نقد النقد السينمائي بالمغرب

محمد الحجلي *

إلى جانب الكتابات النقدية التي تظهر في بعض الصحف المغربية والعربية، وبعض المحاولات لإصدار مجلات سينمائية في المغرب، تبقى أبرز الدوريات السينمائية المختصة كما ظهرت بداية من ثمانينيات القرن الماضي إلى الآن، هي مجلة «دراسات سينمائية» التي أصدرتها الجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب، والتي بدأت في يونيو 985. وتوقفت في عددها 13. أو المجلة التي أصدرتها جمعية نقاد السينما بالمغرب، والتي بدأت صيف 2004 واختير لها اسم يسهل النطق به بالفرنسية، «ciné.ma». أكثر من العربية « سينـ.ما » وقد توقفت هي الأخرى في نفس العدد 13. ثم «المجلة المغربية للأبحاث السينمائية». التي تصدرها الجمعية نفسها، ولازالت مستمرة، إلى حد كتابة هذه السطور، وإن بصعوبة على ما يبدو. مع العلم أنها تتلقى الدعم من طرف وزارة الإتصال. كما أن الثانية تتلقى الدعم من طرف المركز السينمائي المغربي. وكلهما فصليتان.
إذا كانت هذه المجلات الثلاث على العموم، هي أهم المنابر النقدية السينمائية في المغرب، فإن توقفها يؤشر بوضوح على معاناتها من صعوبات. وتبعا لذلك، يعاني النقد السينمائي المغربي على صعيد التواصل مع القارئ والمواكبة النقدية للإنتاجات السينمائية المغربية التي توصف بأنها طموحة، وأنها شقت مسارها باقتدار، وأصبحت حية تتوفر فيها جميع المقومات الأساسية للإستمرار، وتنافس بجدارة المنتوج السينمائي المستورد.
رغم المكانة التي تحتلها هذه المجلات، وسط الإنتاج النقدي السينمائي المغربي، إلا أن هذه الصعوبات، تضعنا أمام مشهد النقد السينمائي أقل ما يمكن أن يقال فيه، أنه في حاجة إلى البحث عن مكمن الخلل في عملية التواصل. إقبال جماهيري على الفيلم المغربي، مقابل كساد المنتوج النقدي. ويضعنا هذا المشهد، أمام أسئلة حارقة، حول أهم ما يضمن الحياة للصدور والنشر ومآل النقد السينمائي بالمغرب، وهو التواصل.
عندما يعرض هذا المنتوج النقدي في السوق على شكل مجلات، فإنه يخضع حتما للمنطق التجاري: العرض والطلب. وبما أن الطلب هو الذي يعطي للعرض الحياة والاستمرار في الوجود، فإن الإجابة على هذه الأسئلة، لا يمكن البحث عنها سوى في تلك العلاقة الجدلية بين العرض والطلب. إذ لا يمكن واقعيا أن نبحث عن السبب الطبيعي لهذا التعثر، سوى فيما تتضمنه هذه المجلات من كتابات نقدية.

البحث في العلاقة الجدلية بين العرض والطلب، يستوجب طرح السؤال التالي: ما هي الرغبة التي يمكن أن تدفع القارئ لاقتناء المجلة، لتجعل منه عنصرا مساهما في حيويتها؟ إن مفهوم الرغبة هنا، مفهوم أساسي ومحوري. فهذه الرغبة التي يفترض أن تلبيها المجلة للقارئ، لا تعني إصدار منتوج استهلاكي يقصد منه إغراء الجمهور بهدف الاستهلاك (آني وعابر)، وكأنه تطبيق لنظرية (الجمهور عايز كدة). بل المقصود هو تلك الرغبة المشتركة بين الناقد السينمائي والقارئ. وهو الانتماء إلى وطن واحد وهوية واحدة. إن غياب هذا القاسم المشترك بينهما، يظهر إن الإشكالية التي تتخبط فيها هذه المجلات، هي افتقادها ـ إلى حد كبير ـ إلى الكتابة النقدية المنطلقة من وعي بالهوية، وترجمة هذا الوعي في الكتابة النقدية. والمقصود بها، هو تلك الكتابة التي تصوغ خطابها النقدي، على أنه خطاب نابع من ذاتية مغربية، ومن إيمان راسخ بهوية معبر عنها في الكتابة النقدية لتجعل منه خلفية تنطلق منها لممارسة النقد. إذ بدون إبراز ذلك في الكتابة النقدية، لا يمكن أن تكون مؤهلة لتحسيس القارئ بهذه الذاتية أتناء القراءة. ولا يمكن أن تجعل استهلاك المنتوج النقدي السينمائي المغربي، إستهلاكا لمنتوج وطني بالمفهوم الثقافي (الهوية) وليس بالمفهوم القانوني (إقرار الدولة بمغربية الفيلم).

