“كشف المستور” في زمن الكورونا

جاءت وفاة صفوت الشريف، رجل الدولة الأسبق، ووفاة الكاتب السينمائي المبدع وحيد حامد في الوقت نفسه تقريباً، مثيرة للجدل علي مواقع التواصل الاجتماعي. فالتقاء الخط السياسي بالخط الفني، في هذا السياق، من شأنه أن يسفر عن واحد من الأفلام المهمة في تاريخ السينما المصرية، هو “كشف المستور”. الفيلم أخرجه عاطف الطيب عام ١٩٩٤، وكتب له القصة والسيناريو والحوار وحيد حامد، وقامت ببطولته نبيلة عبيد وفاروق الفيشاوي، ويوسف شعبان، وموسيقي تصويرية بديعة لياسر عبد الرحمن.

الفيلم ممنوع من العرض بسبب موضوعه السياسي الفاضح، الذي يكشف عن بعض الممارسات الأمنية المشينة التي ارتكبتها بعض أجهزة الدولة في زمن فائت، حيث كان يتم تجنيد النساء لتحقيق مآرب سياسية، بدعوي التضحية من أجل الوطن.

ينتمي الطيب وحامد إلي مدرسة سينمائية واحدة، تعتمد علي المباشرة وتغليب المضمون علي الصورة السينمائية. فالفكرة والقضية هما الأساس في المعالجة السينمائية لدي كل منهما، وإن كان ذلك لا يمنع من أن تعثر لدي الطيب علي قدر من الشاعرية في بعض المشاهد كما شاهدنا في فيلم “سواق الأوتوبيس”، وفيلم ” الهروب”. كما لا نعدم بعض الإشارات والرموز في كتابات حامد كما شاهدنا في فيلمي “المنسي” و “طيور الظلام”.

ومن المنطلق نفسه، جاء فيلم “كشف المستور”. فالفكرة قوية وجريئة، والقضية عامة، تمس أحد الأجهزة الحساسة في الدولة، وتدين نظاماً كاملاً اعتمد على العناصر الفاسدة فى إدارة البلاد. يطرح الفيلم قضيته ونقده السياسي من خلال رحلة مثيرة تقوم بها سلوى شاهين (نبيلة عبيد) من أجل الخروج من ورطة تسبب فيها ماضيها المشين من جراء العمل مع أحد الأجهزة الأمنية، عندما تم استدعائها للقيام بالدور نفسه بعد سنوات من الاستقرار وتوقف النشاط المشين، وتحت التهديد بإذاعة أفلام وصور تصور ماضيها اللعين.

ترفض سلوى بكل قوة، ثم تطلب مهلة ثلاثة أيام حتى تتخذ قرارها المصيري الحاسم، إما الاستمرار في أداء الدور نفسه أو الفضيحة. تقابل عدداً من الشخصيات التى كانت تعمل معها في الجهاز نفسه، وتحاول استرداد الشريط المسجل عليه فضائحها، وفى كل خطوة كانت تخطوها كانت تكشف عن حقيقة كانت مستورة في تلك الحقبة المظلمة. والواقع أن الحقائق لم تكن مستورة عن سلوى، وشخصيات الفيلم، لأنهم جميعاً كانوا يعملون معاً، وقد استفاد كل بطريقته من النظام الذى كان يعمل تحت مظلته، غير أن سلوى كانت أداة فنية لكشف المستور عن المشاهد. ربما كان عدم إحراق الأفلام والصور، هو المستور الوحيد الذي لم يكن يعرفه المجندون في الجهاز.

نجح الطيب فى خلق نوع من التوازن بين الصورة السينمائية والأبعاد النفسية والفكرية للشخصيات، وضح ذلك في مشاهد المطاردات في شوارع القاهرة، ليلاً، أو في الزحام، فلم يكن هناك إبهار فى الصورة بقدر ما كان هناك تجسيد عميق للحالة النفسية التي تعكس شعور المطاردة. وبهذا المعنى يمكننا أن نلخص أزمة سلوى فى كونها “شخصية تشعر بالمطاردة طوال الوقت”، وأنها تمضي، مرغمة، فى طريق لا رجوع فيه.

المقاومة الضارية التي أبدتها سلوى تجاه إعادة تجنيدها، وإصرارها على أن تعيش حياة نظيفة رغم ماضيها المشين، يبث الأمل في نفس المشاهد، وبأن الماضي الأسود لن يعود، طالما هناك أناس، لديهم القدرة على المقاومة، من أصحاب القلوب البيضاء، وإن نالهم شيء من العار الذى كان يكلل نظاماً كاملاً من الفساد وتاريخاً ماضياً لا يعرف معنى الفضيلة. غير أن النهاية المأساوية للفيلم، والمصير المظلم الذى ألم بسلوي شاهين قبل أن تصل إلى لحظة الخلاص، إنما قضى على بارقة الأمل الوحيدة التي لاحت ذات مرة، ثم ما لبثت أن انطفأت. هكذا الطيب دائماً مغرم بالنهايات الصادمة، والبطل التراجيدي الذى يدفع حياته ثمناً لمبادئه.

