“هم الكلاب” لهشام العسري.. سينما ضد الصورة!
لا يقترح علينا فيلم “هم الكلاب” ((2013) للمخرج المغربي هشام العسري، حكاية بطلها من لحم و دم.. لا يقترح إنسانا “حقيقيا”، و إنما هو يقترح “بطلا” هو عبارة عن صورة تلفزيونية. خلال كل تنامي المحكي الفيلمي يمضي بنا هشام العسري لإرباك أو خلخلة هذه الصورة بأشكال مختلفة.
لم تعد مهمة السينما هي تقديم صورة عن “الواقع”، و إنما التشويش على الصورة النمطية التي تقدم نفسها بوصفها الصورة النموذجية عنه. هذا المسعى نحو التشويش، وخلخلة الصورة الجاهزة، عبر عنه هشام العسري بوضوح في أكثر من مناسبة حينما قال: “للسينما لغتها التي تتمثل في وسائلها التعبيرية المتاحة، ودور المخرج يأتي لمساءلة هذه اللغة. علينا أن نثبت أن الكاميرا ليست تسجيلية فقط، وعلى المخرج أن يخلخل لغتها ويختبر تخوماً بعيدة فيها، كما حصل للغة الشعر والنثر تماما”.
ذلك ما سنحاول استجلاءه من خلال وقوفنا عند بعض المفاصل الأساسية في الشريط السينمائي “هم الكلاب” (2015)، الذي يعتبر الشريط الروائي المطول الثاني للمخرج هشام العسري، بعد فيلمه الروائي المطول الأول “النهاية” (2011)، و بعد سلسلة من الأعمال التلفزيونية و الأفلام الروائية القصيرة.
سيمياء الإلغاء و الخراب
كل ما يقدمه هشام العسري في فيلمه “هم الكلاب”، يسعى في اللحظة ذاتها إلى إلغائه. كل التقنيات والعلامات تؤول إلى ما هو ضدها. كلما اعتقدنا أننا نقترب من حقيقة ما في الفيلم، ما نلبث أن نجد أنها تهرب منا. مثلما يشوش على علاقتنا بالصورة، يشوش أيضا على علاقتنا بالمعنى. حركة 20 فبراير هي مثل داء جنون البقر أو أنفلوانزا الخنازير. المناضل والمعتقل السابق “رشيد دخان” يتحول إلى صحفي ملتبس. الآباء منافقون همهم الوحيد هو تحويل الأبناء إلى ماكينات تدر الربح.. الابن الذي ظل الأب يبحث عنه طيلة الشريط يقوم بطرد أبيه من البيت. الحبيبة التي من المفترض أن تمنح الحب لا تكون سوى شاهد على الموت.
ولكن الرجة القوية التي سعى المخرج إلى إحداثها في وعي المتفرج، و في لاوعيه معا، هي تلك التي يوجهها للصورة بالذات.
اشتغل هشام العسري في التلفزيون و في السينما معا. و هو يعرف أكثر من غيره أن التلفزيون ليس سوى فخ وهمي كبير. ذلك ما حاول صياغته في فيلمه الذي أنجزه بعدما أنجز مجموعة من الأشرطة و المسلسلات للتلفزيون و السينما. في الصورة السينمائية هناك إمكانية لتحقيق تلك المتعة النادرة التي يعجز التلفزيون عن بلوغها: خلخلة نمطية الصورة، و التشويش على نرجسيتها و هيمنتها في عالمنا الراهن.
مجموعة من الشخصيات الهامشية تصارع لتجد لها مكانا على شاشة التلفزيون، لأن لهذا الأخير قدرة على الإيهام بأنه في ملكية الجميع. “بغيت نبان فتلفازتي” (أريد أن أظهر في تلفزتي)، يقول أحد المهمشين في الفيلم. لكن المشهد المشوش لمحاولة انتحار 404 في البحر يكشف أن الهدف الأسمى للتلفزيون عموما هو استغباء المشاهد. لجوء 404 إلى البحر يصور ويقدم للمتفرج بوصفه انتحارا قصد التسويق التلفزيوني، مع أن النية كانت غير ذلك.
