كريستوفر نولان مُبدع “الرجل الوطواط” و”عبر النجوم”
ربما لا يكون من الممكن أن نتذكر مخرجاً سينمائياً استطاع، خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، أن يجمع في أفلامه بين النجاح الجماهيري الذي يحقّق عائداً كبيراً في شباك التذاكر، وبين متعة التذوق الفنّي، يتحدث عنها النقاد ويحللونها ويعطونها أعلى الدرجات النقدية، مثل المخرج الإنجليزي الكبير، كريستوفر نولان Christopher Nolanالذي هو بحق مبدع سينمائي شامل، لأن إبداعه لم يقتصر على الإخراج فقط ولكنه كتب أيضاً أو شارك في كتابة سيناريو العديد من أفلامه، فضلاً عن المشاركة في إنتاجها.
ويكفي أن نذكر معلومة إحصائية عن أعماله. فموقع IMDB أو “قاعدة بيانات الأفلام على شبكة الإنترنت” المشهور بعرض وتحليل تاريخ الأفلام وكل ما يتصل بصناعة السينما، لديه قائمة بأفضل 250 فيلم من وجهة نظر الجمهور. وتضم تلك القائمة سبعة من أفلام هذا المخرج الذي أخرج حتى الآن تسعة أفلام فقط.
ومن أهم أفلام هذا المخرج فيلم Inception وهو ما يعني “غرز فكرة” بحسب المدلول الفعلي للعنوان. وقد عُرض الفيلم في صيف 2010، وهو من بطولة النجم المتألق ليوناردو دي كاپريو الذي سبق ترشيحه أربع مرات لأوسكار أحسن ممثل. وقد أثار هذا الفيلم جدلاً كبيراً أثناء عرضه لصعوبة موضوعه وفكرته، ولكنه رغم ذلك حاز إعجاب النقاد والجماهير معاً، وحقق ما يقرب من 900 مليون دولار عالمياً، ومازال الكثيرون من محبّي الفن السابع يتحدثون عنه إلى الآن.
والفيلم حتى كتابة المقال يقبع في المركز الثالث عشر على قائمة الـ IMDB، وهو يعتبر من أفلام الخيال العلمي والمغامرات معاً. ويلعب دي كاپريو في الفيلم دور لص ماهر تستأجره الشركات الكبيرة لسرقة بعض الأشياء، ولكنه لص ليس بالعادي، حيث يُطلب منه التوغل في عقل من يسرقهم أثناء نومهم ليسرق من العقل الباطن للضحية فكرة ما. ويبدأ الفيلم بالفعل أثناء تأدية قيام كاپريو بعملية سرقة؛ فهو في عقل أحد رجال الأعمال لسرقة السر وراء إمبراطورية الرجل. ونرى هنا براعة كريستوفر نولان في مزج عالم الواقع بعالم الأحلام. فبطريقة ما استطاع نولان أن يقنعنا نحن المشاهدين أن ما يحدث أمامنا يمكن أن يكون حقيقياً. وتستمر الأحداث عندما يفشل دي كاپريو في مهمته ويرجع إلى عالم الواقع، حيث يطلب منه نفس رجل الأعمال الذي حاول سرقة الفكرة من عقله أن يقوم بتنفيذ عملية جديدة له، وهي غرز فكرة ما في عقل أحد منافسيه، وهو ما يُطلق عليه Inception. ويضطر دي كاپريو للقبول ويقوم بجمع فريق عمل ليساعده في عملية من أغرب عمليات الاحتيال، مسرح أحداثها بالكامل هو الأحلام التي تدور داخل العقل الباطن لفريسة رجل الأعمال.