وهذه المسألة، يجب التأكيد عليها، مادامت الفيلموغرافية المغربية تزخر بالعديد من الأفلام المفرغة من « مغربية الخطاب ». ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل هناك أفلام (مغربية) منقلبة عن الخطاب السينمائي المغربي، وتحمل خطابا أجنبيا. وأمام هذا الوضع في الإبداع، وعندما تغيب ذاتية الخطاب في الكتابة النقدية، يبقى المواطن (الناقد)، يخاطب المواطن (القارئ)، في غياب الوطن (الهوية). فكيف تتمكن هذه الكتابة من الاستمرار في التواصل، دون أن تشعر قارئها بالقاسم المشترك، وهو الوطن؟

إذا نظرنا إلى المسألة من زاوية الخطاب السينمائي، فيجب علينا الإقرار بأن هذا الخطاب يعد بمثابة الإبن الشرعي للهوية المعبر عنها في الفيلم، وهو تلك النقطة المحورية التي تلتقي فيها المصلحة المشتركة بين الناقد والقارئ، (بين العرض والطلب)، ومن تم يمكن النظر إليه من زاوية النقد، بأنه نتاج للوعي الكامن في ذهن الناقد السينمائي المغربي بالمكونات الثقافية لهويته (خصوصياته الثقافية). فإذا كانت الإنتاحات السينمائية المغربية تتوحد قانونيا في هويتها المغربية (مغربية القصة والمخرج والموضوع والطاقم…)، إلا أن اختلافها بين فيلم وآخر ـ وأحيانا بشكل كبير جدا ـ نابع من التوجهات الفكرية لمخرجيها. وبهذا يمكن النظر إلى ذلك الوعي، على أنه بمثابة غربال يسمح للناقد بتمرير الخطاب السينمائي المغربي.

من فيلم “ماروك” لليلى المراكشي

ففي الإختلاف بين تجربة سينمائية وأخرى، قد نلاحظ من جهة: أن مثلا سينما محمد عبد الرحمان التازي وسينما محمد العسلي ـ مع مخرجين آخرين ـ تنتميان إلى تيار سينمائي، وتلتقي معا في مجموعة مميزات، منها التوثيق للخصوصيات المغربية وإبراز القيم الإنسانية للمغرب. بينما تختلفان في الشكل والأسلوب. فسينما التازي تعتمد أسلوبا فكاهيا طريفا وميالة إلى التراث المغربي، بينما سينما محمد العسلي، ميالة نحو التعاطف مع الناس البسطاء والمحرومين، وتعتمد أسلوبا جادا وعاطفيا، وإن كان بعيدا عن الرومنطقية، وتوظف البعد الإشهاري بأكثر مستوياته دقة.

