مقال رئيس التحرير: السينما الثورية التي لم توجد بعد
المقصود هنا السينما الثورية في مصر والعالم العربي، فالملاحظ أنه رغم الثورات التي اندلعت في عدد من البلدان المؤثرة في المنطقة العربية أن السينما أو الأفلام التي تظهر هنا وهناك لاتزال تعتمد على نفس الأساليب القديمة البالية، باستثناء حفنة من الأفلام الوثائقية والتسجيلية التي ظهرت عن الثورات أو سعى صناعها لتسجيل وتوثيق الأحداث أو تقديم رؤية فنية لها.
السينما الثورية هي تلك التي تسعى إلى هدم أسس السينما السائدة التقليدية العتيقة أي سينما التسلية الفارغة من المعنى التي تسعى إلى إشغال المشاهد بمجموعة من المواقف والأحداث الملفقة التي تدور حول نفس القوالب المتهالكة القديمة: مثلث الخيانة الزوجية الشهير، مشاكل الزوجين، تشابك العلاقات وظهور أنماط من الشخصيات التي تسخر مما يحدث في الواقع، البطل الذكوري الذي يقوم بالتعليق على ما يجري حوله من أحداث وتغيرات سواء من وجهة نظر عدمية أو ساخرة أو في أفضل الأحوال رؤية نقدية، دون طرح رؤية بديلة.
السينما الثورية تطرح عادة رؤى بديلة، لا تكتفي بالوقوف على السطح الخارجي للأشياء، لا تدور في اطار تناقضات طبقة واحدة بل تنزل الى الشارع، تصور الحدث وتمزجه بالخيال، تبتكر طرقا جديدة في السرد تحطم القوالب الدرامية المألوفة، تنحو إلى الحداثة بالضرورة، تنحاز إلى قضية الثورة، التغيير، الإحلال، أي إحلال منظومة فكرية محل المنظومة القديمة، في اتجاه تقدمي بالضرورة، يقود الى التنوير، إلى تغليب العقل على الخرافة، ورفض التعامل مع الحياة والواقع كما لو كانا محكومين بقدرية غاشمة لا فكاك منها، مطلوب منا أن نخضع لها دون تردد أو تساؤل محير.
في قلب السينما الثورية يوجد الفنان- الفرد، العقل والعاطفة، الرؤية والموهبة والقدرة على التعبير، والفرد لا ينفصل هنا عن المجتمع، عن المحيط بل وعن العالم كله بما يجري فيه، بل يربط بين واقعه وبين الواقع الثوري المتغير في أرجاء العالم المختلفة.
السينما الثورية ليست سينما الدعوة إلى الفضيلة أو الأخلاق الرفيعة فهذه الدعوة مكانها الطبيعي المسجد والكنيسة، بل عرض رؤى فنية عن الواقع من خلال أشكال قد تصل الى أقصى درجات الهجائية والرفض والفضح والتعرية، تعرية مظاهر التخلف في الفكر والسلوك والممارسات والفعل السياسي والاجتماعي ولكن دون أن يتحول المفكر السينمائي أي المبدع، إلى “داعية” يعرف كل شيء ويملك المنطق النهائي الحاسم.
السينما الثورية لا تخلط النسبي بالمطلق، ولا تتحدث عن القيم المطلقة بل عن نسبية الحقيقة، وتغير الثوابت بفعل تطور التاريخ.
لا توجد خطوط فاصلة في السينما الثورية بين التسجيلي والروائي، بين الخيالي وغير الخيالي، وبين التمثيلي والتخيلي والرمزي، وبين التوثيقي والمعاد تجسيده. إنها تجمع بين كل هذه الأساليب والرؤى ولكن من خلال وحدة فنية خلابة. فالسينما الثورية لم تعد بالضرورة سينما غير مسواة، صورها خشنة، مونتاجها بدائي بالآلات والأجهزة الحديثة أصبحت متوفرة مثل لعب الأطفال في أيدي كل من يريد أن يصور ويولف الأفلام، وليس كما كانت في الستينيات، زمن السينما الثورية في أمريكا اللاتينية التي كانت تصور سرا، وتعرض سرا، ويواجه صناعها الموت قتلا والنفي والهرب والتعب والمطاردة.
السينما الثورية المطلوبة اليوم يجب أن تبحث أيضا عن جمهور جديد خارج دائرة جمهور “المول” التجاري، والمنتديات النخبوية الثقافية في العواصم، بل تسعى للوصول الى الريف والساحات الشعبية في المدن الداخلية والمدارس والمقاهي.. وغير ذلك.
السينما الثورية أخيرا، هي سينما جديدة، يجب أن تبحث أيضا عن جمهور جديد.