كريستوفر نولان إلى يمين الصورة
تقسيم الفيلم
وعند مشاهدة للفيلم تشعر أن نولان، الذي كتب أيضاً القصة والسيناريو بنفسه على مدار ثمانية أعوام، حاول أن يقسم أحداث الفيلم إلى نصفين: النصف الأول يشرح لنا كيفية احتمال نجاح تلك العملية والتجربة الفريدة من نوعها؛ والنصف الثاني هو تنفيذ العملية بالفعل داخل العقل الباطن للضحية. وتُعتبر الموسيقى التصويرية للموسيقار الألماني الأصل هانز تزيمارHans Zimmerمن أجمل عناصر الفيلم، فقد كانت عنصراً أساسياً في الأحداث، و أضافت نوعاً مثيراً وغريباً من التشويق عندما كان أفراد الفريق يتغلغلون شيئاً فشيئاً داخل العقل الباطن لفريستهم. وقد رُشّحت الموسيقى التصويرية للأوسكار ضمن ترشيحات أخرى للفيلم الذي فاز بأربعة جوائز أوسكار، هي جائزة أحسن تصوير سينمائي، وأحسن مؤثرات بصرية، وأحسن مونتاچ صوت، وأحسن ميكساچ صوت.
وللمخرج كريستوفر نولان تحفة سينمائية أخرى فى عام 2006 بعنوان The Prestige أو “الجاه” والذي يحتل المركز رقم 51 على قائمة IMDB اللسابق الإشارة إليها. وتدور أحداث الفيلم في ثمانينيات القرن التاسع عشر عندما ينشأ صراع بين صديقين كانا يمارسان السحر، في محاولة كل منهما العثور على أعظم خدعة سحر في التاريخ يتحدّى بها الآخر. وقد لعب دور الساحرين كل من الممثل الإنجليزي كريستيان بيل Christian Bale والممثل الأسترالي الأصل هيو جاكمان Hugh Jackman وشاركهما البطولة الممثل الإنجليزي الكبير مايكل كين.
ونرى من خلال تتابع الأحداث كيف لم يعتمد نولان على عرض الموضوع بالتسلسل النمطي، بل كان يكشف لنا المشاهد أحداثاً من الماضي أحياناً ثم يعود للحاضر لنننتقل بعدها إلى المستقبل، إلى أن يتضح لنا في النهاية منطق الرواية. لذلك فالفيلم من الأفلام التي يصعب شرحها، ولا يحق لأي ناقد أن يتعرض للنهاية حتى لا يقتل عند المشاهد متعة التشويق والإثارة فى متابعة تلك التحفة السينمائية. وقد اشترك نولان مع شقيقه چوناثان نولان، في كتابة سيناريو الفيلم، كما شارك أيضاً في إنتاجه. وقد رُشّح الفيلم لجائزتي أوسكار أحسن تصوير وأحسن ديكور.
ونعود للوراء قليلاً إلى عام 2000 عندما عُرض ثاني فيلم من إخراج نولان، وهو بعنوان Memento أو”التذكار” والذي يقبع في المرتبة رقم 41 ضمن قائمة IMDB. والفيلم من بطولة الممثل الأسترالي الأصل جاي پيرس Guy Pearce الذي لعب فيه دور رجل مصاب بنوع من فقدان الذاكرة لأحداث الماضي القريب، يحاول عن طريق الوشم على جسده وكتابة بعض الخواطر على الأوراق التغلب على مشكلة نسيان ما يمر به من أحداث في محاولته العثور على قاتل زوجته، وهو آخر حادث ظل في ذاكرته. والمثير أن من يشاهد هذا الفيلم قد يكون من الصعب أن يفهمه للوهلة الأولى لأن السيناريو يسير في مسارين متضادين، الأول يسرد الأحداث بالتسلسل الزمني الطبيعي، والآخر يوردها بتسلسل زمني معكوس. ولكن عند المشاهدة الثانية سوف تتضح معالم اللغز الذي برع نولان في كتابته وإخراجه، ولهذا رُشّح الفيلم لجائزة أوسكار أحسن سيناريو أصلي وأحسن مونتاج.