كما نلاحظ من جهة أخرى، أن سينما نور الدين الخماري وسينما ليلى المراكشي مثلا تنتميان إلى تيار سينمائي مختلف جدا عن تيار محمد عبد الرحمان التازي ومحمد العسلي. وتلتقيان معا في مجموعة مميزات، منها إعطائهما للشخصيات حرية لا متناهية، تملأ الفيلم بالعبارات والألفاظ الساقطة والمتداولة فقط في الشارع. الشيء الذي يجعلها صادمة مع المشاهد بشكل عنيف، بينما تختلفان في الشكل. فسينما الخماري تتسم بكتابة سينمائية متشنجة، وشخصياته متوترة وغاضبة بشكل غير محدود. تحلق في فضاءت العنف والرذيلة، أما سينما ليلى المراكشي فتتسم بكتابة سينمائية متمردة بشكل غير منضبط. وكأن لا هم لها سوى الصدام مع المشاهد وإستفزازه بتحديها لثوابت القيم الإجتماعية المغربية.

فمحمد عبد الرحمان التازي كسينمائي مخضرم ذو تجربة متجذرة أصيلة في الثقافة المغربية، بعد أن مر من السنوات العجاف للسينما المغربية واستفاد منها، على غرار العديد من زملائه، كحميد بناني وأحمد المعنوني.. إذا قارننا سينماه مثلا مع سينما ليلى المراكشي كسينمائية لازالت تجربتها الشابة لم تختمر بعد، نجد أنهما تختلفان اختلاف الليل عن النهار. وكأن سينما كل واحد منهما تسير في الإتجاه المعاكس لسينما الآخر شكلا ومضمونا.

محمد عبد الرحمان التازي

إن المسألة هنا هي مسألة موقف: الموقف الذي تمليه الهوية. فعندما يعجز الناقد السينمائي عن الفرز بين فيلم مغربي لمخرج طور تجربته السينمائية، وأصبحت أكثر أصالة، وفيلم يختار توجها آخر. تختلط عليه الهوية بين صفتيها القانونية والثقافية، ولا يرى أمامه إلا كيل المديح لأي فيلم مغربي، معتبرا ذلك نابعا من حس وطني. فنجده ينهال بالإشادة والثناء على فيلم مثل: «جارات أبي موسى » لمحمد عبد الرحمان التازي، و« ماروك » لليلى المراكشي، رغم أن الإختلاف الإيديولوجي واختلاف التجربة السينمائية بينهما، كالاختلاف بين الليل والنهار.

الإغراق في المديح لأي فيلم مغربي، هو النتيجة الطبيعية لنقد سينمائي فقد بوصلة الخطاب السينمائي، وإلتبست عليه الهوية بين صفتيها القانونية والثقافية، وبما أن الاستقرار على حالة واحدة يبعث على الملل، وترفضه النفس البشرية، فإن الاستقرار في حالة المديح، يدفع البعض إلى البحث عن كيفية للتخلص من حالة الملل. ويوجه بعض الإنتقادات لبعض الأفلام، لا لشيء إلا لتهدئة الحرقة التي تسبب فيها الملل. فالانتقاد هنا لم تهده إليه بوصلة الخطاب السينمائي أو المكونات أو الخصوصيات الثقافية، وإنما هو نتيجة للبحث عن إشفاء حرقة الملل من الإغراق في المديح. وهذا لا يمكن أن يعطينا، سوى كتابات نقدية يطغى عليها الإرتباك والإضطراب الفكري. بما يتضمنه من الإلتواء والتبرم في الكلام، والمختبئ أحيانا خلف الكلام المبهم وغير المفهوم. وأحيانا إقحام مصطلحات ومفردات في غير محلها، وأحيانا الخروج عن سياق الفيلم. بل وأحيانا الخروج عن سياق السينما نفسها، وتكرار حكاية مسقط الطائرات. وأعتقد أن من وصف النقد السينمائي المغربي ذات يوم، أن فيه الكثير من الهذيان والقليل من السبك، لم يكن مخطأ. وإن كانت كلمة الهذيان فيها قسوة. لكنه عمل بالمقولة المغربية: «اتبع للي يبكيك، أما للي كيضحك لك، غير كيضحك عليك».

ناقد سينمائي من المغرب

Visited 9 times, 1 visit(s) today