فيلم “لامؤاخذة”.. الفكرة الذهبية والمعانى المضطربة!

بمعيار الأهمية، تستطيع أن تتحدث عن فيلم هام كتبه وأخرجه عمرو سلامة إسمه “لامؤاخذه” يتناول بجرأة المسكوت عنه فى علاقة المسلم بالمسيحى فى مجتمع يدفن رأسه فى رمال الشعارات والإحتفالات، ولكن بمعيار الجودة والإمتياز الفنى، فإن فيلم “لامؤاخذة” أبعد كثيرا عن تحقيق ذلك، رغم الإجتهاد والنوايا الطيبة، ورغم تلك الفكرة الذهبية اللامعة والمختلفة.

مشكلة فيلم “لامؤاخذة” بوضوح فى المعالجة الدرامية للفكرة وليس فى أى شئ آخر، الثغرات الواضحة فى السيناريو سببها بالأساس أن الفكرة كانت أكثر طموحا بكثير من الكتابة، مع أن عمرو أثبت فى فيلميه السابقين اللذين كتبهما وأخرجهما، وهما “زى النهاردة” و “أسماء”، أنه يستطيع أن يمسك بموضوعه وأن يطوّره بذكاء فلا يفلت منه، ولكنه هنا بدأ بقوة ثم اضطربت منه الخيوط، وانمحت الفواصل، فلم نعد نعرف بالضبط هل الفيلم عن إدانة التمييز عموما، والتمييز الدينى بشكل خاص، أم أنه أصلا عن انهيار التعليم فى مصر، وهما موضوعان بينهما علاقة بالطبع، ولكن المشكلة أن ما شاهدناه بالفعل، وليس بالنوايا، لا يكفى لكى يكون هذا المعنى متماسكا.

مبدئيا التحليل سليم تماما بل ورائع أيضا، أساس الفكرة هو تتبع مولد الإحساس بالعزلة وعدم الإنتماء فى عقل طفل مسيحى، كيف يستشعر هذا التمييز عندما ينتقل من مصر التى يعرفها الى مصر الأخرى التى لا يعرفها؟ لا بأس أيضا فى أن يكون عصب هذا التمييز هو تشوه علاقة المسلم مع الآخر المسيحى كلما زادت مساحة الجهل والتعصب والفقر والمد الواضح للتدين الطقسى والشكلى، وهو أمر صحيح بالقطع، ولكن ما قدمه الفيلم أبعد ما يكون عن فكرة “التمييز” بمعناه السياسى أو الدينى أو حتى القانونى، ما رأيناه هو مقالب عيال فى مدرسة حكومية ليس لها علاقة بأى شئ، بل إن هذا  المكان كما رأيناه ليس مدرسة أصلا، وليس هناك موقف لأى أحد من أى شئ، وإنما هى مجرد صورة عبثية لانهيار التعليم، تماما مثلما شاهدنا فى أفلام كوميدية سابقة، أشهرها مثلا فيلم “الناظر” للمخرج شريف عرفة.

المعنى هنا أن الفكرة الكبيرة والخطيرة والعظيمة والجسورة وهى تأصيل التمييز فى مجتمع انهار فيه التعليم، لم تجد معادلها الدرامى الموضوعى الذى يلزم عنها، ولذلك قلت فى بداية المقال إن الفكرة أفلتت واختلطت بأفكار أخرى، أو بمعنى أدق، فإن جسد الدراما كان أضعف من تلك القضية الخطيرة، وكان من دلائل ذلك تشوش الأحداث والشخصيات وخصوصا فى النصف الثانى من الفيلم، كما سأثبت لك حالا بالتفصيل.