يجعلنا هشام العسري من خلال فيلمه، كما سنبين ذلك أكثر في الفقرات التالية، نخترق معه أجناسا فيلمية متعددة. من جنس الفيلم الفانطاستيكي، مرورا بالفيلم البوليسي، فالفيلم الوثائقي، مع أن الشريط قد يندرج أساسا ضمن ما يعرف بسينما الطريق.
في طريق بحث 404 عن زوجته و أبنائه، تنكشف أمامنا صور متكررة لمدينة عنيفة. تحاول الصورة أن تمسك بهذا العنف المستفحل من خلال إنجاز صورة مضادة. صورة مشوشة و مهتزة باستمرار. صورة ليست معنية فقط بتصوير “الواقع”، و لكن أساسا بالتقاط و خلخلة و إرباك الذات التي من شأنها تصوير هذا “الواقع”.
من جانب آخر، فإن الانطباع الطاغي على أجواء الفيلم هو الانطباع أو الإحساس بنهاية ما. هشام العسري مسكون بهاجس النهاية. تستحوذ عليه فكرة نهاية العالم. لذلك اختار “النهاية” بالذات عنوانا لفيلمه المطول الأول، وهي الفكرة الطاغية أيضا في أشرطته القصيرة وخاصة شريط “أندرويد”. “نهاية الإنسان”.. “نهاية الحقيقة”.. الشعارات الكبرى التي غذت مخيال الأجيال السابقة أضحت اليوم بلا معنى.. لكن النهاية أيضا وبالأساس هي نهاية السينما الممؤسسة القائمة على نظام النجوم، وعلى هيمنة المؤسسات الرسمية. وليس غريبا أن يكون هشام العسري قد أخرج فيلم “النهاية” في نفس السنة التي كان المخرج لارس فان تريير قد أنجز خلالها فيلما متميزا في هذا السياق بالذات هو فيلم “ميلانكوليا” (2011). نهاية العالم لا تنفصل عن الرعب الداخلي الذي يعيشه الإنسان في الوضعية المعاصرة المتميزة بالغموض و غياب المعنى.
في “هم الكلاب” يحضر هذا الشعور الغامر بالنهاية في مشاهد متعددة نخص بالذكر منها مشهد اختناق الصحفي رشيد دخان. فكما لو أن العالم اكتسحته غازات سامة تجعل الإنسان عاجزا عن التنفس بكيفية طبيعية. النهاية أيضا من خلال معركة الطاقم التلفزيوني مع مهمش يريد الظهور على شاشة التلفزيون. خلال المعركة تهتز المدينة كلها بأشخاصها و بناياتها كما لو تعلق الأمر بزلزال مدمر. لا ننسى أن فكرة نهاية العالم لا تنفصل في العديد من الثقافات عن فكرة الزلزال الكاسح الذي يأتي ليدمر الأرض و من عليها.
الصورة.. الاسم المفقود
ظاهريا تتقدم الحكاية في “هم الكلاب” على الشكل التالي: خلال تظاهرة احتجاجية لحركة 20 فبراير، تقتنص كاميرا طاقم تلفزيوني شخصا تائها نعرف أنه خرج لتوه من سجن قضى به حوالي ثلاثين سنة، منذ اختطافه خلال إضراب يونيو 1981 بالدار البيضاء. و هو مسكون بهاجس واحد يبذل قصارى جهده لتحقيقه: العثور على زوجته و أبنائه.
هذه الأحداث التي يسردها الفيلم لا تهم إلا بقدر ما تمضي لتخلخل الصورة النمطية للواقع كما تعلن عن نفسها من خلال الصورة التلفزيونية. الصورة في الفيلم تبدو منذ البداية مشوشة. الصوت يعرف أعطابا متكررة. الكاميرا تتم سرقتها، و مع كونها مسروقة تحافظ على التقاط مظاهر من “واقع” منفلت مهتز. الطاقم التلفزيوني تائه لا يعرف ما يريد بالضبط. يبحث عبثا عن صورة يمكن أن تحظى بإقبال جماهيري واسع. “لطفي” المعلق التلفزيوني لا شغل له إلا ذلك الشخص المجهول الذي كتب لزوجته رسالة هاتفية يشتمها فيها، و هلم جرا.
