“كثيب” 2.. المُخلص الموعود بين التردد والشك والنبوّات

من كان يعتقد أن زمن المعجزات السينمائية قد ولى، حسنا دينيه فيلينوف له رأي آخر.
قبل الجزء الأول من هذه السلسلة الكل كان مترددا من إقدامه على إعادة أحياء رواية “كثيب” Dune سينمائيا بعدما فشل في هذا المخرج الكبير ديفيد لينش في ثمانينات القرن الماضي. الجماهير وشركة وورنر، وحتى محبي فيلينوف أنفسهم.

أتى دينيه من بعيد ممتطيا كاميرته ليصدمنا ويقدم لنا ملحمة سينمائية لا تنسى وما زالت حتى الآن، بعض صبغاتها الفنية الخلابة بين أظافر لحم الأصابع عالقة نتيجة لتشبثنا بمركبة فيلينوف السردية في خضم أحداث الجزء الأول، فأصبحنا بين الحين والآخر نأخذ نظرة سريعة إليها لنشعر ببعض العبق الفني الممزوج بحنين ملييء بالشوق لتحفة قل نظيرها في عصرنا الحالي.
وها هو يعود بعد عامين على ملحمته الأولى، ليقدم لنا ملحمة أخرى أقل ما يقال عنها أنها تمثل قمة المتعة السينمائية في سينما الخيال العلمي.

هذه الملحمة تبدأ من حيث انتهى جزءها الأول وصراعاته التي أودت بحياة عائلة الاتريديس على إيدي الهاركونين تجسيدا لأقبح صور الجشع السياسي الإنساني، مؤديه بذلك الى اذلال عائلة الاتريديس التي وصلت الى قبة الحكم الاقتصادي في الإمبراطورية عند المنتصف، وفي النهاية تاه أفرادها في صحراء اراكيس بين جثث مقطعة تلتهمها الرمال، وملكة مع إبنها سليل اتريديس وأميرها الموعود مشردين في غياهب الصحراء الرملية الملتهمة لأي شيء يتحرك.

عندها حصل اللقاء بين أقوام “الفيرمن” البدائية ومهديها المُنتظر، اقوام الفيرمن التي سلب حقها في حكم مملكتها الغنية بالتوابل “الذهب الازرق”، فباتت تمني الحال بتحقق ما وصل إليها من معتقدات وروايات، عن وصول لسان الغيب أو موعودها المنقذ ليخلصها من حلكات عصرها المزري، وعند نهاية أحداث الجزء الأول، حدث اللقاء المنتظر. وها هو الأمير الموعود يحط الرحال مع والدته التي تأخذ دور كبيرة العرافات عند الفيرمن ليبدأ بذلك صراع محوري جديد في أحداث هذه السلسلة.
بعد أن كانت التوابل هي العنصر الأهم في أحداث الجزء الأول نجد أنفسنا مع عنصر أكثر أهمية في الجزء الثاني، هو عنصر قد يتم إسقاطه وبشكل مباشر على العديد من الثقافات والمعتقدات التي كانت وما زالت تحيط بالعديد من الديانات السماوية وغير السماوية؛ المُخلص، أو البطل الموعود الذي سيأتي في مرحلة ما متأخرة من هذا الزمان وينتصر للحق ويدحض الظلم في كل صوره.


يبدأ هذا الجزء عند وصول بول اتريديس مع والدته جيسيكا الى مقر الفيرمن، فتنطلق من هنا الصراعات التي يدور حولها الفيلم، بين والدة للأمير الموعود تأخذ دورها كامرأة مبجلة وكبيرة العرافات عند الفيرمن ومؤمنة بشكل كامل بما يتم ترديده عنه، وأبن هو على العكس من هذا، مُخلص غير مؤمن بذاته، متردد وخائف على التسبب في خسارات بشرية عظمى لقوم ضموه والتفوا حوله على أمل أن يكون هو بطلهم المُنتظر، البطل الذي سوف يقودهم نحو مجدهم الغائب منذ قرون ويستعيد حقهم المسلوب بين الممالك.
بعدما كانت السمة المحورية الأبرز في الجزء الأول؛ التوابل وكيفية تعريف أهميتها والصراع الذي يدور حولها بين الممالك، ننتقل في الجزء الثاني الى محور أكثر أهمية وأكثر تأثيرا في مسيرة رواية هذه القصة الخلابة والمُثيرة؛ المهدي المُنتظر أو المسيح أو لسان الغيب كما يطلق عليه في هذا العالم.

