كسر “التابوه” الديني عند العرب: الأفلام القصيرة أشجع
بدت بعض الأفلام العربية الروائية القصيرة – خلال الأشهر الأخيرة – أشجع من نظيرتها الروائية الطويلة في كسر الـ”تابوهات” – أو المحظورات – على الشاشة، وأبرزها التابوه الديني.. وقبل الدخول في التفاصيل، لابد من إجابة عن سؤال متوقع: ما هي فائدة كسر أي “تابوه”؟ وهل هناك ضرورة لكسره أصلا؟
الحقيقة أن دور الفن بشكل عام، والسينما على الأخص، هو مخالفة السائد، وتحطيم القيود، والثورة على الممنوع والمحظور، وعلى منظومة العادات والتقاليد البالية كلها إن كانت الدراما تتطلب ذلك وتتحمله، لأن السينما – ببساطة – هي مرادف الحرية، ومكانها على يسار أي سلطة، بما في ذلك السلطة الدينية.
شاهدت، أخيرا، فيلمين عربيين قصيرين يتمتعان بتلك الجرأة: “السلام عليك يا مريم”، الذي وصل للقائمة القصيرة النهائية لترشيحات جوائز الأوسكار الأمريكية هذا العام في فئة الفيلم الروائي القصير، و”ومع روحك”، الفائز بجائزة أفضل فيلم عربي قصير في الدورة الرابعة من مهرجان الأقصر للسينما العربية والأوروبية (30 يناير – 5 فبراير 2016).
يتميز “مريم” – خلال مدة عرضه القصيرة التي لا تتجاوز 15 دقيقة – ليس فقط بقدرته على كسر “التابوه” الديني، ولكن تحطيم “التابوه” السياسي أيضا، وهو أمر لا تجرؤ عليه معظم الأفلام العربية الروائية الطويلة.. كما يطرح – بصورة غير مباشرة – قضايا التعايش والتجاور السياسية بين مختلف الديانات والطوائف في الأراضي المحتلة، في معالجة كوميدية ساخرة ورؤية ناضجة وسرد متدفق.
فضلا عن الإحساس بالبهجة، يمنحك الفيلم – وهو إنتاج مشترك لفلسطين مع فرنسا وألمانيا من إخراج باسل خليل – الشعور بأن المجد، دائما وأبدا، للإنسان أولا، ولأحلامه وطموحاته المشروعة، بصرف النظر عن دينه أو انتمائه أو لونه أو جنسه، وهذه هي – مرة أخرى – القيمة الحقيقية لفن السينما.
في يوم سبت تمارس فيه بعض الراهبات “عبادة الصمت” ويمتنعن عن الكلام في أحد الأديرة برام الله، ويمتنع فيه اليهود عن استخدام الآلات الحديثة بالإضافة لقائمة أخرى من الممنوعات، تصدم أسرة يهودية صغيرة تمثالا للعذراء مريم أمام الدير بسيارتها التي تتعطل تماما، في رمز ربما للمرحومة “عملية السلام” المتعطلة منذ سنوات، ويكون على الجميع أن يجدوا حلا.
إزاء أمر “دنيوي” كهذا، لم يكن هناك بد مما ليس منه بد، فالصائمات عن الكلام اضطررن لتحريك ألسنتهن، والممنوعون من تشغيل الأجهزة أُجبروا على استخدامها، والأم اليهودية العطشي شربت بتلذذ ما يفترض أنه “حرام”، والفرقاء السياسيون اضطروا للتعاون سويا لتصليح سيارة قديمة قررت الراهبات إعارتها للأسرة اليهودية.
لكي تتمكن السيارة من المرور في الأراضي الفلسطينية، يرفع اليهود فوق سقفها صورة للعذراء مريم التي لم يعتذروا حتى عن تحطيم تمثالها، والمقصود بوضوح أن ديانة القائد ليست مهمة، والشعار الذي يرفعه ليس فارقا، المهم أن تسير العربة، أو الأمور.. والمقصود أيضا أن أي رمز خارجي أو شكلي لا يعكس بالضرورة تدينا حقيقيا، وأن الزيف هو السائد في عالم اليوم.
في الفيلم الآخر، “ومع روحك” (18 ق)، وهو إنتاج لبناني من تأليف وإخراج كريم رحباني، الدراما أكثر قتامة ومأساوية، ودموية أيضا، حيث يتورط قس في جريمة قتل قصّاب اختلف معه حول حساب اللحم الذي يورّده للكنيسة، وبدلا من “الاعتراف” ومحاولة التكفير عن ذنبه ودفع أي ثمن لما اقترفت يداه، يكذب، ويداري ما فعل، ليتحول القتل الخطأ إلى جريمة كاملة تكتمل فيها عناصر “العمد” و”الإصرار” و”الترصد” عندما يدفن القس ضحيته في السر، وعندما يكذب على أهله حين يأتون للسؤال عنه.
أهم وأبرع مشاهد الفيلم هو ذلك الذي يكسر فيه القس القاتل زجاجة نبيذ أحمر فوق دماء القتيل على الأرض لمحو آثارها، وتكنس إحدى خادمات الكنيسة الدماء مع النبيذ في لقطة مؤثرة يزيدها تأثيرا أن النبيذ الأحمر في العقيدة المسيحية يرمز إلى دم المسيح عليه السلام، بما يعني أن القس القاتل خلط دم المسيح مع دماء أحد أتباعه دون أن يرمش له جفن ودون حتى أن يشعر بالذنب.
أدى جوزيف شمالي دور القس القاتل باقتدار، خاصة في المشهد الختامي الذي يقود فيه الصلاة بالكنيسة، وقبل أن يبدأ “يبلغ” المصلين بأن القصّاب اختفي منذ عدة أيام ويطالب من يتوصل إلى أي معلومات بأن يدلي بها فورا (!!)، ثم يستدير ليبدأ الصلاة بتعبير لامبال على وجهه من شأنه إدانة كل رجال الدين الكاذبين المنافقين وكل تجار الدين في كل مكان وزمان.