هذه صورتي وأنا ميت”: فلسطين من النضال إلى الاقتتال
“هذه صورتي وأنا ميت” عنوان صادم للفيلم التسجيلي الذي أخرجه المخرج الفلسطيني الأردني محمود المساد. في هذا الفيلم الذي يبلغ زمن عرضه 81 دقيقة، يلتقط المساد خيطا دقيقا لشخصية من الشخصيات المنسية، من فترة النضال الفلسطيني في السبعينيات، هي شخصية مأمون مربش، الذي كان أحد المناضلين في صفوف المقاومة المسلحة في حركة فتح في بيروت.
هذا الرجل الذي ساهم في الكثير من عمليات المقاومة بل، وأشرف أيضا على الإعداد لعمليات بطولية منها عملية المناضلة الشهيدة دلال المغربي كما يظهر في الفيلم، أي مأمون مربش، ترصد له عملاء الموساد، إلى أن تمكنوا من اغتياله في أثينا التي كان قد لجأ إليها بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982، وأطلقوا عليه الرصاص من مسافة قريبة وهو داخل سيارته عام 1983، وكان يجلس إلى جواره ابنه الطفل الذي لم يكن قد تجاوز سنواته الأربع في ذلك الوقت.
ما حدث أن الرصاص الكثيف الذي انطلق من السلاح القاتل الذي تمكن من اللحاق بالسيارة بدراجة نارية، أصاب أيضا الطفل “بشير”، ونقلت الأنباء وقتذاك أنه قتل مع والده في العملية.
لكن بشير نقل الى المستشفى حيث تلقى العلاج، ونجا من الموت، وهو يعيش بيننا اليوم بعد أن بلغ التاسعة والعشرين من عمره وأصبح هو بطل هذا الفيلم.
المخرج محمود المساد، يقتنص أولا بذكاء وفطنة كبيرتين، هذه الفكرة التي ترتبط بالذاكرة، بالماضي، لكي يصنع منها نسيجا بصريا متشابكا مؤثرا، حول زمن البطولة والتضحية والثمن الذي كان يتعين أن يدفعه الذين وهبوا أنفسهم لقضيتهم الوطنية، وأيضا لكي يجسد أيضا الفرق بين ما كان في الماضي، وما أصبحنا عليه اليوم، بين زمن النضال، وما انتهت اليه القضية اليوم من اقتتال الشركاء، اي الفصائل الفلسطينية، وأساسا، فتح وحماس.
يتوقف المساد بكاميرته أمام الكثير من العلامات، ومن جوف الصورة تبرز التساؤلات المعذبة القلقة حول كيف كان هذا ممكنا، وما الذي حدث، وما مغزاه، وهل كان هناك خطأ ما، هل كان طريق النضال المسلح، طريقا خطا، وهل كان هناك طريق آخر، وكيف يمكن أن يصل الوضع اليوم الى ما وصل إليه، وغير ذلك الكثير.
المدخل الدرامي إلى الفيلم هو حادث الاغتيال، ووجود الإبن الصغير “بشير” في مقدمة الصورة. والصورة، أو تلك اللقطة تحديدا، وهي مصورة بالأبيض والأسود، تتكرر كثيرا بالحركة البطيئة عبر الفيلم، باعتبارها اللقطة المركزية التي تتدفق منها الذاكرة: ذاكرة بطلنا بشير الذي عاد اليوم لكي يبحث عن تاريخ والده، من خلال التفتيش في ذاكرة أصدقائه: الحلاق والطبيب والرسام وغيرهم.
في الفيلم صور وشهادات، مزيج من الخاص والعام، ومن الذاتي والموضوعي، من الصورة الداخلية والحكايات الشخصية عن “مأمون البريش” الذي طويت صفحته تقريبا منذ وفاته رغم كل ما قدمه للقضية من تضحيات هائلة، والبحث الشاق عن المعرفة والتذكر من جانب الإبن “بشير” الذي يروي له الطبيب كيف أن والده أنقذ حياة زعيم الكتائب اللبنانية خلال الحرب الأهلية عندما اعتقلته قوات حركة فتح، لكنه أمر باطلاق سراحه، فنجا الجميل بذلك من الموت. وهي معلومة مهمة لا يعلمها المشاهدون. وقد جاء موقف المأمون ردا على اطلاق بشير الجميل سراحه في الماضي بعد أن وقع أسيرا في أيدي قوات الكتائب وكاد أن يلقى مصرعه. هذه القصة نفسها تعكس مغزى انسانيا كبيرا عن فرقاء الحرب الذين يكنون الاحترام لبعضهم البعض. وقد جاء الاسم الذي أطلقه الرجل على ابنه فيما بعد، أي “بشير”، تيمنا باسم بشير الجميل الذي سيعود ويلقى حتفه في عملية فدائية هائلة قيل إنها كانت من تنفيذ وتخطيط عناصر فلسطينية مسلحة.
أما اقتتال اليوم في غزة والفضة الغربية، فيبقى في الفيلم صورة مشبعة بنوع من السيريالية أو التجريدية العبثية التي تدعوك إلى التشكك فيما آلت إليه مسيرة النضال من أجل إقامة الدولة، حينما انتهت الى دويلتين محاصرتين متصارعتين، وهي نهاية ما كان يحلم بها أكثر المناضلين تشاؤما في عصره!
ايقاع الفيلم متدفق يتسم بالقوة والتماسك، لكنه يسمح بنوع من التأمل مع مساحة جيدة من الصورة التي تظهر في معظم الأحيان، في لقطات متوسطة الحجم، صور مدهشة، وعلاقة خاصة بين الشخصية الرئيسة التي تستخدم لصنع القالب “الدرامي” او المدخل “الروائي” إلى الفيلم إذا جاز التعبير، وقدرة هائلة من جانب المخرج وفريق مساعديه على اقتناص الشهادت وتصويرها بكل تلك التلقائية والتدفق مع التحكم في زوايا الصورة، واعادة بناء حادث الاغتيال باستخدام الأسلوب التجريدي نفسه، بحيث تتكرر لقطة إطلاق الرصاص على الرجل في السيارة، وتعود الينا بين حين وآخر، في سياق الشهادات ورحلة البحث عن الحقيقة، ودون أن يتسبب الإخراج في إرباك الشهود الذين يقصون ذكرياتهم على الإبن، ودون أن يبدو أننا نتفرج على مشاهد مصممة ومتفق عليها سلفا، حيث يعتمد الفيلم على فكرة “اعادة التجسيد” مع الابقاء على المباشرة الحميمية التي تميز أسلوب “سينما الحقيقة”.
هذا الفيلم دليل آخر على قدرة السينما التسجيلية على تطوير نفسها، والاستفادة من الأساليب الروائية، والاعلاء من شأن العنصر الدرامي في الصورة، من أجل بلوغ أعلى تأثير ممكن على المشاهد، الأمر الذي يردنا إلى التأمل في أصل السينما: ما هي، وكيف نشأت، وما الهدف منها، وكيف يعبر السينمائي عن العالم من خلال الكاميرا، وما هي حدود قدرته على خدمة موضوعه. وهي تساؤلات ممتدة بامتداد تاريخ الإبداع السينمائي نفسه!