الجزء الثاني يبدأ من حيث انتهى الجزء الأول، فيجعل تناول الفيلم لبعض المفاهيم السياسية والدينية أكثر عمقا وتأثيرا في خط سير الأحداث، ففكرة وجود المهدي الموعود الذي سيأتي ذات يوم لينقذ اراكيس وينتصر لشعبها البدائي على الممالك الأخرى، هي فكرة قابلة للتشكيك والاستهزاء وربما الدحض من قبل شعب اراكيس نفسه، الذي نجد بين أبناءه شكلا من أشكال الانقسام في الآراء والمعتقدات؛ فمنهم من يأخذ هذا الأمر هزءا وتسخيفا، ومنهم من يأخذه كمتعقد ديني صلب غير قابل للتشكيك والتقليل، أي أن حدثا يصيب أو يحصل لبطلهم هو مجرد نبؤة أخرى تم تأكيدها، أو حدث أخر سيتم الاستدلال به على مدى صحة هذا المعتقد.
في المقابل نجد النساء المبجلات ومنذ الجزء الأول، يخشين قدومه خوفا على مصالح الإمبراطور ومصالحهن، فيحاولن تحريك العناصر السياسية والعسكرية الأهم في هذه الإمبراطورية من أجل إبادته والقضاء عليه خوفا من التفاف “الفيرمن” حوله، ومن ثم الثورة على كل الثوابت الراسخة منذ عقود في هذه الامبراطورية التي وصلت نقطتها السياسية والاجتماعية الأكثر زعزعة منذ بداية الحكم في شكله الحالي.
من هذه النقاط والتقلبات الدرامية تنطلق رحلة بول اتريديس التطورية في خضم الأحداث، رحلة يمر من خلالها بمجموعة من المعوقات والاختبارات التي تظهر أمامه واحدا تلو الآخر في رحلة صعوده ومحاولته لتقبل الفكرة المرسومة عنه.

تطور هذه الشخصية قد يكون أحد أهم التطورات القصصية في عالم السينما، وهو تطور يذكرنا ربما، بتطور شخصية مايكل كورليوني في فيلم “العراب” مع اختلاف الصراعات التي أحكمت هذه التطورات في الحالتين، فشخصية اتريديس تمر بصراعات أكبر وأكثر تنوعا؛ صراعات دينية وسياسية واقتصادية وبالتأكيد عائلية، صراعات تبدأ عند محاولة تقبله لفكرة كونه أميرا موعودا ولا تستكمل عند محاولته الثأر لعائلته وما أصابها في نهاية أحداث الجزء الأول.

هذا تطور خفيف وسلس وملموس تأثيره وسط سردية الأحداث، فهو ينطلق من نقطة مليئة بالهدوء والشك والتردد ويصل في الأخير الى أعلى درجات التقبل والإيمان بالذات والبناء على ذلك، تطور مخيف خاصة عند مشاهدته مع أداء شالاميه التمثيلي القوي والمُحرك للمشاعر.
هذا التطور يمتزج مع تطور أخر لشخصية محورية أخرى في هذا العالم؛ هي “تشاني” التي قامت بدورها زيندايا بشكل قوي ومفاجئ، فهي تلعب دورا مهما في تقبل بول الحقيقة التي رسمت عنه وتحاول مساعدته في صقلها. هي شخصية تبدو ظاهرا معارضة لكل ما يمر به البطل خوفا عليه، ولكنها في الواقع داعمة ودافعة لتقدمه وقد تكون هي الأكثر ايمانا به. وعلاقتهما ومدى التوافق التمثيلي الذي كان فيما بينهما رائع جدا خاصة مع الابتعاد عن الابتذال الرومانسي والميلودرامي.