الرجل الوطواط
وقد ساهم نولان بشكل كبير في إحياء أسطورة الرجل الوطواط أو باتمان في السينما الأمريكية عندما نال ثقة أستوديوهات أفلام وارنر التي خصّصت له ميزانية تصل إلى ما يقرب من 150 مليون دولار. ومن المعروف أن هناك رباعية سينمائية سبق إنتاجها للرجل الوطواط بدأت عام 1989 وانتهت عام 1997. ويأتي نولان في 2005 ليُظهر لنا الرجل الوطواط في ثوبه الجديد في فيلم “باتمان يبدأ”Batman Begins الذي حقق إيرادات بلغت نحو 370 مليون دولار عالمياً. وبعد هذا النجاح قرر المشاركون في إنتاجه تحويله إلى ثلاثية، فجاء الجزء الثاني في 2008 بعنوان فارس الظلام The Dark Knight ليكسر جميع التوقعات في شباك التذاكر، حيث تعدّت إيراداته المليار دولار عالمياً، دليلاً على إعجاب واقتناع الجماهير به، كما حاز أعلى الدرجات من جميع النقاد. ثم خرج بعد ذلك إلى النور الجزء الأخير من الثلاثية صحوة فارس الظلام The Dark Knight Rises في يوليو 2012.
وإذا تأملنا الجزء الأول من هذه الثلاثية، نجده يرجع إلى أصل نشأة أسطورة الرجل الوطواط، وكيفية تحول المليونير بروس وين إلى ذلك الفارس الذي يكافح الجريمة بالليل، أو الرجل الوطواط. ومن خلال الأحداث نرى أن نولان أراد أن يعالج قضية الخوف في قلب بروس وين، وكيف أن مقتل والديه أمام عينيه استثار في داخله رغبة الانتقام ولكن كان عليه أولاً أن يقهر الخوف بداخله. وفي البداية نرى المليونير المستهتر بروس وين يتسكع بين السجون إلى أن يلتقي بأحد الرجال الذي يطلب منه الانضمام إلى كتيبته للتدريب على مكافحة الشر، فينضم لها وين بالفعل ويتابع التدريبات بكل الجدية والأخلاق، إلى أن تجيئ اللحظة الحاسمة التي يطلب فيها معلّمه أن يقتل رجلاً فقيراً ارتكب جريمة سرقة. وهنا تظهر شخصية بروس وين الحقيقية حين يرفض قتل الرجل ويلجأ للهروب، أو بمعنى أدق يعود إلى مدينته، مدينة جوثام. وهكذا، استطاع بروس وين أخيراً أن يتغلب على مخاوفه بالرجوع إلى مدينته ليتحول إلى فارس الظلام المعروف بالباتمان، أو الرجل الوطواط، حيث تنشأ صداقة خفية بينه وبين مفتش البوليس الملازم جيم جوردون.
ويأتي فيلم “فارس الظلام” تكملةً للجزء الأول ليعالج قضية أعمق من قضية قهر الخوف، وهي توغُّل الفوضى في المجتمع وكيف ينمحي فيه سلطان القانون إذا سيطر عليه مجموعة من المجرمين. وقد شارك نولان في إنتاج الفيلم وفي كتابة قصته، كما اشترك أيضاً مع أخيه چوناثان في كتابة السيناريو.
وتدور القصة حول محاولة الرجل الوطواط والمفتش چيم جوردون والمحامي العام هارڤي دنت تقليص الجريمة في مدينة جوثام والقبض على مرتكبيها من المجرمين، حيث يظهر لهم من الباطن مجرم لم يعيروه انتباهاً واهتماماً باسم الچوكر أو المهرج؛ ذلك المهرج الذي لا يعرف معنى للمنطق، ويريد أن ينشر الفوضى في قلب جوثام بدون أي مبررات. وقد لعب دور المهرج ببراعة منقطعة النظير الممثل الراحل هيث ليدچر، حيث قام بأداء شخصية غريبة نجد أنه من الصعب تصنيفها، فهو يرتكب الجرائم ليس من أجل المال، ولكنه يريد نشر الفوضى في المجتمع من أجل سيادة منطق الشر، لأنه يرى أنه بوجود الفوضى يعلو شأن الشر ويختفي الخير.
