“كفر ناحوم” فيلم ضل طريقه وسط تصارع الأفكار

احتل مشهد احتفاء المخرجة اللبنانية “نادين لبكي” بوصول فيلمها الأخير “كفر ناحوم” إلى الترشح في مهرجان “كان” السينمائي الدولي في دورته 71، وحصوله على جائزة لجنة التحكيم، كذلك احتفائها بترشحه عن فئة أفضل فيلم أجنبي التي تعقدها أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة “الأوسكار”، منصات التواصل الاجتماعي، إذ وصل “كفر ناحوم” كمنافس مرشح للفوز بجوائز عالمية، ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.

مع عرض الفيلم في السينمات بالعالم العربي وكشف النقاب عن نسخته التي تداولتها المهرجانات العالمية لعدة أشهر، لم يحتف الجمهور بقدر احتفاء لبكي نفسها بنسخة فيلمها المنتظر منذ الإعلان عنه، الفيلم الذي استغرق تصويره 6 أشهر، وبحسب لبكي فقد تم تصوير 520 ساعة كمادة فيلمية تم انتقاء ساعتين منهم فقط، وتباينت الأراء حول الفيلم، فيما تشير لبكي في أحاديثها الصحفية إلى أن هدفها هو التعبير عن معاناة الإنسان داخل وخارج لبنان، ولا يخفى على أحد مواقف لبكي السياسية والاجتماعية داخل لبنان.

كيف تقول بالصورة
هناك قاعدة متعارف عليها في تجربة المشاهدة السينمائية وهي “كيف يقول الفيلم أفكاره وليس ماذا يقول”، هذه المعضلة الدائمة بين الصورة والمضمون تقع العديد من الأفلام فريسة لها، لا ينكر أحد على فيلم “كفر ناحوم” تفجيره للعديد من القضايا لكنه لم يستطع نسج خيوطها ويشبكها معا حتى تصنع ثوبا واضح المعالم ويحمل جماليات، لاسيما مع ازدحامه بالعديد من الأفكار التي تزاحمت، بل وتصارعت فيما بينها وشتت معها المشاهد، فلم نعد نعرف ماذا نرى بالضبط، هل قصة الطفل الذي يرغب في مقاضاة أهله لجلبه لحياته البائسة أم حياة المغتربين والمقيمين خلسة بالاراضي اللبنانية أم السجون وغيرها.

من حق صناع أي عمل فني أن يقدموا أكثر من قضية لكن الطرح وحده لا يكفي، فعليهم أن يشبكوا كل القضايا لتكن مقنعة للمشاهد ولا يشعر بإقحام الأفكار برأسه دون هضمها أولا، وهو الفخ الذي وقع به فيلم “كفر ناحوم” فتاه المشاهد مع المشاهد المتلاحقة التي “تحشي” عقله بالمشكلات والقضايا دون التعمق بها أو ربطها بعضها البعض.

“زين” صبي في مستهل الثانية عشر من عمره، يبدو من شخصه أنه واجه الكثير من الصعاب في الحياة، يحاول إنقاذ أخته المشابهة لعمره من زواج محتم، لكنه لا يستطيع وينقذ نفسه لفترة وجيزة من خلال الهرب من البيت إلى مكان لا يعلم به أحد، ثم يعود من جديد إلى بيت عائلته ليحصل على أوراقه الثبوتية ليهرب عبر البحر لأوروبا، لكنه ينفذ جريمة في حق زوج أخته، تلك التي ماتت جراء عدم تحملها لحياة الكبار الجنسية فجسدها الصغير لم يتحمل، يدخل “زين” إلى السجن جراء هذه الجريمة، ثم يطالب برفع دعوة ضد والديه لجلبه لهذه الحياة البائسة، هذه هي قصة فيلم “كفر ناحوم” باختصار.

نجح الفيلم في مستهله بجذب انتباه المشاهد، رغم مباشرة الحوار وخاصة على لسان “زين” الذي نجده يتداول حديث يكبر سنه بكثير وكذلك شخصه، مع هذا فالحدث يتسيد الموقف في النصف ساعة الأولى من الفيلم، فيما يعيش المشاهد منتصف الفيلم، حوالي ساعة دون حدث يشفى انتظاره الطويل، ويكتفى الفيلم بتقديم مشاهد ميلودرامية لزين ويونس، هذا الرضيع الأثيوبي الذي تعيش والدته “رحيل” دون اوراق ثبوتية سليمة، لينتهي الفيلم بنص ساعة مليئة بالأحداث تصل إلى قدر تشويش المشاهد، وبعدها ينتهي الفيلم.

