مدخل إلى نظرية السينما
يبدو أن من الصعب لأي اطروحات فلسفية إغفال العودة إلى كل تلك الجهود النظرية التأسيسية لمفكرين ونقاد سينمائيين أمثال “جان ميتري وإيزنشتين، واندريه بازان وكريستيان ميتز، الذين شكلوا محطات فكربة مهدت الطريق أمام بعض الفلاسفة، لولوج عالم السينما، كمجال إبداعي، يُحفِّزُ على التفكير في قضايا فلسفية متعددة. خاصة بعد أن غدت السينما تمتلك إغراءاً خاصا من خلال قدرتها على جذب المفكرين والفلاسفة لتصبح موضوعاً فلسفيا لتفكيرهم، وعلى أساس كهذا اقترحت السينما على الفلسفة إمكانيات كبيرة للاشتغال بل وفرت أيضا شروط بعض ألاندفاعات الفكرية بفضل كونها، تختزن – حسب أندري بازان- قوة “أنطولوجية” تحتاج إلى الفلسفة لإبراز مكونتاها ودلالاتها وأبعادها.
في لمحة تاريخية يبَيًن
James Monako . Film Verstehen. Rowohlt Taschenbuch Verlag GmbH Hamburg 2013
جيمس موناكو في كتابه ” فهم السينما ” اهتمام مُنظِّري الفيلم ألأوائل -بنِسَب متفاوتة-على تقديم هوية فنية جديرة بهذا الفن الفتي ، فعندما بدأ الفيلم الروائي يكتسب أهمية خاصة في عام 1915، نشر وقتها الشاعر المرموق فاشيل ليند ساي Vachel Lindsay، كتابه حول (فن الصور المتحركة) وهو بمثابة أُنشودة مديح لهذا الفن الشعبي الفتي.
كان ليندساي يعتقد تقاليد الأدب المكتوب حبكة، التطور الخطي، و الشخصية – قد تتعدى أيضًا التأثير الفني للصورة المرئية لتصبح الأفلام بهذا مجرد أفلام “ناطقة”. شعر أنه سيكون من سوء الحظ أن تصبح الصور المرئية بمثابة مكملات للغة، كما رأى أن على السينمائيين أن يعملوا قدر الإمكان مع الإمكانيات غير اللفظية لوسطيهم بحيث تخدم أي مكونات لفظية الصورة المرئية.
وبعد مرور سنة واحدة على ظهور كتاب ليندساي ظهر كتاب رئيسي آخر، Photoplay – التمثيلية المصورة) : دراسة سيكولوجية (1916) لأستاذ الفلسفة وعالم النفس الألماني هوغو منستيربيرغ Hugo Münsterberg, في جامعة هارفارد ، بعد هجرته من المانيا إلى أمريكا.
والكتابان كانا آخر الأعمال البارزة التي قدمت عن نظرية الفيلم في الولايات الأمريكية المتحدة، فقد أنتقل مركز نظرية الفيلم إلى أوروبا، وكانت مهيمنة طيلة الخمسين سنة الأخيرة على يد مفكرين في فرنسا وألمانيا وأوروبا الشرقية. وظهرت أعمالهما النظرية في العشرينيات في أعمال لويس ديلوك، الذي قدم عدداً من المؤلفات عن نظرية الفيلم، وساهم مع ليون موسيناك في نقد الفيلم ، مع أنه كان معروفا أكثر كناقد يومي يمارس نقد الفيلم وكمؤسس لحركة نوادي السينما،حيث كان هاجسه الجادّ وعارض مباشرة أسلوب الريبورتاج ومقالات الإطراء والمديح المألوفة العامة.أما ديلوك،الذي توفي مبكرا،فأنه رسخ في نقده اعتبار الفيلم كفنّ.