وقد قام في أحد المشاهد بحرق مبلغ هائل من المال، دليلاً على عدم اكتراثه بالمادة. وفي مشهد آخر مثير للمشاعر يضع المهرج الرجل الوطواط أمام اختيار صعب ودقيق، حيث يجعله يختار بين الحب وأداء الواجب، وذلك عندما خطف كلاً من محبوبة الرجل الوطواط والمحامي العام هارڤي دنت قائلاً له أن عليه أن يختار إنقاذ واحداً منهما فقط. وتبدو شخصية المهرج هنا شخصية إنتهازية، فقد كان الهدف من كل أعماله الإجرامية هو أن يكشف الرجل الوطواط عن شخصيته ويخلع أمامه قناعه الذي يتخفّى تحته.
وأثناء مشاهدةى الفيلم لا يشعر المشاهد قط بأنه يشاهد فيلماً مأخوذاً عن كتب القصص المصورة المعروفة بالكوميكس comic book، فقد استطاع نولان أن يجعل للفيلم نوعاً من الواقعية. فالموضوع يمكن أن تجري أحداثه في أي مدينة عندما تسيطر فيها الجريمة ويتشبع بها صانعوها. وقد تضمنت بعض مشاهد الفيلم مواقف تناقش الجريمة والعقاب، وما هو منبع الشر ومنبع الخير، ولماذا يفعل المجرم ما يفعله.
وكما ساهم الموسيقار الألماني الأصل هانز تزيمار في وضع الموسيقى التصويرية لفيلم Inception فقد وضع أيضاً الموسيقى التصويرية للجزءين الأول والثاني من ثلاثية باتمان، كما أنه حظي بشرف وضع موسيقى الجزء الثالث أيضاً. ولعل اختيار نولان لتزيمار لوضع الموسيقى التصويرية في أفلامه يرجع إلى أن موسيقى تزيمار دائماً ما تضيف إلى الأحداث وكأنها طرف ثالث خفي يتحدث إلينا وينبهنا إلى اقتراب موقف أو حدث معين. وقد شاهدت حواراً لهانز تزيمار يتحدث فيه عن سر اختياره للحن معين يعبّر فيه عن قرب قدوم المهرج في كل مشهد يظهر فيه على الشاشة، وكأنه يريد تنبيهنا للخطر الذي سيستتبع قدوم تلك الشخصية.
ويحتل باتمان يبدأ المركز رقم 108 على قائمة الـ IMDB لأفضل الأفلام، وقد رُشح لجائزة أوسكار واحدة ، وهي أحسن تصوير سينمائي. أما “فارس الظلام” فيأتي في المركز الرابع على تلك القائمة، فضلاً عن أنه رُشح لثماني جوائز أوسكار، فاز منها بجائزتين وهما أحسن مونتاج صوت وأحسن ممثل مساعد للراحل هيث ليدچر؛ بينما يحتل “صحوة فارس الظلام” المركز رقم 55 من القائمة. وقد قام بدور الرجل الوطواط في الأجزاء الثلاثة الممثل الإنجليزي كريستيان بيل الذي حاز على جائزة الأوسكار عام 2011 كأحسن ممثل مساعد عن دوره في فيلم The Fighterأو المقاتل. أما المفتش جوردون فقد لعب قام به الممثل الإنجليزي جاري أولدمان، ولعب دور هارفي دنت الممثل الأمريكي آرون إيكهارت.
بقي أن نشير إلى فيلمين آخرين أخرجهما كريستوفر نولان؛ الأول بعنوان Insomnia أو “الأرق” 2002 ، وكان من بطولة النجمين آل پاتشينو وروبن ويليامز؛ والثاني بعنوان Following أو “تتبُّع” 1998، وهو أول فيلم سينمائي يخرجه نولان.
والطريف أن نذكر هنا أن نولان بالإضافة إلى أنه كتب قصة هذا الفيلم وشارك في إنتاجه، فقد قام أيضاً بتصوير مشاهده بنفسه وشارك في عملية المونتاچ؛ لذلك فهو بحق مبدع سينمائي شامل. وقد رُشح نولان لثلاث جوائز أوسكار هي أحسن سيناريو أصلي عن فيلم “التذكار” ثم أحسن منتج وأحسن سيناريو أصلي عن فيلم “غرز فكرة”.
