كيف تعيش؟ حِكمة ميازاكي الأخيرة
علي الياسري
“أعتقد أن المرء يحتاج الى التعلم من الطفولة حتى تجد نفسه إحساس الانفراد بالذات”..
(أندريه تاركوفسكي)
بين أسلوب المؤلف الصانع المميز والخاص وتاريخه السينمائي المتلألئ والسرد الغامض للفيلم تألقت صورة “الصبي ومالك الحزين”، يتردد في جنباتها صدى صوت ميازاكي الفريد في صناعة الأنميشن حيث الYتقان الباهر للرسوم المتحركة بتفصيلاتها النابضة بالحياة تتنقل بين دنيا الاحياء المكلومة بالندبات وعالم الموت السفلي المُزدهي بسحر الأعاجيب والمناظر الطبيعية الفاتنة للغابات الغارقة بسحر ضياء مُدهش يلتقط بكل التماعة بهاء نفسٍ تبحث عن سر وجودها وزادها في الطريق، وكذلك بالمخلوقات الخيالية الجذابة والنابعة من تراث وأسطورة.
عنوان الفيلم الياباني “كيف تعيش؟” يشير الى رواية معروفة محليًا بذات الإسم للكاتب غينزابورو يوشينو صدرت عام 1937 ولها تأثير مُلهم على هياو ميازاكي، كما أنها لا تمت بالكثير من الصلة لمحتوى قصة الفيلم وطبيعة السيناريو سوى افتتان ميازاكي بها، ولذلك طلب توشيو سوزوكي –المنتج والمؤسس المشارك لأستوديو جيبلي- تغيير العنوان للابتعاد عن هذا الالتباس خصوصًا وأن السيناريو مكتوب تأسيسًا على الحياة الشخصية لميازاكي.
فالصبي هو هياو ذاته ومالك الحزين ليس سوى سوزوكي الذي يذكر ان سرد القصة والجانب الفكاهي يستند كثيرًا على طابع العلاقات الخاصة والمهنية بينهما. كان هذا بعد مناقشة عدة عناوين فتم الاستقرار على الصبي ومالك الحزين وذلك للتركيز دراميًا على علاقة اساسية في الفيلم يظهر من خلالها التنامي العاطفي وأبعاد الفضاء الشعوري للشخصية الرئيسية من البداية للنهاية.
كان الايمان بقوة الرسوم المتحركة اليابانية ورصيدها الجماهيري العالمي بتلك الخصوصية التي يمنحها إياها إرث هياو ميازاكي، من حيث جعلها تتمتع بإحساس قوي بالقصة والمنظور، ما يعطي المشاهدين القدرة على ملامسة نوايا المبدع من خلال التماس الفعال مع حكاية خيالية ضخمة وشخصيات متطورة على مدى السرد هو ما دفع ستوديو جيبلي في الاكتفاء بالترويج للفيلم من خلال بوستر فقط ليزيد الغموض حوله تاركًا الاكتشاف على عاتق الجمهور.
السيناريو مستمد بشكل كبير من قصص طفولة ميازاكي يتجلى فيه موضوعات البلوغ والنضوج والولوج الى عالم الحياة الصعب حيث الصراعات المؤلمة والخسارات الفادحة مع تلويحة وداع لفانتازيا خيالات الصبا المحلقة في سماوات رحبة، مضاف اليها لمسة نوستالجي لكل ابداعات ميازاكي المنتجة عبر ستوديو جيبلي والمتبلورة فيها مظاهر بروز القوة الذاتية الكامنة للتغلب على التحديات الشخصية. يحمل ميازاكي الجمهور الى رجع ذاكرته من خلال قصة سحرية عاطفية يتسم ايقاعها السردي بالتوازن ما يسمح لتأمل هادئ يمتزج بتسلسلات أكشن مُبهجة يتعزز كل ذلك بموسيقى جو هيسايشي المؤثرة حين تروي الحكاية بأنغام تستدعي ما تختزنه ذاكرة البراءة واكتشافاتها حيث الواقع القاسي الواقف في الظلال.
في زمن الحرب يفقد الصبي ذو الأعوام الأحد عشر، ماهيتو ماكي، والدته أثناء حريق لمستشفى. بعد عام واحد يتزوج والده صاحب مصنع لقطع غيار الطائرات الحربية من اخت زوجته الراحلة. بسبب ظروف الحرب المتقلبة تنتقل العائلة للعيش في الريف.
من عالم الغموض المُكتنف للبرج المجاور المهجور وأسرار الغابة المحاذية تتشكل علاقة مُلتبسة بين طائر مالك الحزين الساكن اعلى البرج والصبي المكتئب والمشغول بذاكرة الفقد. يغامر ماهيتو بالدخول الى عالم يتشاركه الاموات والاحياء وفق طقوس معينة سعيًا وراء وعد باستعادة والدته. بمزيج ساحر من الفلكلور الديني والشعبي وأجواء مخيال المغامرة التقليدية لسينما ميازاكي تتجلى سمات الافكار وذاكرة الوجدان مع انعطافات الرحلة لتتشكل شبكة علاقات فريدة تنهل من قدرات غير عادية تستجيب لمفردات المكان المبهرة والغريبة وتتمسك بمناهج وسلوكيات نبيلة لحفظ العالم من التداعي.