وفي المانيا بدأت تظهر دراسات مارتين هايدغر وتيودور ادورنو في علم الجمال، ومع أنهما احتفيا بالفن كمكان للحقيقة في المجتمع المعاصر، إلا أنهما نفيا صفة الحقيقة عن الفيلم، هايدغر مثلا حمل الفيلم المسؤولية في فقدان الإنسان لقدرته في السمع والرؤية ووجد في الفيلم، مع ادورنو، أساس التلاعب الاجتماعي، التي تقوم بها مؤسسة صناعة الثقافة. الشيء ذاته حصل في أعمال مفكرين كبار، إلى أن بدأ مثل هذا المفهوم يتراجع، لحسن الحظ، منذ العام 1990.
سيطرت النظرية التعبيرية والنظرية الواقعية على تاريخ نظرية وممارسة السينما ويمكن اعتبار المؤلفَيْن العلَمَين الواضحَيْن، الأكثر براعة وإيجازاً اللذان يصفان الفرق بين موقف التعبيريين والواقعيين، هما مؤلف رودولف آرنهايم “الفيلم كفن” ومؤلف سيغفريد كراكاور “نظرية الفيلم”: (انعتاق الواقع الفيزياوي). وأصبح الكتابان من أدبيات الفيلم الكلاسيكية، لا لأنهما يلخصان بدقة مواقع مدرستيهما المحترمتين فقط، بل لأنهما، إلى حد ليس بالقليل، مختصران مفيدان حافلان بالحكم أيضاً.
كانت السينما السوفيتية خلال العشرينات واحدة من بين السينما الأكثر إثارة في العالم، ليس من الناحية العملية فقط بل على الصعيد النظري أيضاً. وخلال هذه الفترة حقق اثنان من السينمائيين، بودفكين وإيزنشتين عدداً من الأفلام غير العادية كما قدما أيضاً قالباً غير متبلور للنظرية الشكلية، كان له الأثر العميق على مجرى تطور نظرية السينما. في نفس الوقت كان الكاتب والناقد والسينمائي الهنغاري بيلا بالاج يسلك خطاً في التفكير الشكلي يستحق الذكر مع أنه أقل شهرة مما قدمه كل من بودفكين وإيزنشتين. وكان كل منهما، خلافاً لآرنهايم وكراكاور من السينمائيين الممارسين لصناعة الفيلم ، أرادا أن يصفا فنهم لا أن يفرضاه فرضاً. ولم تكن أعمالهما النظرية موضوعاً في مجلدات إفرادية، بل كان موزعاً في مقالات فردية على امتداد فترة دامت سنوات عديدة. وكانت أعمالهما النظرية متطورة وعضوية ومنفتحة لا مغلقة وكاملة ولا نهائية.
ويرى دولوز كيف ان السينمائيين السوفيت تميزوا عن التيارات العظيمة الأخرى في السينما عبر تصورهم الديالكتيكي للمونتاج، دون ان يمنع قيام اختلافات عميقة فيما بينهما، بل وحتى تعارضات أيضا، طالما ان كل واحد منهم اهتم بجانب أو بقانون خاص من قوانين الديالكتيك، إذ لم يكن الديالكتيك بالنسبة لهم ذريعة أو تفكيرا نظريا، إنما كان تصورا لصور ولمونتاج الصور.
أنشغل الفكر الفلسفي بالسينما فيما يمكن تسميته ” نظام فرعي فلسفي”. وذلك من خلال منظري الفيلم أمثال رودولف آرنهايم، بيلا بالاج ، جان إبشتين أو هوغو منستيربيرغ ، ولعل أول من خصص كتاباً حول فلسفة السينما في أواسط الأربعينيات من القرن الماضي هو جيلبير كوهين- سيت بعنوان: “محاولة حول مبادئ فلسفة السينما”. بينما بدأ ممثلو “نظام فرعي للفلسفة والسينما” أبحاثهم في عقد الثمانينيات، مع فلاسفة مثل كون ستانلي في كتابه “انطولوجيا السينما” الذي اعتبر بأن السينما، من حيث الوجود، لها “وضعية فلسفية” ولويس كافيل في الكتاب الذي حمله على أكتاف الشهرة، «في السعي إلى السعادة: هوليوود وكوميديا الزواج للمرة الثانية»، وعقد فيه قران السينما والفلسفة، وأفلح في تسليط الضوء على المشترك بينهما،إضافة إلى جيل ديلوز.