وجدير بالذكر أن هذا المخرج الإنجليزي الفذ الذي لم يتجاوز عمره 44 عاماً، والذي نجح في الجمع بين الشهرة الجماهيرية والحرفية الفنية، لديه “تيمة” أو “بصمة فنية مشتركة” في أفلامه، وهي أنه يبدأ الفيلم بمشهد من النهاية ثم يعود لسرد الأحداث وفق تسلسلها الطبيعي، وهو ما نلحظه في أفلام “غرز فكرة” “والجاه” و”التذكار”.كما أنه يحب أن يستعين بطاقم فني ممن سبق لهم العمل معه، ومثال على ذلك كريستيان بيل الذي مثل معه في ثلاثية الرجل الوطواط وأيضاً في فيلم الجاه، وكذا الممثل مايكل كين الذي شاركه العديد من أفلامه، وآخرين.
عبر النجوم
وفي 2014 يخرج إلى النور آخر إبداعات نولان بعنوان Interstellar أو “عبر النجوم”، والذي عُرض في قاعات العرض المصرية خلال شهر نوفمبر من نفس العام ولاقى نجاحاً جماهيرياً كبيراً. والمعروف أن نولان شارك في كتابة سيناريو الفيلم مع أخيه جوناثان، كما أنه شارك في الإنتاج عن طريق شركته التي تديرها زوجته إيما توماس.
من فيلم “عبر النجوم”
وقد ثار جدل كثير حول هذا الفيلم قبل عرضه في أمريكا والعالم، خصوصاً أن الإعلانات التي أظهرت بعض مشاهده لم تُوضّح بالكامل الموضوع الذي يتحدث عنه. وكانت الآراء تقول أن نولان لن يستطيع تكرار نجاح ثلاثية باتمان أو Inception، حيث لم تُظهر إعلانات الفيلم مشاهداً فيها إثارة أو مغامرات. ولذلك دخل الكثير من عشاق هذا المخرج الفيلم واضعين في الإعتبار أنه لن يكون جيداً. وهو ما حدث للعديد من عشاق السينما، الذين قالوا أن الفيلم هو أضعف أفلام نولان.
وقد شاهدت الفيلم مرتين بتقنية IMAX خلال ثلاثة أيام فقط. لماذا؟ لأني في المرة الأولى بُهرت بالصورة المنقولة أمامي وأداء الممثلين؛ وفي الثانية كانت النظرة مختلفة، حيث شاهدته من نطاق المضمون ومحاولة تدبُّر وتحليل ما لم أفهمه في المرة الأولى بعد قراءاتي عن الفيلم.
ويتناول Interstellar قصة إنسانية شاعرية ولكن بطريقة علمية مختلفة. فأحداثه تجري في المستقبل القريب عندما تفقد البشرية الأمل في الحياة، حيث يتعرض كوكب الأرض لعواصف ترابية وموجة جفاف تكاد تقضي بالكامل على المحاصيل الزراعية بما يهدد البشرية بالفناء. ويقوم بالدور الرئيسي في الفيلم الممثل الأمريكي ماثيو ماكّونيهي الحاصل على أوسكار أحسن ممثل في 2014 عن دوره في فيلم “نادي المشترين بمدينة دالاس”.
ونعرف في بداية الفيلم أن الجنس البشري يعيش حالياً على محصول الذرة فقط، والذي يمكن أن يختفي أيضاً بعد حين. ونجد بطل الفيلم كوبر (ماثيو ماكّونيهي) الذي كان يحلم في يوم من الأيام أن يكون رائد فضاء، يشتغل بالزراعة ويعيش في منزل مع إبنه توم وابنته مورف وجدهما دونالد چون ليثجو. ورغم ذلك فهو مهتم بتعليم إبنته ذات العشر سنوات النظريات العلمية. وبطريق الصدفة يستطيع الحصول على إحداثيات مكان نائي، وعندما يذهب إليه مع ابنته يكتشف أنه المقر الوحيد الباقي لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا، والتي اختفت من على الخريطة منذ عشر سنوات عندما فقدت البشرية الأمل في الحياة على كوكب الأرض. وفي بداية الأمر نجد كوپر غير مصدق أن ناسا مازالت تعمل، ولكنه بالتدريج يعلم أن هذا هو بالفعل المقر الأخير لها والأمل الوحيد الباقي في محاولة إيجاد مخرج لما حلّ بكوكب الأرض.
