فيلم “موسي”.. ملامح فلسفية لسينما جديدة
في تجربة طموحة وتستحق المشاهدة يقدم المخرج بيتر ميمي فيلمه الجديد “موسي”، الذي أثار جدلا نقديا وجماهيريا واسعا قبل عرضه وبعد عرضه. فالفيلم ينتمي لنوعية الخيال العلمي ويقوم ببطولته إنسان آلي، وهي مسألة جديدة علي السينما المصرية والعربية وتمثل تحديا كبيرا لصنّاعه.
والتحدي الحقيقي لا يكمن في هذا الفيلم وحده، لكن في المشروع الذي أعلن عنه ميمي ويتضمن سلسلة من الأفلام، علي غرار مارفل، تُسمي ” المستضعفون” ، وهو ما أكدته نهاية الفيلم المفتوحة وظهور أحمد حاتم بطل فيلم ” الهرم الرابع” الذي يعتبره البعض بمثابة التمهيد أو الجزء الأول لهذه السلسلة، وكذا ظهور أمير كراره ممسكا بجزء من الروبوت المتحطم وهو ينظر إلي المشاهدين نظرة ذات مغزى.
فكرة المستضعفين تنبئ عن أننا أمام مشروع سينمائي لن يكتفي بالتسلية، وإنما سيعمد إلي تقديم رؤية فلسفية في سياق فني يعتمد علي الخيال المبدع والإبهار البصري الذي يناسب كل الأعمار. واذا أردنا أن نقف علي ملامح هذا المشروع أو الاتجاه السينمائي الجديد، فينبغي البحث في فيلم موسي عن أهم السمات المميزة لهذا الاتجاه، وأول هذه السمات أنه يستند إلي تيمة الشخصية الضعيفة جسديا والقوية ذهنيا وتعاني القهر من الآخرين، فتلجأ إلي الذكاء والحيلة لتنفيذ انتقامها من الذين قهروها وسببوا لها الألم العضوي والنفسي. يتضح ذلك في شخصية يحيي صالح الخياط ( كريم محمود عبد العزيز) طالب الهندسة العبقري، الضعيف جسديا ونفسيا، الذي يتعرض للتنمر من أستاذه دكتور فارس ( إياد نصار) في الكلية ومن زملائه في الدراسة، ما يدفعه لاختراع روبوت صغير يعده بمثابة الصديق الذي يمكن أن يملأ فراغ حياته ويسليه في وحدته، ثم في مرحلة تالية، عندما يُقتل الأب أمام عينيه ويعجز عن الدفاع عنه، يحوّل الروبوت الصغير إلى وحش آلي مدمر ينتقم من القتلة ثم من كل الأشرار في هذا العالم..
والمستضعفون، بهذا المعني، ليسوا مجرد قلة ضعيفة، مقهورة، لا مكان لها في هذا العالم، لكنهم نوعية من البشر من أصحاب العقول المتميزة والأخلاق العالية، غير أنهم، وبسبب اختلافهم عن الآخرين، يشعرون بالاغتراب ويعانون من عنت وجور مجتمعاتهم الغارقة في الفساد والسطحية.
في عالم يتم فيه إقصاء القيم لحساب مصالح شخصية أنانية يمكن أن يعمل أستاذ جامعي مثل (فارس) علي القضاء علي تلميذه النابغة (يحيي) دون أن يشعر بالذنب، لأنه لا يري سوي نفسه وعلمه القاصر الذي تجاوزه هذا الشاب بالرغم من شخصيته المضطربة، التي تبدو هزيلة وضعيفة في نظر الآخرين.
وخلافا للأقوياء الذين يهيمنون علي الحياة بقوتهم الغاشمة دون وازع أخلاقي، يحتفظ المستضعفون بأخلاقيتهم حتي بعد أن يحصلوا علي القوة بذكائهم الفائق، فيحيي يقرر في لحظة إنسانية حاسمة أن يدمر الروبوت، مصدر قوته، ويسلم نفسه لأستاذه الأكاديمي المستغل في سبيل إنقاذ مريم (سارة الشامي) زميلته في الدراسة. ولأن المستضعفين ليسوا ضعفاء بالفعل، لكنهم ضعفاء بفعل النظرة السارترية ( نسبة إلي سارتر) التي يصوبها الآخرون تجاه الأنا في لحظات ضعفها الإنساني العابر، وينجحون بكل مكر في تجميدها عند هذه اللحظة، بحيث تحيا شاعرة بالإثم دونما ذنب حقيقي اقترفته.
لأن المستضعفين كذلك، فإنهم يتفوقون دائما في معركتهم الذهنية ويحسمون صراعهم مع الأقوياء المزيفين لصالحهم، بل لصالح الضعفاء الأخيار الذين يملكون الحق وتنقصهم القوة. يتضح ذلك من الحوار ذي الدلالة الذي دار بين الدكتور فارس ويحيى عندما كان يعنفه لأنه دمر الروبوت، فيشير يحيي إلي رأسه قائلا ” انا اللي صنعت موسي” ما يعني أن موسي لم يزل فكرة في عقله وإن اختفي من الواقع.