 التمييز والإغتراب

أوضح ما فى فيلمى الموهوب عمر سلامة السابقين فى مجال الكتابة والإخراج معا، هو أنه يسند البطولة الى شخصيات مختلفة جذريا عن محيطها الذى تعيش فيه، وبسبب ذلك فإنهم يتعذبون ويعانون من شعور متضخم بالإغتراب، بل إن فكرة التمييز والإغتراب هى أيضا محور فيلمه الأهم ” أسماء”، الذى لم يكن فيلما عن الإيدز فقط كما يصرّ البعض، لأن فكرته الأهم هى الأمراض الأكثر خطورة فى المجتمع من الإيدز، وهى الخوف والجهل، ولذلك تقول أسماء فى عبارة صريحة: “أنا لما أموت مش ح اموت من المرض اللى عندى .. أنا لما أموت ح اموت من الأمراض اللى عندكم إنتم”.

أسماء كانت تشعر بالإغتراب والتمييز بسبب خوفها من أن يعرف الآخر الجاهل طبيعة مرضها، وبطل فيلمنا الصغير هانى عبد الله بيتر (الطفل الموهوب أحمد داش)، ظل يشعر بالإغتراب والتمييز خوفا من إعلان  اختلافه عن ديانة زملائه المسلمين أصحاب الأغلبية الكاسحة فى المدرسة الحكومية التى انتقل إليها من مدرسته الخاصة عالية المصروفات، إثر وفاة والده مدير البنك (هانى عادل فى ظهور قصير).

ولكن بينما يتأسس اغتراب أسماء وشعورها بالتمييز على مهل وبانتقال سلس ومتمكن من الخاص الى العام، فإن ثغرات “لامؤاخذة” تبدأ مبكرا لتؤثر على البناء كله، ذلك أنه بعد هذا السرد الظريف باستخدام صوت الراوى (أحمد حلمى) عن أسرة مسيحية ثرية ونموذجية فى كل شئ، حتى تكاد تظن أنك أمام فيلم دعائى قصير عن مصر الحلوة التى نريدها، أو عن الحلم المصرى الذى يكاد يتوازى مع الحلم الأمريكى، بعد هذه الإفتتاحية الآسرة، فجأة يموت الأب وهو يأكل بطريقة هزلية لاتليق بالمأساة التى سنراها لابنه، وفجأة ستكون وصية الأم كريستين (كندة علوش) لابنها الذاهب  الى مدرسته الحكومية ألا يتحدث أبدا فى الدين، وألا يعلن عن هويته، دون أن نفهم أبدا سر هذه الوصية، فالأم تعمل عازفة تشيللو فى الأوبرا، وليست هناك أى إشارة أنها عانت فى عملها من التمييز الدينى مثلا، بل إن هذه المشاهد الإفتتاحية تكاد تعزل الأسرة عن مجتمعها المصرى، ولو شاهدت الديكور والمنزل مثلا يمكن أن تعتقد أن هذه الأسرة المصرية المسيحية تعيش فى أمريكا، لولا لقطات سريعة قصيرة تذكرنا بالخصوصية المصرية مثل غرق الشوارع بسبب الأمطار.

الأسرة تقريبا بدون جيران، وهناك شاب وحيد مسلم اسمه أمين فقير الحال يصادق هانى، عدم كفاية التفاصيل التى تبرز هاجس التمييز الذى سيولد داخل عقل هانى، وعدم تفسير وصية الأم لابنها باجتناب الحديث مع زملائه فى الدين، او حتى إعلان هويته، هما أولى الثغرات التى أضعفت البناء.

بعد قليل ستظهر الثغرة الثانية الأكبر، ذلك أن هانى يقرر (وقد اكتشف أنه فى وكر للجانحين والأحداث وليس فى مدرسة) أن يترك زملاءه ومدرسيه يعتقدون أنه مسلم مثل كل زملاء الفصل، فاسمه الثلاثى يتشابه مع أى اسم مسلم، ثم يأخد عمرو سلامة خطوة أبعد، عندما يحاول هانى المغترب أن يثبت هويته الجديدة بإخفاء تمثال السيد المسيح فى منزله عن أصدقائه، وبوضع صور لآيات قرآنية بدلا منه، بل إن هانى يشارك فى مسابقة للإنشاد الدينى ويفوز فيها.