وهنا يتعرف كوبر على شخصية العالمة الشابة براند، والتي تؤدي دورها آن هاثاواي الحاصلة على أوسكار أحسن ممثلة مساعدة عن دورها في فيلم “البؤساء” 2013، ويعلم أن أباها مايكل كين لديه خطة علمية يمكن بها إنقاذ العالم وكوكب الأرض. وتتلخص الخطة في أن يقود كوپر، المُدرَّب على قيادة مركبة فضائية، فريقاً من رواد الفضاء للذهاب إلى مجرة أخرى َعبر ثقب دودي Worm Hole استطاع 12 رائد فضاء من قبلهم عبوره لاكتشاف كواكب أخرى يمكن أن تكون بديلة للعيش والتأقلم مع جوّها.
وهنا يتعرض كوپر لحقيقة خطورة المهمة حيث سيضطر إلى ترك عائلته، وبالأخص ابنته التي يمكن أن يرجع لها في يوم من الأيام ليجد أنها تقدمت في العمر سنوات كثيرة بالمقارنة إليه وذلك تبعاً لنظرية آينشتاين في نسبية الزمن، بمعنى أن مرور سنة من عمر رواد الفضاء يمكن أن تكون، مثلاً، بمثابة عشر سنوت من عمر سكان كوكب الأرض. وهنا يتحدّى البطل كل العواقب ويقرر التخلّي عن عائلته في محاولة لإنقاذ سكان كوكب الأرض واكتشاف كوكب آخر عبر النجوم يصلح للعيش عليه.
ماثيو ماكّونيهي في دور كوبر بطل فيلم “عبر النجوم”
وعندما شاهدت الفيلم لأول مرة على شاشة الـ IMAX أحسست أنه أفضل فيلم أشاهده بتلك التقنية، حيث أعرف عن نولان أنه من المخرجين القلائل الذين ما زالوا يصورون أفلامهم بنظام الـ35 ميلليمتر، كما أنه استخدم كاميرات تصوير IMAXكما في أفلامه الثلاثة السابقة. وقد تأثرت جدا بالخط الدرامي المتصل من أول الفيلم إلى آخره، وهو الخاص بالعلاقة المستمرة بين بطل الفيلم ماثيو ماكّونيهيوابنته ذات العشر سنوات مورف، والتي أدت دورها ببراعة الطفلة ماكينزي فوي، والتي ستكبر خلال أحداث الفيلم لتؤدي دورها الممثلة الشابة الجميلة چيسيكا تشاستين. كما أعجبني ماكّونيهي وهو يُظهر مشاعر الأبوة الفيّاضة، حيث برع نولان في استخراج تعبيرات الحزن على وجه البطل وإحساسه بعمق تضحيته في فقدان أسرته من أجل إنقاذ البشرية.
وقد تعمّقت أيضاً في السيناريو المكتوب وشعرت أن الأخوان نولان استطاعا الجمع باحتراف بين الإنسانيات والحقائق العلمية التي قدمها الفيلم. فمثلاً شعرت بمغزى المشهد الذي تسأل فيه البطلة آن هاثاواي البطل عن مفهومه لمعنى الحب، فيجيب أنه وجد الحب محصلة إجتماعية فقط بين الأحياء؛ فتجيبه متسائلة “وماذا عن حبنا للأموات الذين فقدناهم وما زلنا نحبهم؟”
وقد لفت انتباهي في المشاهدة الأولى الموسيقى التصويرية للموسيقار هانز تزيمار، وهو الذي وضع الموسيقى التصويرية للعديد من أفلام نولانكما سبق ذكره، وكيف أنها كانت عنصراً مهماً في تتابع الأحداث وأضافت نوعاً من الشاعرية في المشاهد الإنسانية ثم نوعاً من الترقب والإثارة والغموض خلال الرحلة الفضائية التي قام بها أبطال الفيلم. وأخيراً، كانت الموسيقى التصويرية بمثابة جرس إنذار في الربع الأخير من الفيلم عندما تداعت أمامنا إرهاصات قُرب المهمة من الفشل.
