هناك كثير من العفن في مهرجان قرطاج السينمائي
مهرجان قرطاج السينمائي تظاهرة سينمائية حققت منذ انطلاقتها سنة 1966 نجاحا فنيا لافتا ومصداقية إبداعية خلاقة من خلال خلق جسور التعاون المثمر بين العالمين الإفريقي والعربي ، وذلك بتقديم أجمل الإنتاجات الفيلمية وعقد أقوى اللقاءات والحوارات الفنية والعمل على توثيق شراكات بين المنتجين والمخرجين والسينمات المختلفة.
شكل مهرجان قرطاج منذ دوراته الأولى، بدايات حضور السينما الإفريقية والتعريف بمبدعيها الكبار، تعريف تحقق وترسخ قبل وجود مهرجانات تالية تهتم بسينما القارة السمراء، أي قبل مهرجان بانافريكان بواغادوغو البوركينابية أومهرجان خريبكة المغربي، مهرجانان ورغم أهميتهما يعتبران تابعين تاريخيا وفنيا لقرطاج وسائرين على هديه السينمائي الحق.
لعب المهرجان دورا كبيرا في التعريف بالسينما العربية في بلدان العالم الإفريقي وتقريب تجاربها المختلفة لعشاق السينما، فأضحى الإفريقي يعرف السينما المصرية بروادها الكبار والسينما المغربية بتجاربها القليلة لكن القوية والسينما الجزائرية بسينماها النضالية والسينما التونسية بأفلامها المجددة والسينما السورية بلحظاتها القوية.
مهرجان ما كان ليكون ويقوم بدوره الخلاق لولا أسماء تونسية محددة، أسماء من عينة الكبير الرائد طاهر شريعة والمنتج المستنير الراحل أحمد عطية ونبيل السينما العربية نجيب عياد، وعشاق آخرون للفن السابع المؤمنون بدور الثقافة في تقريب الشعوب والقضاء على الحساسيات السياسية المتخلفة، عشاق أغنوا السينما التونسية ومعها الإفريقية والعربية بأعمال فيلمية حقيقية كالنوري بوزيد ومنصف ذويب والطيب الوحيشي ومحمود بنمحمود وفاضل الجعايبي.
مهرجان بهذا الحجم والدور ينعقد اليوم في ظل ظروف سياسية صعبة تهدد وجوده ، تهديد يسانده ويقوي مخاطره ، تسلط زمرة فاسدة على مقاليد تسييره ، زمرة لم تعد تنظر ابعد من ظلال أنوفها ولا تزن الأشياء إلا بميزان مصالحها وما يضمن حضورها الهش في الواجهة الزجاجية المشروخة والاقتراب الفج من رائحة مال بعض الصناديق السينمائية المشبوهة المدعمة لأعمال فيلمية لا ترى في العالمين الإفريقي والعربي إلا فضاءات مفتوحة لتمرير خطاباتها العنصرية ورؤيتها المشفوعة بالكراهية لما ينتج ويروج من إبداعات سينمائية منتصرة للثقافات المحلية.
وضع مأزوم
بوادر الوضع المأزوم لاحت منذ دورات خلت مع السيدة الحديدية المعروفة، بالبحث عن مواقع لها وبتشكيل لوبيات تحفظ مصالحها الآنية، لوبيات ضمت ولا تزال تضم أشخاصا ليس لهم من هم إلا البحث عن طرق للتموقع والإستفادة من الوجبات السريعة لصناعة أفلام لا يشاهدها أحد ولا يعترف بوجودها النقاد والصحفيين والمثقفين.
الفساد داخل أروقة إدارة المهرجان فاحت رائحته أكثر خلال التحضير للدورة الحالية وتعيين تاجر سينمائي على رأس مؤسسته، تاجر (واجهة) لا يرى في المهرجان إلا حلبة لممارسة هواياته التجارية المربحة، والبحث عن الربح السريع، ولوعلى حساب رسائل السينما السامية وسمعة الوطن المهددة اليوم من مخططات تكفيرية ظلامية، تعيين مشبوه وممجوج ما دام ارتضى صاحبنا (صاحب فيلم “هز ياوز”، تأملوا العنوان جيدا) أن يلعب دور المدير الشبح، مدير تسيره من وراء الستار للمرأة المذكورة أعلاه، امرأة ورغم رحيلها الرسمي لم تتخلى عن الإمساك بخيوط اللعبة والتحكم عن بعد في الرقاب المنحنية وتحريك الخيوط من وراء الستار بحنكة عالية، تحريك يخدم وجودها ومصالحها ومصالح شرذمتها الفانية مثلما يمهد لعودتها الآتية.
