“قصة الحي الغربي”.. الموت رقصًا أو حبًا
فيبي صبري *
الضوء الأزرق والحطام الناجم عن هدم الحي القديم هما ما يستقبلانك ليعبرا بك مدخل الفيلم؛ هناك عالم مضمحل تتم إزالته تمهيدًا لإقامة عالم جديد، براق. ومن أسفل الأنقاض، من فتحة بالأرض، يخرج أول أفراد عصابة “جيتس”، كفأر يفر بغنيمته من علب الدهان بين الخرائب، ليستخدمها لاحقًا مع رفاقه في تلطيخ علم بورتوريكو المرسوم في الشارع.
حماقات صبية في أجساد بالغين، يلعبون بالعراك ويحتمون بعددهم. ترس يعاد تدويره في آلية فاشلة، تبدأ بعائلات منحطة مفككة، وتكتمل بحكومة عاجزة عن دمج مواطنيها الأقل حظًا في نظامٍ منتج، يمكنهم الانتماء إليه. العصابة القوقازية كما يسميها قائد الشرطة، ذات الأصول البولندية والأيرلندية، تريد فرض سلطتها على مانهاتن الفقيرة بالمفهوم البدائي لمناطق الصيد، لتبقى بيضاء خالصة، وترفض التغيير الذي بات أمرًا واقعًا بوفود آلاف المهاجرين من بورتوريكو، واستقرارهم بالمدينة العالمية
أولى نجاحات الفيلم، التي تتوالى تباعًا، تمثلت في تصميم الملابس الذي قام به “بول تيزويل”؛ فملابس عصابة ال “جيتس” ذات الألوان الزرقاء والرمادية تماهي بينهم وبين الحي القاتم، الذي شبوا به. أما ملابس عصابة ال “شاركس” ذات الألوان الدافئة فتعبر عن البلاد التي أتوا منها، ولازالوا يحملون لفحتها في لغتهم الأسبانية ودمائهم الحارة. هم أنضج وأقرب للرجولة من البيض، يعملون ويمارسون الرياضة، ولا يكتفون بالتجول في الشوارع لإزعاج الناس. يلتمس الكاتب لهم عذرًا في استجابتهم للاستفزاز الواقع ضدهم من المهاجرين الأقدم، فالشرطة لا تحمي متاجرهم وتصل متأخرة دائمًا، لتقبض عليهم في النهاية مع المعتدين عليهم. موقف مألوف بعض الشيء؟
على الجانب الآخر من المشهد الكئيب البائس، نرى الشمس نفسها في فستان أنيتا الأصفر، وهو يدور حولها بحلقات حمراء نارية كشغفها، في مشهد الرقص النسائي الأروع. هي حبيبة بيرناردو رئيس جماعة ال “شاركس”، وشقيق ماريا التي سيقع توني في حبها
أنيتا هي الشخصية الأكثر جاذبية على الإطلاق، وقد جسدتها ببراعة تستحق الأوسكار “أريانا ديبوز”. يمكننا أن نرى في قوتها سلطة أمومية ناعمة توازن وتعارض السلطة الذكورية، مصدر المآسي في قصة الفيلم. فهي تتصرف كمسئولة عن ماريا بصفتها أنثى أكبر سنًا وأكثر خبرةً ـ ونرى رمز هذا التواطؤ الحميمي عندما تمنح ماريا حزامها الأحمر لتضعه على ثوبها الأبيض ـ تلطف من حدة بيرناردو الطبيعية وتقنعه بالاعتذار لأخته عن حماقته، وتجعله يعدل عن العودة لوطنه الأصلي، لقناعتها بالفرص اللامحدودة في أمريكا، تذكرهما طوال الوقت بضرورة التحدث بالإنجليزية وتعد لهما الطعام.
هي قوية، تملك فائضًا من الحب، وتعرف ما تريد. لديها خططها للمستقبل وقادرة على التأقلم مع الظروف المتاحة. شخصية قيادية وقادرة على اتخاذ قرارات عادلة ومنطقية، عكس ما يمكن قوله عن أغلب الرجال بالفيلم. حتى ملازم الشرطة شرانك لم يخف تعاطفه مع عصابة البيض وضيقه بالمهاجرين الملونين، الذين لا يراهم في المستقبل القريب سوى بوابين للعمارات السكنية الجديدة. وعندما يواجهه أحدهم معترضًا: لدي حقوق. فإنه يصفعه بتلقائية وبساطة!
الصراع بين الـ “جيتس” والـ “شاركس” عبثي وبلا مبرر قاهر؛ في بلد بحجم قارة لا يكتفي من المهاجرين، ولم يعان المجاعات في تاريخه، وتثار فيه القلاقل دائمًا على يد الأكثر جهلًا وتعثرًا، والقتلى يموتون رعونةً أو خطأً أو ثأرًا.