اللقاء بين الطاقم التلفزيوني و”البطل” الذي أضاع اسمه تم بصدفة غريبة هي من صنع الصورة نفسها، بما هي عُدة تكاد تكون مستقلة عن الفاعل. لا يتحكم الطاقم التلفزيوني تماما في الصورة التي ينقلها عن “البطل”.. الصورة ليس لها فاعل محدد.. و كأية صدفة، لم يكن مخططا لها بشكل مسبق. الصدفة هنا تحمل دلالة الصدمة، ما ليس متوقعا، لكنه ضروري في نفس الوقت، و لأنه ضروري فهو ما ينفك يعود بأشكال مختلفة.
إن “البطل” – أو “الخطأ” 404 – أدى دوره باقتدار كبير وتميز الممثل حسن باديدة – لا يتذكر اسمه الحقيقي. لقد أضاع ما يشكل أساس وجوده ككائن اجتماعي، و هو الاسم. ذلك أن 404 كما قلت هو أساسا صورة، يندرج تحديدا ضمن المستوى الخيالي، و هو قد ضيع علاقته المنسجمة بالرمزي، و من هنا مأساته كما سنرى. الصورة بدون اسم لا معنى لها و لا قرار. الصورة بلا اسم عبارة عن خطأ.
من خلال عمل تقعيري mise en abîmeبين الصورتين السينمائية والتلفزيونية، لا يبدو “البطل” سوى صورة محكومة بالتيه داخل مدينة شاسعة. تصدع علاقته بالرمزي يجعل منه شخصا ميتا من جهة، مثلما يجعل منه شخصا عاجزا عن إيجاد مكان مستقر و معترف به داخل المجتمع. 404 في مستوى آخر هو شخص فاقد لرجولته أو فحولته. عندما تعرض “راوية” (نادية نيازي) على “البطل” نفسها يرفض مضاجعتها. عندها تعلن له عن موته. داخل المنظومة الرمزية عموما، الرجل الذي لا يملك القضيب هو رجل ميت. وهو ليس جديرا لا بزوجته و لا بأبنائه.
الصورة .. نزوة الموت
منذ بداية الشريط يقدم “البطل” بوصفه شخصا ميتا. يطلب المعلق التلفزيوني من زميله في البداية التقاط صور له.. يرد المصور قائلا: “لماذا تريد تصوير هذه الجثة؟”.. بنية التكرار و الاستحالة التي نرصدها في الشريط هي بنية هذا اللقاء المتكرر مع الموت. ظاهريا يدرك “404” أنه يبحث عن زوجته و أبنائه، لكنه في العمق لا يبحث و لا يجد سوى الموت.
إن اللقاء مع الصورة هو أساسا اتجاه محتوم نحو الموت. من هنا صور الموت و القتل الكثيرة جدا في الصورة العالمية. لذلك، لمواجهة الموت المستفحل بهذا الشكل وجب التحرر من الصورة. هذه الأخيرة كما أسلفت هي البطل الحقيقي للفيلم. تتلقف 404 و تجعل من حكايته موضوعا لفرجة بهاجس بلوغ جمهور واسع، أو بهاجس الربح السريع. لكن المحفل السردي يكشف لنا عن هذه الصورة بوصفها هي نفسها صورة معاقة. يؤطر “البطل” مسحوقا داخل فضاء يتجاوزه كما في أفلام لانغ أو مورنو التعبيرية؛ أو عبر لقطات غاطسة، زوايا معتمة، ممرات جد ضيقة.. تأطيرات غير مألوفة.. صور مشوشة كما في مشهد “الانتحار”.. كل ذلك ضمن مسارات دائرية هي تعبير عن دورة الزمن أو ثباته في العمق، ومن خلال حركات كاميرا حادة و عنيفة، و بمنأى عن القواعد والتقنيات السينمائية السائدة من قبيل تقنية الحقل و الحقل المعكوس و غيرها.
في هذا السياق الخاص بالصورة و الموت، من أكثر المشاهد تأثيرا وقوة في شريط “هم الكلاب”، وهو من المداخل الأساسية لمقاربة الفيلم، مشهد زيارة “البطل” لقبره الشخصي داخل المقبرة التي دفن بها عند اختفائه.
تؤطر الكاميرا “404” من الخلف و هو يتجه قدما نحو موضع قبره. يقف لحظة أمام قبره في لقطة جد مؤثرة، فيما نتأكد من خلال حوار الطاقم التلفزيوني أنه قبره الشخصي.
