محسن مخملباف وتضحية الملاك
ترجمة: أمين صالح
المخرج الإيراني المعروف محسن مخملباف يتحدث هنا عن فيلم “أجنحة الرغبة” Wings of Desire للمخرج الألماني فيم فيندرز، وعن التأثير الذي مارسه الفيلم عليه:
كان الحافز الأساسي الذي دفعني لأن أصبح مخرجاً سينمائياً، هو مشاهدتي لفيلم إيراني ردئ وبغيض عنوانه “أناس من الجحيم” للمخرج فرج سيهادري، والذي تم إنتاجه بعد الثورة (الإسلامية)، وكان الفيلم يحكي عن مجموعة من المجرمين واللصوص يهربون من السجن ليكتشفوا أن العراق قد غزت إيران. ومع أن شيئاً مشتركاً لا يجمع بينهم، إلا أنهم يجدون أنفسهم متّحدين في وجه العدو العراقي، ويخوضون معاً معركة شرسة ضد العدو.
كان من أفلام الأكشن الرخيصة، الذي يحتوي على دعاية حربية، ويعتمد على أسوأ أنواع الحبكات القصصية البوليسية. وهو أيضاً فيلم انتهازي، ريائي، لأن المخرج سيهادري حقّق قبل الثورة أفلاماً تجارية إثارية سيئة، وبعد الثورة استخدم هذا الفيلم “الوطني” كوسيلة لاقتحام عالم السينما الإيرانية.
إني أشير إلى هذا الفيلم لأبيّن أن الأشياء البشعة والبغيضة يمكن أن يكون لها، أحياناً، تأثيراً إيجابياً، حيث تستخرج من داخلك شيئاً صالحاً وخلاقاً.
لكن الفيلم الجيد، الذي مارس تأثيراً كبيراً عليّ، كان فيلم الألماني فيم فيندرز “أجنحة الرغبة”، الذي غمرني كلياً إلى حد أنني، بعد مشاهدته، شعرت بوجعٍ في كل أنحاء جسمي.
لم يمارس فيلم آخر مثل هذا التأثير عليّ، فقد حرّك مشاعري بعمق، ومنحني إحساساً بالأمل والتفاؤل بأن السينما يمكن أن تكون حقاً ضرباً من الفردوس.
في طفولتي، اعتنت بي جدتي التي كانت متديّنة جداً، ولم تكن تحب السينما، بل تؤمن أن كل من يرتاد السينما سوف يدخل النار. ومن الطبيعي، بحكم تأثيرها عليّ، أن أكون حينذاك كارهاً للذهاب إلى السينما. على أية حال، كانت الأفلام الإيرانية في تلك الفترة سيئة و”شيطانية”. وعندما شاهدت “أجنحة الرغبة” للمرة الأولى، تمنيت لو أن جدتي حيّة لأخبرها أن ليس كل الأفلام تأخذ المرء إلى الجحيم، بل هناك أفلام يمكن أن تأخذك إلى الجنة.. لا الجنة التي توجد بعد الموت، إنما الجنة الموجودة في هذه الحياة.
في الفلسفة الإيرانية، كانت الكائنات البشرية في ما مضى تعيش في الجنة، لكنها ارتكبت الخطيئة الأصلية وحكم عليها بالعيش على الأرض. في فيلم “أجنحة الرغبة”، هذه الفكرة برمتها تكون معكوسة، فالملاك – بوقوعه في الغرام – يختار أن يصبح كائناً بشرياً.
الفكرة الإيرانية التقليدية تقول أن الملاك يهبط إلى الأرض لأنه ارتكب خطيئة ما، أو فعل شيئاً خاطئاً، أما هذا الفيلم فيقول أن الغاية النهائية للملاك أن يصبح كائناً بشرياً.
إن حلم الكائنات البشرية – كل صانعي الأفلام، كل الفنانين – أن يصبحوا خالدين. الفنان، أو صانع الفيلم، يخلق عملاً فنياً وهو يعلم أنه حين يموت فإن عمله سيبقى. آخرون لديهم أبناء، من خلالهم يواصلون العيش أو البقاء. نحن نخاف من الموت لأنه يعطّل تدفّق الحياة.