قد يكون أهم ما يميز هذه السلسلة ويعلي من شأنها، هي طريقة تناولها للدين كمحور أساسي ومهم في تقدم وتطور الأحداث والشخصيات، عنصر تم تناوله بطريقة ذكية وسلسة ضمن الأحداث، تعبيرا عن مدى تأثير هذا العنصر في حياة الأمم وكيف له يمكن أن يؤثر في خضم أي صراع، فقوة الإيمان هي أقوى ما قد تتسلح به الأمم الحالمة في سعيها لنيل المجد والانتصار لشعوبها المظلومة. والفلسفة العقائدية التي يطرحها فيلينوف في فيلمه تثير مجموعة من التساؤلات الفكرية لدى المشاهد حول الحق والباطل، الخير والشر، هل لها وجود أم هن مجرد أفكار في عقولنا، وما يمكن أن يمثلاه في حياة أي إنسان.
في هذا الفيلم نجد ظهورا مميزا وقويا لفرد جديد في عائلة الهاركونيين؛ هو فيد روثا، وقام بدوره اللامع مؤخرا اوستن باتلر، الذي يقدم في هذا الفيلم أهم وأفضل أداء تمثيلي مرعب لشخصية مضطربة نفسيا ومتعطشة للدماء، تطمح للمجد الشخصي ضاربه عرض الحائط بكل الأحكام العائلية والسياسية التي تحيط بها، نجدها في مشهد تمثيلي قتالي مخيف بصريا وإخراجيا عند منتصف الفيلم، وهو مشهد واحد كان كفيلا بإظهار معدن هذه الشخصية وما يكتنفها من صراعات نفسية.

شاهدنا أيضا مجموعة من الوافدين الجدد إلى مسرح أحداث هذه السلسلة كالإمبراطور الذي قام بتأدية دوره كريستوفر والكن، أو ابنته التي جسدتها فلورنس بيو، ورغم محدودية ظهورها على الشاشة لكنها لعبت أدوارا محورية عند تسلسلات النهاية، التسلسلات التي انتهى عندها هذا الجزء وجعلتني على أحر من الجمر انتظارا لجزء الثالث وأخير الذي لم يتم الإعلان عنه بعد.
هانز زيمر يقوم بنسج أحداث الفيلم موسيقيا على شكل نوتات تضرب هنا وهناك لتسرد لنا الأحداث والأماكن الجرداء التي تدور بها سمعيا، مقطوعات موسيقية مثيرة تساهم بشكل فعلي في رفع مستوى تجربة المشاهدة والمتعة الفنية.
أما المصور فريزر فيقدم لنا واحدة من أكثر التجارب السينمائية البصرية أهمية في التاريخ ربما، تجربة خلابة وساحرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، من طريقة تجسيد الأماكن وتصويرها الى الصحراء وكيفية خلق مشاهد منها حابسة للأنفاس ودافعة للادرينالين في كل بقاع الجسد.
كل هذا تحت إشراف وتحريك فيلينوف، فيلينوف هنا يتفوق على نفسه مجددا ويصل الى أعلى مراحل الإبداع الإخراجي.

بداية رحلتي في دور السينما ومشاهدة الأفلام على الشاشة التي تستحق لم تكن بالبعيدة، شاهدت العديد من الأعمال الرائعة في السنوات الماضية وشعرت في بعض اللحظات أنني قد وصلت الى اللحظة التي يصح أن أدعوها بقمة المتعة السينمائية، لكن اليوم وبعد نهاية فيلم “كثيب” في جزئه الثاني يحق لي أن أقول أن هذه التجربة قد أوصلتني لمرحلة من النشوة السينمائية التي قد لا تتكرر في أي عمل أخر.

Visited 7 times, 1 visit(s) today