هذا المشهد بقدر ما يحيل إلى جنس الفيلم الغرائبي، فهو يحيلنا أيضا إلى سجل آخر هو سجل اللاوعي باعتباره يقبل مثل هذه التناقضات بداخله. هذه المواجهة ضرورية بين “البطل” حيا و ميتا. القبر في هذه الحالة هو بمثابة لوحة الفانطازم. اللوحة التي تغلق الفضاء و تفتحه في نفس الوقت. القبر ينهي المسار، لكنه في نفس الوقت يفتحه على النهاية. الانفتاح قائم على النظرة المتبادلة. لا ينظر 404 إلى قبره، و إنما ينظر إلى نفسه منظورا إليه بعيني “البطل” الميت الذي مازال رغم موته قادرا على الرؤية.
في فيلم “روك القصبة” لليلى المراكشي يتفرج الأب مولاي الحسن و هو ميت، يتفرج على نفسه ميتا و يشاهد عضوه الذكري منتصبا و هو ممدد على سرير الموت. لا وجود للإنسان كأب إلا داخل هذا الانشطار بين الحياة و الموت. لا معنى لأحد الشطرين بدون الآخر. كل شطر يستمد وجوده و قيمته من الآخر. و ما هو أساسي أن الموت لا تعني نهاية النظرة و المشاهدة.
هذا الاستلاب في الصورة من خلال التوله المجنون بها سعت السينما كثيرا إلى استلهامه، كما فيلم “كيكا” لبدرو ألمودوفار (1993) حيث لا ينفصل شغف رامون بالصورة الفوتوغرافية عن انسكانه بانتحار أمه، و حيث يطغى هاجس التلفزة-الحقيقة على أندريا إلى درجة تصوير كيكا خلال لحظة اغتصابها قصد تحويل هذا الاغتصاب إلى فرجة تلفزيونية.
الجسد.. مكان الآخر
على مستوى آخر، في مواجهة نمطية الصورة السائدة و ابتذالها، يقترح شريط “هم الكلاب” مجموعة من العلامات التي تجعل السينما قادرة على الإمساك بما هو في أساس الكينونة الإنسانية. قبل حوالي ثلاثين سنة يخرج الأب من بيته ليقتني عجلة لدراجة ابنه وورودا لزوجته. يتم اختطافه. بعد 30 سنة تقريبا يعود بنفس الهاجس، اقتناء العجلة. يقتنيها فعلا، و يمضي بها إلى أن يسلمها لابنه الذي أصبح بطلا في الدراجات من غير ما حاجة لأبيه الغائب. النجاح الذي يحققه الابن لا يتأتى إلا من خلال “قتل” الأب، و الانتقام منه من خلال إيجاد زوج آخر للأم.
بذلك نكون إزاء وجه آخر للأوديب في السينما المغربية. في فيلم “سميرة في الضيعة” للطيف لحلو كنا قد شاهدنا الأب (محمد مجد) كسيحا طوال المحكي الفيلمي، و هذا الكساح و العجز هو ما يفسر العجز الجنسي الذي يعاني منه الابن. سلبية الابن ناجمة عن العجز عن قتل الأب، بينما في “هم الكلاب” الأمر مختلف..القتل الرمزي للأب ضروري لتستمر الحياة.
إن اللعب الذي توحي به العجلة هو في أساس العلاقة التي تجمع “البطل” بالسلسلة الرمزية. لعب مبني على أساس الحضور و الغياب. و هي اللعبة التي تحكم كامل البنية الفيلمية. حضور 404 بعد غيابه لفترة زمنية طويلة.
في مقابل غياب الاسم الشخصي يتشبث 404 بقوة بعجلته. من خلالها يحاول الإمساك بالتناقضات الكثيرة المحيطة به، تماما مثلما يحاول طاقم التصوير التحكم في التناقضات من خلال شره الصورة.