في هذا الفيلم، الملاك الذي هو خالد يفضّل أن يكون فانياً. باختياره للحب يُظهر أن الحب أكثر الأشياء أهميةً. والكائن البشري يصبح خالداً حين يكون مليئاً بالحب. فيم فيندرز أيضاً يقول أن الخلود مجرد تثبيت لمرور الزمن وامتداده. الملاك في الفيلم يختار الحب لأنه يجد الخلود ضمن نطاق الحب، وليس ضمن نطاق الزمن. الكائن البشري يبلغ الخلود من خلال الحب، وليس لمجرد أن يكون قادراً على الوجود ضمن الزمن.
في الفيلم، الملاك هو الحارس الذي يحمينا ويساعدنا على تخطي الصعاب واجتياز الشدائد. فكرة التعارض/ التناقض بين الحياة الدنيوية والفردوس، لا يؤكدها الفيلم، لكن يُظهر تدخّل السماوي – عبر الملائكة – والذي يساعد على جلب السعادة إلى الأرض.
إحدى الوسائل التقنية، الأكثر بساطة، في الفيلم – والتي هي مع ذلك فعّالة – استخدام الأسود والأبيض في التعبير عن البُعد الملائكي، والألوان للبشري. الملاك لا يرى الحياة بالألوان إنما بالأسود والأبيض. إن اهتمامه بالمرأة الجميلة والرجل العجوز معاً في المكتبة يحمل دلالةً، فهو يُظهر أن حبه بلا تحيّز في ما يتصل بالعمر أو العرْق أو الجمال.. الرجل العجوز والمرأة الشابة كلاهما كانا يشعران بالوحدة وبالحاجة إلى العناية الملائكية.
الشعور الأساسي، الذي انتابني من مشهد السيرك في الفيلم، كان إحساس المرأة بكونها معلّقة وسط الفراغ، غير عارفة حقاً إلى أين تمضي، أشبه بالضائعة. وقد شعرت بأن هذا يشبه الوضع الإنساني: نحن جميعاً نطفو أو نهيم حتى نجد الحب الذي يجتذبنا إلى الأرض، يمنحنا الثقل، ويضعنا على الأرض. الحب يحرّر، ويمنح الإحساس بالإتجاه والغاية.
بالنظر إلى ذلك النوع الرائج في أغلب الأفلام من العنف المجاني، فقد وجدت في “أجنحة الرغبة” فيلماً منعشاً ومجدّداً، يحمل رسالة سلام، ويدعو إلى الصداقة والأخوّة بين البشر. إذا آمنّا بإمكانيتنا للوقوع في الحب، فعندئذ يصبح من الصعب علينا أن نكره، أو يقتل بعضنا البعض.
بالمقارنة مع أفلام فيم فيندرز السابقة، مثل “باريس تكساس”، الذي لا يقترح حلولاً لمعضلات الحياة، والذي في الواقع يقول ما قاله أنتونيوني من قبل، يقدّم “أجنحة الرغبة” طريقةً، أملاً، لقهر هذه المشكلات. بعد مشاهدة “باريس تكساس”، أو أي فيلم لأنتونيوني، تشعر برغبة في الانتحار. لكن بعد مشاهدة “أجنحة الرغبة” ينتابك إحساس بالتجدّد، بحافز يحثك على الخروج من هناك والشروع حقاً في العيش.
بعض الشعراء يبدّدون كلماتهم، وبعض المخرجين يبدّدون مواهبهم وقدراتهم، ويضيعون وقت الجمهور، بإنتاج سينما خالية من المعنى، تهدف إلى الترفيه المحض.
إني أؤمن بما قاله كوروساوا عن ضرورة مشاهدة الأفلام بقلوبنا. واعتقد أن كل فيلم ينبغي أن يجلب شيئاً جديداً وطازجاً إلى حياتنا. هذا ما ينبغي أن تكونه الغاية الأساسية للسينما.
إشارة:
الإيراني محسن مخملباف (من مواليد 1957): مخرج سينمائي، روائي، كاتب سيناريو، مونتير،منتج، ناشط حقوقي.
لعائلته حضور سينمائي لافت ومهم. زوجته مرضيه مِشكيني، وابنتاه سميره وحنه (مخرجات معروفات عالمياً).
من أهم أفلامه: راكب الدراجة (1987) حدث ذات مرة، سينما (1991) زمن الحب (1991) لحظة براءة (1995) جبه (1996) الصمت (1998) قندهار (2001) الرئيس (2014)