عندما يُقتل برناردو في شجار بين العصابتين، يصرح صديقه تشينو أنه أحمق وقد مات بلا سبب. “كان بطلًا.. مات وهو يقاتل لأجل الكرامة والكبرياء”.
هذا الدفاع من رفاقه بعد موته هو الإجابة الذكورية الأغبى والأكثر ذيوعًا عبر التاريخ، لتبرر اللجوء الوحشي إلى العنف لحل كل نزاع. كأن استخدام العقل والحوار هما وسيلتا الذليل، الممتهن. تجسدت تلك الشبهة بوضوح في نظرة ريف المحملة بالعار إلى توني، حين اعتذر الأخير لبرناردو محاولًا امتصاص غضبه لتجنب القتال.
حتى تشينو، المتعلم، الدمث، ذو المستقبل الواعد، يختار القتل عندما يغضب أو يغار ويتصادف وجود سلاح ناري في متناوله، بينما انحازت النساء للحياة على طول الخط. فنرى فالنتينا العجوز هي من تأوي توني الهارب بعد ارتكاب جريمته، وتشفق على أفراد العصابة وتبقيهم داخل متجرها، بعد أن تحولوا من أشاوس لأطفال مذعورين. أنيتا تتفهم خيار ماريا ولا تدينها لأنها أحبت قاتل أخيها، بل تساعدها رغم حزنها لتهرب معه. حتى جراتسي، فتاة ال “جيتس”، التي أبدت الاحتقار العنصري لأنيتا عند حضورها لرؤية توني، لم تحتمل وقوع أذى مادي عليها، وتصدت للدفاع عنها بكل قدرتها.
ربما لذلك كله لم تمت ماريا في النهاية كما يفترض بقصة مأخوذة عن “روميو وجولييت”، كما لم تستطع ارتكاب القتل رغم توفر الدافع القوي والوسيلة.
لا أعرف إن كان كاتب السيناريو توني كوشنر واعيًا لتلك الخيارات، أو إن وجدت في النص الأصلي للمسرحية الموسيقية التي أخذ عنها الفيلم. ربما تكون رؤية عصرية متعمدة للقصة الكلاسيكية التي بدت، دون شك، أكثر واقعية في نسخة “سبيلبيرج” عنها في فيلم الستينيات.
عبرت رقصات “جوستين بيك” عن شخصيات الأبطال ونوازعهم وأصولهم بدقةٍ وحماسٍ وشاعرية؛ ومن بينها كانت الأصعب والأكثر تميزًا تلك المعبرة عن الصراع، سواءٌ إن كانت بين العصابتين، أو بين توني وريف أثناء محاولة كلٍ منهما الحصول على المسدس. وجائزة الرقصة الأجمل والأمتع تذهب لاستعراض “أمريكا”، الجامع بين المذاق الإسباني والرقص الحديث، والمعتمد بشكل رئيس على الراقصات في أثوابهن النارية، المادة الخام للبهجة والحياة.
جاء اختيار الممثلين شديد الذكاء. لا يمكن تخيل آخر في موضع “مايك فيست” لدور ريف؛ بوجهه المكون من زوايا حادة وعينين مطموستين، كأنه تشكل طرقًا ولكمًا، ربيب شارع بامتياز. أما البطلان: “أنسل إلجورت” و”ريتشيل زيجلر”، فقد مثل وجهاهما آخر مراحل الطفولة، البراءة القابعة في الشوارع الخلفية، التي تنتظر المستقبل بفطرةٍ سليمة أو ساذجة.
احتفظ “سبيلبيرج” بما صنع المجد الأساسي للفيلم الأقدم: الموسيقى والأغنيات الأصلية. كلمات “ستيفن سوندهايم” وموسيقى “ليونارد برنستاين”، ومنحها إخراجًا ملحميًا مبهرًا. ستبقى مثلًا أغنية “ماريا” من أرق ما يعبر عن الدهشة الأولى للوقوع في الحب. “ماريا.. قلها عاليًا فتكون كالموسيقى.. قلها برقة فتكون كالصلاة”. وأغنية “هناك مكان لأجلنا” على قصرها، طبعت أثرًا عميقًا لا يُمحى من القلب، وأوجزت مغزى الفيلم.
أفلام شبيهة ب “قصة الحي الغربي” هي ما أسس تاريخ هوليوود؛ قصص بسيطة، رسالة تمس الوجدان البشري عمومًا، وعناية لدرجة الهوس بالتفاصيل، تؤدي في النهاية إلى متعة يصعب إنكارها، حتى لو لم نعترف أننا نبكي معها كالأطفال.
- ناقدة من مصر