المستضعفون إذن، كيانات إنسانية لطيفة، تفتقر إلي القوة المادية (البدنية) لكنها تستمد قوتها الحقيقية من الفكر (العقل)، إنها تجسيد جديد للكوجيتو الديكارتي الكلاسيكي ” أنا أفكر إذن أنا موجود”. والفكر عند المستضعفين، ليس نشاطا مثاليا يخص الفرد وحده في لحظات تأملية خالصة، لكنه فكر مسئول يحمل قضية ويدعم رسالة. أما عن القضية فهي العمل علي تحويل القهر الذاتي إلي شأن عام، فعندما اخترع يحيي الروبوت إنما كان يهدف لتحقيق عدالة فردية من خلال الثأر الشخصي، لكنه استطاع بعد ذلك أن يجعل من موسي أداة لتحقيق العدالة بمعناها الشامل الذي لا يخصه وحده. وأما عن الرسالة فتتجلي في شعوره بأنه مسئول عن الآخرين وأنهم في حاجة إلي من يأخذ بيدهم للعبور من مرحلة اليأس إلي مرحلة الأمل، فالمستضعفون يقدمون خيارا ثالثا للمعذبين في الأرض خلافا للاستسلام أو الانتحار.
وبالرغم من أن بيتر ميمي لم يفصح عن السبب الحقيقي لتسمية الروبوت باسم موسي، إلا أن استخدامه للعديد من الأسماء ذات الرمزية الدينية، مثل موسي ويحيي وصالح ويوسف ومريم، إنما يؤكد علي البعد الرسالي المقدس لمهمة المستضعفين، ذوي الطبيعة الخاصة، الذين يشتركون مع الضعفاء في جانب ومع الأقوياء في جانب آخر. وربما لهذا الطابع الروحي لا يموت المستضعفون كما ورد علي لسان يوسف حجاج (أحمد حاتم) ، في نهاية الفيلم، باعتباره واحدا من المستضعفين الذين ينتمي إليهم يحيي. فالرسالة هي التي ستبقي، وفكرة المستضعفين كذلك، حتي لو تحطم موسي أو مات يحيي.
الفيلم ميلاد جديد لكريم محمود عبد العزيز الذي أجاد في دور يحيي وكان موفقا في تجسيد الصراع النفسي الداخلي بين رغبته في العيش حياة آمنة ومسالمة وبين القهر الذي كان يتعرض له يوميا من الآخرين.
إياد نصار كان أستاذا في الفيلم وفي الأداء، لكنه كان، كما في الفيلم، أستاذا تقليديا يعتمد علي تاريخه ويركن إلي أساليبه التقليدية في حل معادلات الدور.
نجح بيتر ميمي في تقديم الروبوت موسي بشكل مقنع ومقبول خاصة أنها التجربة الأولي في السينما المصرية والعربية، كما نجح في تصوير مشاهد الحركة والمطاردات بما يتناسب مع الطبيعة الخيالية الخاصة للفيلم. ويحسب له أنه لم يبالغ في استخدام مشاهد القتل والدمار التي ظهر فيها موسي، بل إن السيناريو الذي كتبه بنفسه قضي علي الروبوت قبل لحظة الذروة في الأحداث، لأنه يقدم فكرة قبل أن يقدم حدثا.
كان يمكن للأحداث أن تمضي في مسار آخر لو استسلم السيناريو لفكرة أن يحيي علّم صديقته ريكا (أسماء أبو اليزيد) كيف تحل محله وتدير موسي، لكن من الأرجح أنه ادخرها لجزء آخر قادم. غير أن ذلك لا يمنعنا من الإشادة بعبقرية المشهد الذي رقص فيه الروبوت علي أنغام الموسيقي حين تحكمت في تشغيله فتاة.
جاءت موسيقي خالد الكمار معبرة عن الجو النفسي للفيلم، خاصة في تجسيد الصراعات الداخلية لشخصية يحيي، لكن يحسب لها أنها لم تتوقف عند هذا البعد، وإنما جاءت معبرة كذلك عن الأبعاد الفلسفية للفيلم خاصة في مشهد تحول الروبوت الآلي، المصنوع من أجزاء معدنية مفككة، إلي كيان متحرك له شكل وسمات خاصة مميزه له، ما يعني أن في الموسيقي والغناء يكمن سر الوجود.
خلافا لما يروج له صناع الفيلم لا نري في الروبوت موسي تصميما مصريا خالصا، فهو يشبه كثيرا العديد من الشخصيات الآلية التي شاهدناها في الأفلام الأجنبية، ولعل المثال الأقدم والأبرز هو شخصية مازينجر التي تربي عليها جيل التسعينيات، وهي مسألة تصب في صالح الفيلم لا ضده، لأن اقتراب موسي من شخصيات خارقة معروفة لدى الجماهير العربية، صغارا وكبارا، يضمن له شعبية كبيرة، ويعمل على إعادة الأسرة بكافة أفرادها إلي دور العرض.