ويمكن تسمية هؤلاء الفلاسفة أيضا بــ “فلاسفة فيلم”، بحثوا بوشائج متعددة بين الفيلم والفلسفة، في وقت وجدوا الوسيط الفيلمي أو في الأفلام السينمائية، قدرة على توليد أسئلة فلسفية، تُمكن الوسيط أو الأفلام نفسها، لأن تصبح موضوعًا للتفكير الفلسفي، وأن تبحث، إلى أي مدى يمكن أن تكون، تعبيراً في الفيلم كفلسفة؟ في حين أشتغل الفيلسوف الفرنسي جيل ديلوز، متأثراً بسيميائية سي. أس. بيرس وفلسفة هنري برغسون على موضوعة: ما هي الصورة؟ وكيف يمكن للفلم أن يُنتج معنىً؟ وتشكل كتابات كافيل وديلوز أهم المساهمات الفلسفية الجوهرية.
لم تظهر، كما سبق ونوهنا، أي مجموعة دراسات فلسفية خاصة في المانيا إلا في العام 2005 عند ظهور كتاب (فلسفة الفيلم) الذي قدم فيه المُعد ديميتري ليبش نصوصا أساسية سبق وان تم نشرها منفصلة، وأضاف إليها خمسة نصوص، ترجمت خصيصا لنشرها في الكتاب، وبهذا يحاول أن يغطي “الفجوة” الحاصلة، ويلقي الضوء على أهم المحطات النموذجية في فلسفة الفيلم.
ما هو الفيلم؟ وما هي الميّزات التي تميّزه كوسيط؟ لتقديم نظرة عامة شاملة حول مجال فلسفة الأفلام. يقوم ليبتيش بنشر عشرة نصوص مختارة من تسعة مؤلفين تهدف في المقام الأول “على توصيف الفيلم”. وفقا لترتيب زمني، وتندرج ضمن سؤالين أساسيين، يوضحان مراحل الخطاب حول الفيلم:
الأول: دراسة ال”فيلم” بوسائل فلسفية، وبالتالي التفلسف حول الفيلم.
الثاني: استخدام الأفلام نفسها كوسيلة للتفكير الفلسفي، وبالتالي التفلسف مع الفيلم.
ويرى إنه يمكن الجمع بين المسألتين من خلال التفكير في الفيلم وتحليله باستخدام أساليب الفلسفة. ويتوقف حول مسألة التفلسف بوساطة السينما: وإلى أي مدى يمكن فهم الأفلام كوسيط للفلسفة؟ وفيما يخص هذا السؤال، على المرء أن يقتنع إلى حد كبي، بأن الفلسفة ممكنة في السينما! وأنه يمكن لبعض الأفلام، وفقا لقناعات فلسفية، أن تعبر، عبر خصائصها الشكلية، عن مشاكل فلسفية وتستخدم الحجج الفلسفية كتعبير ذهني أو تطرح للنقاش تأملات في مجال الإدراك والمعرفة. وفي الواقع ،يتم إجراء مقارنات ممكنة بين هذه الخطابات ونقاط التوافق بينها،في لمحة عامة،عبر”انطولوجيا” مختارة.
انشغلت أطروحة “السينما كفلسفة”التي وفقا ل، لكنشكل الأفلام نفسها شكلا مستقلا للتفكير الفلسفي عبر مؤيدين داخل الفلسفة الانجلو أمريكية أمثال:(ستانلي كافيل، ستيفن مولهول، توماس وارتينبيرغ Wartenberg) كذلك انشغلت “الفلسفة الأوربية” عبر (جيل دولوز، سلافوج زيسيك) كما تمت دراسات حول الأفلام والإعلام من قبل (دانيال فرامبتون، لورنس إنغل). إلى جانب أولئك الذين ينتقدون هذه الأطروحة، لكن بنطاق ضيق. كما إنَ هناك أيضا فلاسفة (بيزلي ليفينغستون) إضافة إلى عالم الأفلام (موراي سميث).