مجرد هلوسات
أنشطة الدورة الحالية (الدورة 26) مجرد هلوسات وخطوط باهتة لبرامج سينمائية فجة، برامج تخدم نزوات شلة مأفونة وتمنح مسكنات اصطناعية مهزوزة، 17 فيلما عربيا وإفريقيا ضمن المسابقه الرسمية، نصفها تقريبا يمثل ثلاثة بلدان مغاربية (المغرب الجزائر وتونس)، ليتبقى لمجمل البلدان الإفريقية والعربية (المتجاوز عددها 60 دولة) 11 فيلما يتصارع أصحابها لتقديمها وإثبات وجودها، بمعنى أن السيد المدير الجديد رفقة لجانه المتحكم فيها، فضل أن يرضي بلدانا بعينها بدل إرضاء الأهداف المسطرة من خلال القوانين الواضحة الفصيحة في ضرورة الانتصار للسينما، أي قوانين تنص على إشراك اكبر عدد من الدول في هذه الاحتفالية السينمائية.
والأدهى أن جل هذه الأفلام عرضت في مهرجانات عديدة، بمعنى أنها أفلام مستهلكة من كثرة تجوالها على المهرجانات الدولية، مما يؤكد أن منطق العلاقات والمصالح هي المتحكمة في عمليات الإختيار وليس هاجس البحث عن الجدة والجديد.
الغريب العجيب، حسب المتتبعين والعاشقين لتفاصيل الحياة الفنية التونسية، تعرض الدورة الحالية لمياه آسنة جارفة قادمة من الدول الأوروبية، مياه شركات وصناديق تمويلية تبحث عن مصالحها المالية وتكريس مفاهيمها الفلكلورية الذاوية ، قبل البحث عن المصالح السينمائية لدول الجنوب، وتغرق البرنامج العام للدورة بأفلام عربية وافريقية الجنسية لكن غربية الهوية.
سياسة التخبط
سياسة التخبط والإرضاء ذهبت بعيدا في الإنحناء ومد الرقبة بشكل جد مكشوف لشخص من المغرب (هو صديق الروح بالروح للمديرة القديمة) يتلذذ بوضع “فيتو” سينمائي أمام تواجد أفلام معينة، خاصة منها المغربية، أفلام لا يوجد مخرجوها ضمن دائرة نفوذه ولا يتمتعون برعايته السامية.
الأدهى انه فرض فيلم ” الزين اللي فيك ” ليكون ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة، ليس حبا في الفيلم أوصاحبه، وليس دفاعا عن حرية الرأي والإبداع، وإنما إمعانا في الضرب من تحت الحزام و”الانتقام”، أولنكن أكثر دقة، تكريسا لثقافة “التقلاز” من تحت الجلباب لأشخاص ساهموا في منع خروج هذا الشريط والحصول على تأشيرة التوزيع في بلده الأصلي المغرب (هذا لا يعني أنني ضد خروج الفيلم وحريته في الوجود، وإنما أشير وأدين الإنتهازية السينمائية، والركوب على مفاهيم حرية التعبير من اجل قضاء المآرب الدنيوية الفارغة).
المدير الشبح (معه الزمرة المسيرة للمهرجان)، بمده الرقبة لسكين الانتقام من المغرب والمغاربة وإختياره صف البحث عن المصالح الذاوية من خلال الحلم بالحصول على دعم صناديق وهمية لمشروعه الفيلمي القادم من الشخص العازف عل أوتار الطمع، يجر مهرجان عريق نحونهايته، نهاية سيتحمل وزرها ما عاشت السينما التونسية وما صمدت السينما العربية والإفريقية في وجه الأعاصير العاتية لمطرقة الإنتهازية وسندان المخططات الثقافية الغربية.
لا يسعني في النهاية، إلا أن أردد على غرار ما ردد شكسبير على لسان هاملت: فعلا “هناك الكثير من العفن في مهرجان قرطاج السينمائي”.
* ناقد وإعلامي من المغرب