معنى ذلك، بكيفية لاواعية، أن 404 إنما يعيد سيناريو طفولته الخاصة. اللغة التي يتكلمها هي لغة مرتبطة باللذة المباشرة كما هي لغة الأطفال. “فيا الجوع”..”آشناهوا إيسيميس؟”. إنه طفل تائه لم يتمكن من أن يعيش طفولته بسلاسة بفعل الصدمة القوية التي تلقاها، و التي ليس الاختطاف سوى استعارة لها. العجلة بما هي علامة على اللعب ترمزن حضور و غياب الأم. و ما الزوجة التي ظل يبحث عنها طوال الفيلم سوى صورة للأم الغائبة. عندما يشاهد امرأة في الشارع العام يهرع نحوها تماما كما يهرع الطفل نحو أمه. و عندما يلج غرفة زوجته يبدو مثل طفل مذنب يطلب الصفح من أمه الغاضبة.
في نهاية الفيلم، داخل البلاطو التلفزيوني، يصوب 404 نظره إلى الكاميرا و يقول مخاطبا الجمهور: “أنا من مواليد الدار البيضاء.. ولدت سنة 1950.. اسمي (…)”، لا يتذكر اسمه. تعم الظلمة الشاشة، و تنبجس الكتابة. طوال تنامي المحكي الفيلمي كانت الصورة السينمائية كثيرا ما تتماهى مع الصورة التلفزيونية. لكنها ما تلبث أن تحاول اتخاذ مسافة منها.. في النهاية تكاد تنتصر الصورة التلفزيونية، لكن غياب الاسم الشخصي، غياب اسم الأب يعمل على تأزيمها في الأخير.. لا وجود لصورة من غير اسم، أي من غير الآخر.
تنتهي الصورة أخيرا و تبدأ الكتابة.. الكتابة قادرة على تحرير السينما من هيمنة و نمطية الصورة. و الكتابة أيضا تحررنا من الصوت (الآلي)، و تجعلنا نستعيد لحظة من متعة السينما الصامتة. يلتقي الحنين إلى الطفولة (عجلة الدراجة) مع الحنين إلى بدايات السينما مما يعطي الفيلم طابعا نوستالجيا حميميا. هذا العشق للسينما الصامتة حاضر بقوة في سينما هشام العسري، كما هو واضح بصفة خاصة في فيلمه “أندرويد” الذي يغيب عنه “الكلام” بينما تحضر الكتابة بشكل جلي، أو كما في فيلم “النهاية” المصور باللونين الأسود و الأبيض.
الدار البيضاء.. العنف و المدينة
تحضر الدار البيضاء في الفيلم كمدينة عنيفة. لكن العنف الذي تعرفه المدينة سبق أن شاهدناه بأشكال مختلفة في مجموعة من الأفلام التي جعلت من هذه المدينة فضاء لها. إنه عنف ملحوظ، بأشكال مختلفة، في أفلام “حلاق درب الفقراء”(1982) للمرحوم محمد الركاب، و “حب في الدار البيضاء”(1991) لعبد القادر لقطع، و”الدار البيضاء باي نايت” (2003) لمصطفى الدرقاوي، و”كازانيكرا”(2008) لنورالدين لخماري إذا اكتفينا فقط بهذه النماذج. لكن العنف في “هم الكلاب” هو أولا و قبل كل شيء عنف الصورة نفسها. الصورة مهتزة و مضطربة طيلة المحكي الفيلمي.
الأمر أشبه ما يكون بتلك الفيديوهات الهاوية التي كان يلتقطها هواة خلال أحداث الربيع العربي، و يبثونها على اليوتوب… و كانت مصدرا أساسيا للعديد من القنوات التلفزيونية العالمية.. صور شاهدة على أزمة مرحلة بكاملها.
هشام العسري يدرج شريطه في هذا السياق بالذات. إنه يريد التقاط الـ”واقع” كما هو في طزاجته. في لحظته كما هي بدون رتوشات و مساحيق السيناريو و الإخراج. صحيح أنه كان قد اشتغل على كتابة السيناريو لمدة سنة و نصف، لكن السيناريو تمت صياغته لإنجاز فيلم سينمائي يبدو كما لو كان متمردا على الشكل الجاهز للسيناريو التقليدي. السينما تنتعش خارج القوالب الجاهزة للسيناريو و الإخراج. الأمر عنده شبيه إلى حد ما بالسينما-العين عند دزيغا فرتوف. لكنه يبتعد عن دزيغا فرتوف من حيث هو لا يسعى إلى تمرير خطاب عقلاني/ إيديولوجي محدد، كان هو الخطاب الماركسي عنذ فرتوف. سينما هشام العسري أقرب ما تكون إلى سينما جوناس ميكاس التي تندرج ضمن سينما الأندرغراوند النيويوركية.