وتَشكلَ خطابان متباعدان نوعا ما، حول التطورات التاريخية في فلسفة الفيلم والفلسفة التحليلية الناطقة باالفرنسية (Lyotard كارول).
الأول: فلسفة ما بعد البنيوية الفرنسية (Lyotard، Deleuze)
والثاني: الفلسفة التحليلية الناطقة بالإنجليزية (دانتو، كارول). وفي الانطولوجيا، يتم إجراء مقارنات ممكنة، في لمحة عامة، بين الخطابات ونقاط التوافق بينها.
لا يزال نشر النص الأول Photoplay “لماذا نذهب إلى السينما” (1915)، الذي كتبه عالم النفس هوغو منستيربيرغ يلخص بإيجاز أطروحته الأكثر أهمية، حيث يتناول عناصر التعبير الفيلمي،التي تتوافق مع النفس البشرية بطريقة خاصة:التأطير والميزان سين والمونتاج،وهما عناصر تركز على التعبير عن المشاعر كالأوهام أو الذكريات.ويجد منستيربيرغ الفيلم بأنه “الفن البصري الوحيد الذي يمكن فيه،عبر الانطباعات الخارجية،تحقيق ثراء حياتنا الداخلية وأستمراها حية”.وبالتالي ينبغي تطوير هذه الإمكانيات في شكل الفن الجديد،بمساعدة علم النفس.
الإسهام الثاني، يدعو كتاب محاولة حول مبادئ فلسفة السينما” (1946)، لجيلبرت كوهين- سيت Gilbert Cohen-Séat ” إلى العمل العلمي مع الفيلم لكي يتجاوز علم النفس. خاصة وإن معرفته كانت كمخرج فرنسي وصحفي ومؤسس المعهد الأول لدراسات السينما بمبادئ براغماتية لتواصل سينمائي: لا يفحص:”الفيلم السينمائي” فقط أي بنى الأفلام(»وقائع فيلمية «) وردود فعل الجمهور(“الوقائع السينمائية”)،ولكن أيضا يفحص متطلبات الاتصال (“وقائع مؤسسية”).ولا شك إن هذا النهج متعدد التخصصات ويتطلب.معرفة كل شيء حول مسألة:”كيف يعيد الفيلم العالم إلينا، وبأي طريقة جديدة، لخلق الحقائق بالنسبة لنا، وربما يتم بطريقة:”التعرف على “أبجدية الأفكار البشرية” في العلاقة بين خصوصية الفيلم filmpecific ومفاهيم الوعي الفلسفية.
تثبت مقالة موريس ميرلو بونتي “السينما وعلم النفس الجديد”(1947) هذا الإدراك – وخاصة الإدراك الاجتماعي لأشخاص آخرين – الذي هو غير موجود لا في التفسير الفكري ولا في توليف الأحاسيس الفردية،ولكنه ينقل في الفهم الفوري للبنى،نظرة خاصة:”الفيلم لا يدع نفسه يفك،إنه يسمح لنفسه أن يُشاهد”. لأن معاني وموضوعات السينما، تناسب شكل نفسه والزماني مباشرة، وسيكون من المناسب بشكل خاص التناسب بين:”العقل والجسم […] ولجعل تعبير واحد يتوافق مع قلق من الظواهر الحديثة.
تتلخص الفكرة المركزية من العمل الواسع للفيلسوف الأمريكي ستانلي كافيل حول: “كيف تعرض الأشياء في الفيلم؟” (1978) لأن الأفلام قادرة، بالعلاقة مع وجهة نظر المشاهدين، على تغيير الأشياء في العالم، بطريقة معينة بحيث تسهم في الفلسفة. وقد أظهر كيتون Keatons وشابلن Chaplins في كوميدياتهم ظروف مختلفة من السعادة البشرية والمهارات: للحفاظ على موقف في مواجه،مرضى العالم(كيتون) أو الهروب من الخيال (شابلن).وهناك أفلام أخرى أيضا،ميزت بشكل غير متوقع،بين تمثيل الواقع والأوهام وغيرت شخصياتها فهم منطق الرغبات البشرية.