رغم تقلبات المزاج بين انتهازية لحظية وأنانية ساذجة مختلطة بخبث فكاهي ينبع من براءة طفولية، تنمو آصرة قوية بين الصبي ومالك الحزين يتراءى من خلالها قوة الاتصال الجوهري النابع من القلب. فهذه العلاقة الفانتازية أساس درامي يدفع برحلة الاستكشاف الى اقصى مدياتها.
بمهارة ينسج الصانع الياباني الأيقوني حكاية الحكمة الموازية للقصة ليعكس من خلالها محصلة رحلته الشخصية في ادراك المعرفة الانسانية المكتسبة من موضوعات الطبيعة ودائرة الحياة والموت والصداقة الحقيقية والموقف المؤثر، فيستخلص منها رسومات يدوية مبهرة تلتقط جمال الطبيعة من الانهار الهادئة الى الجبال الشاهقة والاشجار السامقة بألوان نابضة كل اطار فيها يمثل جوهرة فنية ومتعة بصرية.
منذ اعلان عودته عن الاعتزال مرت سبع سنوات من تقلبات الحال في الانتاج ليظهر الصبي ومالك الحزين كتمثيل الرؤية الخيالية الاخيرة لهياو ميازاكي وصفوة خبرة المعرفة الحياتية لاستبيان (كيف تعيش؟). هو وداع اقرب لتحذير ينبه على ضرورة تجنب تكرار الاخطاء البشرية المعتادة في فتح مصاريع الجحيم (الحروب) لتوليد نكبات ستتجسد كنُدب في ارواح غضة لم تجد غير خيالها ملاذًا. فحكاية ماهيتو ماكي مزيج من مآسي نزاعات وحشية ترتد على درب الانغماس في استكشاف البلسم الشافي والمستمد من بيئة محلية تنهل من تراث الثقافة اليابانية حيث تنقية الذات من خلال تأمل واختلاط تدريجي يتواصل فيه مع الارواح الساكنة بالغابات كجزء من عقيدة دينية باعتبارها موطن الالهة. يعمل ميازاكي على ابراز ذلك من خلال الابهار والغموض المتولد في رسوماته مع التركيز دراميًا على التفاعل السلس بين الواقع والعالم الاخر ما يفتح الباب لرحلة النماء الروحي بالكشف عن مواطن الالم ومواجهتها كجزء من عملية استشفاء وتنمية للنفس.
إن البراعة البصرية الرسومية لم تُلغي استغراق المؤلف الياباني في تجريد السرد وتقليل الوضوح والاعتماد اكثر على الرمزية ما شكل تحدي للذين سيستنزفهم الاجتهاد في ايجاد التفسيرات الخاصة بكل تطور درامي، وهو ما ينسحب على النسق العاطفي للتواصل مع الفيلم المُعبأ بما يفوق الحد من نظرات الاطلالة الكئيبة على محطة الختام. فخلاصة خبرة الأعوام التي وضعها ميازاكي في الطبيعة المعقدة فنيًا للسرد السينمائي حيث يقدم نسيجًا غنيًا من المعاني المفتوحة لشتى التقديرات لم تأتي بشيء جديد يُضاف لما قدمه مُسبقًا وقد تكون اعاقة للتماسك المطلوب.
وهنا يحضر التساؤل المنطقي الذي سيجيب عنه الزمن وتكرار مشاهدة فيلم “الصبي ومالك الحزين”، هل هو الفصل الأخير المناسب كخاتمة لمسيرة ميازاكي المهنية الحافلة بالإنجازات السينمائية اللامعة؟
فالانقطاعات العاطفية والانهماك احيانا في احاسيس النهاية المحزنة تحشر نفسها بزيادة وسط حكاية مغمورة بهمسات إلهية غامضة تتجلى في فضاءات الغابة وحركة كائناتها الفريدة كإشارات مواساة واعية تكتسي حكمة النضوج ولكن دون انفعالات شعورية جلية بلا مواربة.
إن قيمة عمل ميازاكي تكمن في قدرته على استحضار ذاته وذكرياته وعوالمه الشخصية مع ادراك كامل انها محطات لن يتوقف فيها قطار العمر مرة اخرى وصهرها في بيئة خيالية تمتعنا بصريًا وتحفزنا ذاتيًا لأدراك كنه الكون والموجودات والتناغم مع مفردات الجمال المضمرة بدواخلنا والتي تمثل نمط الروي السينمائي الخاص به، يُثبت من خلالها رغم تعبيرات الحزن الشفيف دعوات للمحبة والتصالح مع النفس والاخرين واستيعاب تقلبات الحياة وقسوة الظروف والتطلع للأمام بإيجابية وتقديس الفعل الانساني الخيّر والسعي لاستدامة السلام.
“أريد أن اصنع فيلمًا يلتصق بذاكرة الطفولة لكل شخص. فيلمًا بإمكانهم الاستمتاع بع على مدى ثلاثين عامًا على الاقل.” (هياو ميازاكي).