نادين لبكي مع الطفل زين الرفاعي بطل فيلمها

الطابع التسجيلي
“قطعة من الحياة” هذه هي الفلسفة التي اعتمد عليها المسرحي الالماني الشهير برتولت بريشت، فالحياة على المسرح كما هي على أرض الواقع، حملت “نادين لبكي” وفريقها الكاميرات وتحركوا في شوارع لبنان لملاحقة “زين” وشخصيات العمل، ونلحظ مع مشاهدة الفيلم غلبة الطابع التلقائي الذي تمتاز به السينما التسجيلية أكثر، ويعتبر هو النمط الأكثر ملائمة لهذا النوع من الأفلام التي ترصد الشارع وحكاياته ومشكلاته، وخففت من حدته من خلال مشاهد الداخلي، حيث منزل رحيل الصغير وكذلك منزل عائلة “زين”، الذي شابه “كفر ناحوم\أرض الجحيم والغضب”.

ما صعب مهمة المشاهدة على المشاهد هو “المونتاج” وقطعاته الحادة التي صدمت عيني المشاهدين، لاسيما أن هذا النمط مستمر على مدار ساعتين، مدة الفيلم، فجاء الفيلم وكأنه نظرة على السطح لكافة المشكلات المطروحة من خلال مشاهده، وكأنك تتذوق قطمة من كل طبق دون التفريق بين المذاقات المختلفة.

جماليات منقوصة
ما خففت من وعكة الفيلم بعض اللمحات والمشاهد متقنة الصنع، لاسيما مشهد البداية واستهلال الفيلم وكذلك مشاهد الأطفال بشكل عام في الفيلم، تعد من أفضل مشاهد الفيلم على الإطلاق، حيث تجمع بين تلقائية الاداء والتقنيات الفنية من خلال التصوير وحركة الكاميرا.

بحسب نادين لبكي نفسها، فالممثلين في هذا الفيلم هم شخضيات حقيقية، فالطفل “زين الرفاعي” هو طفل سوري هرب مع عائلته إلى لبنان جراء الحرب الدائرة في سوريا، وكذلك بلاقي الممثلين الرئيسيين بالفيلم، إذ لم يمثلوا من قبل ويعتبر “كفر ناحوم” تجربتهم الأولى، ورغم هذا يعتبر الأداء التمثيلي من أفضل عناصر الفيلم الفنية.

فيما حضرت موسيقى خالد مزنز، المشارك في كتابة السيناريو وزوج المخرجة نادين لبكي وشريكها في أفلام سابقة، بقوة خلال مشاهد الفيلم، ورغم جمال الجمل اللحنية التي وضعها مزنز إلا أنها زادت من حالة الشحن العاطفي فحسب، ولم تسمح للمشاهد بالتعمق بالحدث أو التعاطف الفعلي معه.

اعتمدت لبكي على الفلاش باك في بعض المشاهد لحكي قصتها، التي انتهت نهاية مفتوحة مأساوية رغم بسمة “زين” الإجبارية في نهاية الفيلم، فحياته لن تعتدل حتى بعد خروجه من السجن، فأزمته وجودية، فحياته الممنوحة له من قبل والديه” يرفضها هو كما يرفضهم هم أيضا.

“كفر ناحوم” هي مدينة يسوع السيد المسيح في الإنجيل، لكنها تعرف في الأدب العالمي بأرض الجحيم والفضوى والغضب، إذ تحولت من ارض مقدسة إلى أرض مدنسة ويصعب العيش بها، وهي الحياة ذاتها كما تصورها لبكي، فالأرض التي ترمز للخير يمكن أن تتحول ويصبح الوجود عليها هو مصدر الشرور.

عاب الكثيرون على الفيلم واتهموا بأنه يحاول استمالة نظرة الغرب عن العالم العربي ودول الشرق، عن طريق “حشو” الفيلم بالكثير من المشكلات والمأسي، لكن الطرح السينمائي والفني مكفول للجميع وفي النهاية العمل الفني وجهة نظر قابلة للتأويل والنظر والتحليل، وكذلك الواقع، وهو ما فعلته نادين لبكي حيث نظرت للواقع بطريقتها، وليس بالضرورة أن يعجبنا كل ما يقدم.

https://www.youtube.com/watch?v=ayX2aD_3VeM&feature=emb_logo


Visited 266 times, 1 visit(s) today