من الظروف الصعبة والأوضاع الاقتصادية المتدنية التي تدفع الشباب للتطرف، ولكنه عالم كامل من القيم الحاكمة التي تجعل من ينشأ وسطها بمعزل تماما عن العالم الخارجي بمعنى العزلة المادي والمعنوي. واكتشافنا في دقائق الفيلم الأخيرة عندما يصل يصل الشباب للدار البيضاء لتنفيذ مهمتهم أنها المرة الأولى التي يدخلون فيها المدينة التي يحييون في زمامها هو اكتشاف مخيف وصادم بحق، فأن تعيش حياتك على بعد أميال من مدينة الأحلام ولا تجرؤ على أن تخطوها هو أمر يوضح تلك العزلة التي يفرضها كل شيء على أبناء سيدي مؤمن، فهم محرومون حتى من إلقاء نظرة على أحلامهم!

هذه العلاقة الشائكة بين البشر والمكان يقدمها عيوش بحنكة منذ لحظات الفيلم الأولى، عندما نشاهد أطفالا يلعبون الكرة في ساحة عشوائية يحيط بها القمامة، لتنشب بينهم مشاجرة يكاد فيها الطفل الذي يسمي نفسه ياشين تيمنا بالحارس السوفيتي الشهير أن يتلقى ضربا مبرحا، ليتدخل شقيقه الأكبر حميد الأشبه بمشروع بلطجي فينقذه ويضرب من يعتدون عليه، قبل أن يتزايد عددهم لينقلب الموقف من جديد فيهرب الشقيقان ومن معهما لنراهم يركضون مذعورين وسط غابة الصفيح التي يعيشون داخلها.

التتابع السابق يتكرر بحذافيره في الفصل التالي عندما يصير الأطفال مراهقين، وفي بنائه وتكراره يكمن مفتاح خريطة أزمة فقدان كل المعاني، فالملعب ليس ملعبا والمتعة ليست متعة والأصدقاء ليسوا أصدقاء والشجاعة ليست كذلك، وكل هذا بسبب الانحصار داخل هذا السجن الحديدي الضخم، السجن الذي يصعب فيه تسمية الأمور بأسمائها فيتحتم أن يكون الناتج مشوها.

من لحم ودم

التوصيف السابق للعالم يغري جدا بتنميط الشخصيات وتحويلها لصور نمطية للإنسان المغلوب على أمره الذي تدفعه الظروف للخطأ، ولكن المخرج الكبير لم يقع في هذا الفخ، بل وعمل منذ اللقطة الأولى على التأسيس للشخصيات الرئيسية الثلاث وجعلها بشرا من لحم ودم، يحملون داخلهم الخير بجوار الشر فيجمعون بين صفات متضاربة هي سمة النفس البشرية بشكل عام، ولا سيما إذا كانت نفسا نبتت وسط هذا الخراب.

فالشقيق الأكبر حميد هو الأكثر بلطجة والمتسلح بما يجعله قويا على من حوله، لكنه رغم ذلك أول من يهرب عندما يستشعر الخطر، وهو يرغب دائما في حماية شقيقه الأصغر ياشين، لكن بشرط أن يظل الأخير في موضع التبعية، الموضع الذي ترفضه شخصية ياشين الأكثر تصميما وشجاعة فيكون الناتج المتكرر هي لحظات صدام تأتي كل فترة، بما يمهد تدريجيا لخلافهما الأكبر قرب النهاية عندما يجبن حميد عن تنفيذ المهمة، وهو رد فعل شديد الارتباط بالبناء المحكم لشخصيته.

بناء آخر بديع لشخصية، نبيل ابن راقصة الحي الذي تجبره مهنة والدته أن يكون مهانا وسط أصدقائه، لتبلغ قمة المهانة في التقاطع المونتاجي بين رقص والدته بأحد الأفراح مع قيام حميد باغتصابه، وهي جريمة وليدة البيئة والشخصيات معا كان لها أثر بالغ في حياة جميع الأبطال، فنبيل لم يعد سويا بعدها، واحتفظ بلمحة مثلية تتمثل في ارتدائه قرطا في الأذن وطريقة ملبسه، ولكنها مثلية عاطفية أكثر من كونها جنسية، يعتمد فيها على صديقه وملاذه الوحيد ياشين، ولكنه يرفض محاولة اعتداء جنسي أخرى عليه فيقتل فاعلها لتكون الخطوة التي مهدت دخوله ومن معه ليكونوا من خيل الله!

خيل الله.. الملاذ

في عالم بهذه المواصفات يصبح القتل أمرا عارضا، مثله مثل السجن والخيانة والجوع والأمور التي تعلم الجميع أنهم يعيشون في جماعة شكليا فقط، لكن حقيقة الأمر أن كلا منهم يعيش حربه المنفردة للبقاء على قيد الحياة، لذلك لا يهتم المخرج كثيرا بتوضيح الطريقة التي تمكنت الجماعة المتطرفة من خلالها من أن تبرئ نبيل وياشين من جريمة القتل، ولكن الأهم هنا قيمة هذا الفعل بالنسبة لهما، فهو أول حدث يقع في حياتهما يشعرهما بالانتماء لجماعة ما، جماعة يتكاتف من فيها لحماية بعضهم بعضا، وهذا هو المحرك الرئيسي الذي دفعهما ومن معهما إلى ما فعلوه.

وتأكيدا على ما سبق يخبرهم الإمام أنهم قد صاروا خيل الله المدافعين عن دين الحق، ليجمعهم انتماء واحد ومسمى واحد وهدف واحد للمرة الأولى، ولهذا يسهب المخرج في مشاهد تدريب المجموعة قبل تنفيذ العملية، ليس من باب الإعداد القتالي فهو أمر بعيد عن طرح الفيلم، ولكن من باب التأكيد على أن تواجدهم معا ليحملون السلاح ويتحدثون ويلعبون الكرة لأول مرة في الفيلم دون أن تنتهي المباراة بمشاجرة هو الملاذ الذي لجأوا إليه ليشعرهم أخيرا بآدميتهم.

في حالة كهذه تصبح التضحية بالحياة مجرد ثمن بسيط، بل يكاد يكون هو الآخر انتصارا نفسيا لمن وجد نفسه أخيرا يموت من أجل هدف ليحدث فارقا، بدلا من مصيره المتوقع للموت بلا سبب ليكون حدثا عارضا لا يتوقف العالم عنده على الإطلاق!

Visited 19 times, 1 visit(s) today