اغتيال سلوي شاهين على خلفية أغنية لعبد الحليم حافظ، وتدحرج برطمان عسل النحل النقي على الأرض، فيه إشارة قوية لموت الرومانسية والبراءة، وأن القوة الغاشمة والضمير الميت هما أعداء الحياة والحرية، وأن الظلمة، فيما يبدو، ستستمر طويلاً.

قدم وحيد حامد سيناريو محكماً، و حواراً جريئاً، فلأول مرة نسمع عبارات من قبيل “جنرال السراير”، “الكفاح الوطني على السرير”. كما عمل على توصيل فكرته من أقصر الطرق، كي يكشف لنا من خلال الحوار عن منظومة فكرية فاسدة، تقوم على الخداع والتدليس لتوهم ضحاياها بمعان شاذة للوطنية والتضحية لصالح البلاد.

لعبت نبيلة عبيد دوراً من أهم أدوارها، ونجحت فى تجسيد شخصية سلوى شاهين المأزومة، بحيث استطاعت أن تنقل حالة الحيرة غير المتناهية التي وقعت فيها إلى المشاهد، وأجادت فى التعبير بالنظرات ونبرة الصوت عن شخصيتها المركبة، باعتبارها امرأة ذات خبرة في عالم الليل والرجال ، و باعتبارها امرأة متزوجة ومحافظة وترغب فى الاستقرار في الوقت نفسه.

كان فاروق الفيشاوي موفقاً كذلك في دور محسن رجل المخابرات، فجاء أداؤه رصيناً ومحسوباً على قدر الدور، كما كان محتفظاً بثبات انفعالي يتناسب وطبيعة الشخصية التي يؤديها، كرجل مخابرات يقوم بتجنيد النساء على غير رغبتهن.

ويمكن أن نقول الشيء نفسه بالنسبة لأداء يوسف شعبان، فى شخصية طلعت الحلواني، الذى جاء سهلاً ممتنعاً، بالرغم من قصر الدور، فقد نجح في إقناعنا بأنه كان ضحية مثل الآخرين الذين كان يقوم بتجنيدهم، وأنه وقع في الخديعة نفسها، لأن هناك من هم أعلى منه في الجهاز، هم المحركون الحقيقيون للأحداث.

جاءت موسيقى ياسر عبد الرحمن موفقة فى التعبير عن الحالة النفسية للشخصيات، خاصة سلوى شاهين، التي تطلبت شخصيتها أن تعبّر عن مواقفها الدرامية بالشجن أحياناً وبالمرح أحياناً أخري. استخدام أغان عمرو دياب وعبد الحليم حافظ في خلفية الأحداث كان يعكس الحالة المزاجية لحياة جديدة، فى الظاهر، وغياب تام للوعى عما يدور تحت السطح.

بصرياً، يطرح الفيلم قضيته من خلال مستويين من الحقيقة، واحدة ظاهرة والأخرى مخفية، وتكمن رسالته في إزاحة النقاب عن الحقيقة المستورة. فكل الشخصيات التي تبدو فاضلة، لها تاريخ طويل من العمل الفاسد، وحالة الاستقرار التي ينعم بها المواطن إنما تنطوي على بركان تحت السطح يمكن أن يثور في أي لحظة. يتضح ذلك من حركة الكاميرا القلقة، التي كانت تنتقل من على وجه سلوى لتدور فى المكان بحثاً عن شيء ما خفي، لا يظهر للعيان. ربما قصد الطيب إلى إبراز حيرة البطلة وقلقها المتواصل من المصير المحتوم، لكن تظل المفارقة بين الحوار الذى يعكس الأزمة، وحالة الاستقرار النسبي التي تبدو عليها الأشياء داخل الكادر عنواناً لنظام حياة كامل يبطن أكثر مما يظهر.

إن استدعاء فيلم “كشف المستور” فى زمن الكورونا، إنما هو بمثابة إعادة الطرح لقضية فلسفية تجاوز الدلالة السياسية المباشرة للفيلم، وهى قضية المرئي واللا مرئي. فبالرغم من هشاشة الفيروس إلا أنه يستمد سطوته من كونه لا مرئياً أي مستوراً، وتظل العلاقة غير متكافئة ما دمنا نحارب عدواً لا نراه. وبالمنطق نفسه تستمد الأنظمة الهشة سطوتها وقدرتها على قهر المواطنين، من خلال عوالمها السرية وعناصرها الخفية التي لا يمكن أن يطلع عليها أحد سواها.

Visited 56 times, 1 visit(s) today