لغة الشعر والمجاز في فيلم “الصيد” لكارلوس ساورا
عانت السينما الاسبانية تحت الحكم الديكتاتوري للجنرال فرانكو من تعنت الرقابة وتدخلها في صناعة السينما بشكل مباشر، فشجعت الأفلام المؤيدة للفاشية على غرار السينما النازية، وعملت على فرضت سيطرتهاالصارمة، تلك السيطرة التي شارك فيها الكنيسة الكاثوليكية في اسبانيا من أجل منع المادة الفيلمية التي لا تتناسب مع اهواء النظام، فوضعت القيود في وجه صانعي السينما، مما جعل بعضهم يتجه إلى مغادرة اسبانيا وصنع الأفلام بالخارج مثل لويس بونيويل الذي عمل على تصوير افلامه في المكسيك او فرنسا حتى لا يصطدم بالرقابة.
اتجه بعض السينمائيون إلى التعبير عن تلك الحياة القاسية بصورة غير مباشرة تفادياً للرقابة، فعمل بعض المخرجين على تصوير الحرب الأهلية وبشاعتها بمنظور آخر أكثر رمزية، ومن ضمن هؤلاء “كارلوس ساورا” الذي عايش آثار الحرب بنفسه ولم يغادر بلده مثل الكثير من المخرجين، فظهرت أعماله المحملة بالمعاناة والعزلة التي فرضتها تلك الظروف، والمعبرة عن هموم الواقع.
ساحة حرب
يعتبر فيلم “الصيد” La caza من اوائل أفلام ساورا التي تتناول الواقع الاسباني بعد الحرب الاهلية، فالفيلم يدور حول بعض الأصدقاء من المحاربين القدامى لقوات الفاشية وتجمعهم بعد سنوات من الحرب لممارسة هواية الصيد، لنطوف معهم في أرجاء المدينة الخالية حتى يصلوا إلى مكان الصيد والذي نكتشف فيما بعد أنه كان ساحة الحرب، حيث الشمس الحارقة وبقايا جماجم الموتى المدفونة بها، وكذلك الأرانب البرية التي يقوموا بإصطيادها والتي يغلب عليها المرض.
يستخدم ساورا منذ البداية اللقطات الواسعة في تصويره للأماكن الخالية فتظهر وحشتها وقتامتها طوال الفيلم، ويتخللها بعض المشاهد التي تشبه أفلام الطريق Road Films، على العكس من اللقطات المقربة جدا للبنادق أثناء تجهيزها للصيد، في صورة تشبه تجهيز المقاتلين لأسلحة الحرب، فتأتي كذلك اللقطات المقربة للأرانب أثناء صيدها وقتلها فتبين معاناة تلك الكائنات الصغيرة والتي تعكس معاناة الإنسان نفسه، ويستمر ذلك المزج بين اللقطات عبر الأحداث، فيظهر التناقض الذي تحمله الشخصيات الدرامية.
كارلوس ساورا
تأتي العلاقة بين الشخصيات منذ البداية تحمل في مكنونها الكثير من الأحقاد والنفور من الآخر رغم التظاهر بقوة الصداقة بينهم، فكل فرد يحدّث نفسه عن بغضه من الآخرين، فتأتي المصلحة في المرتبة الأولى لتلك العلاقات، وتمتد إلى الخادم (خوان) أيضاً الذي يبغض سيده من أجل عدم اعطائه للمال، في حين يغضب السيد (خوسيه) من صديقه (باكو) لنفس السبب حيث يرفض أن يسلفه بعض المال، وبالتناوب بين الشخصيات نصل إلى هشاشة العلاقة بينهم رغم تلك السنوات من الصداقة.
يجتمع الأصدقاء لصيد الأرانب البرية في مشاهد دموية تبرز مدى وحشية تلك الهواية وتأثيرها على الشخصيات، وهي تعتبر اسقاطاً على فرانكو الذي كان يهوى الخروج للصيد، فتأتي اللقطات المقربة للأرانب أثناء موتها مستخدماً في ذلك عدسة ضيقة (تيليفوتو) ومع تصاعد للموسيقى التصويرية للفيلم تبرز صراع الأرانب مع الموت والذي يمثل صراعاً وجودياً بين البشر أنفسهم، وذلك الخوف الذي يصيب المجتمع اثناء الحرب وبعدها ويسيطر على الأفراد، فيستخدمون هواية الصيد من أجل تنفيس تلك الطاقات الكامنة، واذا كانت البداية بالعنف مع الحيوانات، فيقتلونها ويلتقطون الصور معها فخراً بما حققوه، فينتقل في النهاية لإستخدام العنف مع بعضهم البعض.
مفارقات
ومن أبرز المفارقات في الفيلم تلك الشخصيات التي عاصرت الحرب وقاتلت وتحملت الكثير من المخاوف، تعاني من ارتفاع درجة الحرارة أثناء الصيد، وخوفهم على بشرتهم من الاحتراق، وكأنهم تناسوا الماضي الأليم بكل ما يحمله من قسوة، يتطلعون إلى مزيد من الأرانب التي يأكلونها، مزيد من الخبز، والمزيد من الخمر، في محاولة لفرض سيطرة الواقع الجديد بعد انتصار قوات الفاشية وتحكمها في البلاد. فيعمل خوسيه على تخبئة جثة من جثث الأعداء أثناء الحرب في وسط الكهوف، ويريها لأصدقائه كأنها سر من اسراره التي يفتخر بها، رغم عدم معرفة صاحب الجثة ولا يذكر إلا انها قد قتلت أثناء الحرب.
تتصاعد الأحداث مع تصاعد وتيرة العنف أثناء الصيد، ومع تصاعد الخلاف بين الأصدقاء، مما يزيد من حدة التوتر، فنمضي معهم أثناء صيدهم للأرانب ونتورط في لقطات عنيفة لحظة موتها وشعورنا بالشفقة تجاه تلك الحيوانات الرقيقة، فقد برر باكو قتلها منذ البداية أثناء حديثه عن الصيد حينما قال:
“ليس هناك مكان للضعفاء أو الأغبياء”، ويعلق خوسيه: “كلما زاد دفاع العدو عن نفسه كلما كان الصيد أفضل”
إننا نكتشف عبر الفيلم أن العدو الحقيقي هم الأفراد انفسهم، فقد قضت الحرب الأهلية بقيادة قوات الفاشية العسكرية على الكثير من أفراد الشعب في محاربة وهمية لأعداء لا وجود لهم، فالشعب يحارب نفسه في محاولة لخلق عدو آخر، بينما الحرب، وما تسببه من أحقاد في نفوس الشخصيات، المسئول الأول عن مشاعر العنف والكراهية، فيصبح المرء عدوا لنفسه أولا ثم للآخرين.
نتيجة لذلك العنف الذي أعماهم أثناء الصيد، يصبح استخدامه مبرراً مع بعضهم البعض أيضاً، فالخلاف بينهم أدى إلى الشجار بالأيدي ثم يصل إلى استخدام الأسلحة، بينما يفر “انريكو” البطل الأصغر هارباً من ذلك الجحيم، فهو لم يعاصر تلك الحرب وأشرارها وما زرعته في نفوس أفرادها، فهي المرة الأولى له للصيد وربما تكون الأخيرة، تلك الحياة التي ينفر منها ساورا نفسه والتي أجبرتهم الحرب عليها، وساعد النظام على توطيدها.