في “هم الكلاب” تلتقط الكاميرا بحدة و بشكل سريع لاهث الأحياء والأزقة الهامشية للبيضاء..تلتقط الشخصيات الرئيسية لكن في تداخلها مع غيرها من ساكنة المدينة. الكل يتقدم نحو الكاميرا ليأخذ قسطه أو حصته على الشاشة. الزمن يدور و الانطباع السائد هو أن هناك نهاية ما. على المستوى المحض ذاتي، عندما بدأ العسري بإخرج أعماله السينمائية، كان ذلك مؤشرا على أنه انتهى من مرحلة ليدخل مرحلة أخرى. نهاية عالم. و في فيلمه “النهاية” حاول رصد نهاية مرحلة المراهقة بالنسبة له من خلال حدث سياسي وطني هو حدث موت الملك المرحوم الحسن الثاني..
وقبيل إنجاز فيلم “هم الكلاب” كان العالم العربي قد مر بأحداث شكلت رجة قوية هزت أسس الكيان الاجتماعي و النفسي للإنسان العربي، و هو ما اصطلح عليه بـ “الربيع العربي”. كل ذلك، إذا أضفنا إليه ما يعرفه العالم من تهديدات على مستويات متعددة، يفسر هذا الانسكان بالنهاية عند هشام العسري. يقول: “لدينا انطباع اليوم بأن تاريخنا توقف وأصبحت لدينا قناعة بأننا ضحايا أنفسنا، شئنا ذلك ام أبينا”.
404 “بطل” قادم من عالم الموتى ليكون بذلك شاهدا على نهاية عالم. و لكن ليكون أساسا شاهدا على نهايته الشخصية. أشرنا في فقرة سابقة إلى فيلم “ميلانكوليا” للمخرج الدانماركي لارس فان تريير. و في فيلم “ليلة الموتى الأحياء” للمخرج جورج روميرو (1960) يعود الموتى إلى الحياة خلال ليلة مأساوية دامية ليقتلوا بوحشية كل من يصادفوه في طريقهم. و ليست هناك إلا إمكانية واحدة للتخلص من هؤلاء، التسديد نحو الرأس مباشرة. و ستحتضن ألعاب الفيديو بدورها هذه الظاهرة الخاصة بالموتى الأحياء، لتمضي بها إلى حدودها القصوى. لكن 404 لا يعود كما أبرزنا إلا بهاجس واحد يشغله، هو أن يعثر على زوجته و أبنائه. غير أنه لا يعثر إلا على حقيقة واحدة مؤكدة بالنسبة له: ألا و هي موته.
لا يمكنني أن أنهي هذه المقاربة لفيلم “هم الكلاب” من غير الإشادة بالدور المتميز للممثل المقتدر حسن باديدة. نجح هشام العسري في أن يقدم لنا ممثلا كبيرا بكل المقاييس. كان المخرج الكبير بازوليني يقول: “إنني لا أخطئ الوجوه”.. و يظهر أن العسري يمتلك بدوره هذه الموهبة النادرة. حسن باديدة هو ممثل ضد الممثل إذا جاز التعبير. ممثل يستحث المشاهد على مساءلة وظيفة الممثل من خلال المسافة التي يتخذها في العلاقة مع نسق النجوم السائد.
ولعل من أجمل ما يمتلكه هذا الممثل المتفرد هو نظرته المتميزة التي فيها بالذات يكمن سر قوته. نظرة يعرف كيف يحملها معاني متنوعة. نظرة مندهشة. متأنية. عميقة. شاردة. منددة… قبل “هم الكلاب” كان حسن باديدة قد تألق بصفة خاصة في فيلم “أندرومان.. من دم و فحم” (2012) للمخرج عز العرب العلوي، من خلال دور “بوغابة” (حارس الغابة) كاشفا عن إمكانيات هائلة، و في “هم الكلاب” نجح في أن يقدم للمشاهد أبعادا أخرى جعلته يضخ دماء جديدة في السينما المغربية هي بأمس الحاجة لها، بفضل العمل السينمائي الجميل لمخرج يشكل حالة متفردة في مسار السينما المغربية.