النظريات العلمية
والواقع أن مشاهدتي للفيلم مرة ثانية جاءت بسبب ما وجدته من صعوبة أحياناً في فهم بعض النظريات العلمية التي تطرق الفيلم لشرحها؛ لذلك ذهبت وأنا عازم على التركيز في كل صغيرة وكبيرة، وهو ما أوصلني في النهاية إلى اليقين بأن “عبر النجوم” هو من أعظم الأفلام التي شاهدتها في حياتي. بل أستطيع الجزم بأنه سيظل محفوراً في ذاكرة السينما، وسيُكتب عنه مع مرور الوقت مقالات وكتباً كثيرة. وللعلم فالفيلم يقبع حالياً في المرتبة رقم 15 على قائمة IMDB الخاصة بأفضل 250 فيلم من وجهة نظر الجمهور. وقد استعان نولانبشخصية علمية أمريكية مهمة، وهو كيپ ثورنKip Thorne الخبير في علم الكونيات، والذي ساهم أيضاً في إنتاج الفيلم. واستطاع نولانببراعة شرح نظرية هذا العالم عن الثقب الدودي على لسان أحد رواد الرحلة الفضائية. والفيلم يتناول بالشرح أفكاراً ونظريات علمية عدّة، مثل نظرية الثقب الأسودBlack Hole والسفر عبر المجرات، والكواكب المائية والجليدية الجبلية، ثم نظرية العالَم الخماسي الأبعاد؛ وعلى رأس ذلك كله تأتي نظرية النسبية والزمن لآينشتاين.
عبر النجوم
وبالطبع من الصعب شرح كل تلك النظريات العلمية، ولكن على الأقل يجب الإشادة بوجهة نظر كريستوفر نولان وأخيه في وضع سيناريو متكامل يجمع بين أطياف موضوعية متباينة. فالفيلم كما ذكرت يجمع بين الإنسانية والعلم، وأهمية الإقتناع أولاً بأننا خلقنا على كوكب الأرض لاستكشافه، ثم أهمية التشبّث بالأمل، خاصةً ونحن نحاول استكشاف احتمال الحياة على كواكب أخرى نتيجة فقدان كوكبنا الذي ندمره بأيدينا شيئاً فشيئاً. وقد عقد بعض الكتاب مقارنة بين هذا الفيلم وفيلم 2001: أوديسا الفضاءللراحل ستانلي كوبريك1968. ورغم وجود بعض التشابهات، أستطيع أن أقول أن المقارنة تعتبر مستحيلة. ويرجع ذلك إلى أن الفيلمين يفصل بينهما 45 سنة من العمر، تغيّر خلالها بدون شك العلم كما تغيرت تقنيات السينما. ولذلك يظل لكل فيلم من هذين الفيلمين طابعه الخاص المتسّق مع عصره.
لم يُرشّح نولان إلى الآن، ولو مرة واحدة، كأحسن مخرج في مسابقة الأوسكار، رغم أنه يستحق كل الإشادة والتقدير. فكما ذكرت في بداية هذ العرض، فقد أخرج نولان9 أفلام طويلة على مدى 16 عاماً، لكل منها طابع مختلف عن الآخر. وهو المخرج الوحيد الذي استطاع تحويل قصة بطل خارق مثل باتمان إلى شخصية واقعية كأنك تراها في مجتمع حقيقي وليس خيالي. وحتى كتابة هذه السطور حقق الفيلم ما يقرب من 160 مليون دولار في أمريكا وحدها، و430 مليون دولار حول العالم.
وربما تُعير لجنة الأوسكار إنتباهاً لنولان وهذا الفيلم بالتحديد فتقوم بترشيحه للعديد من الجوائز، التي قد يكون من أهمها جائزة أحسن تصوير سينمائي، أحسن مؤثرات بصرية وصوتية، أحسن سيناريو أصلي، أحسن موسيقى تصويرية، وبالطبع أحسن مخرج وأحسن فيلم.