كنده علوش في لقطة من الفيلم

هذا التحول لامع وهام، ولكنه عمل فى سياق اضطراب الدراما الى الضد تماما لسببين: الأول هو أن إحساس هانى بالإغتراب كان بالأساس بسبب تباين مستوى التعليم بين مدرسته الخاصة النموذجية، وبين مدرسته الحكومية حيث لا تعليم ولا أخلاق، وليس بسبب التمييز الدينى كما أراد الكاتب، ما رأيناه  من تسلط وقهر تجاه هانى كان يمكن أن يحدث حرفيا مع أى طفل ثرى يعتمد على أمه فى هذا الوكر للجانحين، بل إننا نشاهد بالفعل نماذج لهذا التسلط الذى لا علاقة له بالدين على الإطلاق مع تلاميذ مسلمين، صحيح أن هناك إشارات الى تلك الصبغة المتأسلمة التى  جعلت قصرا سابقا لأحد الباشوات فى العصر الملكى يحمل اسم عمر بن الخطاب فى عصر مبارك، والتى جعلت التلاميذ يصلون جماعة، والأساتذة يسألون عن الاسماء لتحديد الهوية، إلا أن اغتراب هانى فى المقام الأول بسبب تباين مستوى المدرسة التعليمى، وليس نتيجة اختلافه عن الفصل فى الدين.

المدرسة والمجتمع

لم تستطع هذه المدرسة أبدا أن تتحول فى الفيلم الى صورة للمجتمع، لأننا شاهدنا مدرسة نموذجية فى نفس المجتمع فى اول الفيلم، المشكلة إذن فى المدرسة وليست فى المجتمع عموما،  فإذا أردت أن تتكلم عن تمييز ما طوال النصف الأول، فهو نتيجة وصية أم لا نعرف أسبابها، ونتيجة فشل التعليم الحكومى، وبسبب أننا أمام “ابن ناس” ألقى به فى فوضى شاملة، ناهيك بالطبع عن أنه شاطر وذكى ومهذب، وكلها عناصر إضافية للإغتراب، مما يجعل التمييز الدينى فى خلفية الصورة، بينما أراده عمرو فى مقدمتها.

أما السبب الثانى الأخطر للإضطراب الدرامى فهو أن اندماج هانى فى مجتمعه الجديد، لم يكن بسبب ادعائه أنه مسلم كما أراد الفيلم أن يوحى بذلك، ولكن نتيجة لشطارته وتفوقه (صُنع طائرة بمشاركة زملائه، ونجاحه فى الإنشاد بسبب صوته الجميل حيث كان يعزف وينشد أيضا فى الكنيسة)، وبالتالى فإنك إذا أردت أن تترجم فكرة التمييز الدينى دراميا بطريقة صحيحة، فإن عليك أن تجعل هانى يعلن هويته المسيحية من أول يوم، ثم يتعثر رغم تفوقه بسبب هذا الإعلان، لا أن تفعل ما رأيناه باستعارة هوية إسلامية بديلة ثم تجعله ينجح، كتحصيل حاصل لكفاءة موجودة لديه بالفعل.

معنى كل ذلك أن إحساس هانى الذى رأيناه بالتمييز قادم معه أكثر مما هو واقع فعلا، وأن قضية فشل التعليم الحكومى هى المحور الدرامى، وليست قضية التمييز بكل أشكاله، وبسبب هذا المقدمات المشوشة سيزيد الإضطراب ليشمل بقية الفيلم، فالأم التى زرعت فى ابنها فكرة الإغتراب دون سبب نعرفه، ستذهب الى المدرسة بعد ضرب ابنها حتى بعد إعلان هوية بديلة مسلمة (هذا دليل جديد على أن مشكلة هانى لم تكن حتى منتصف الفيلم فى هويته الدينية)، هنا فقط سيعرف الجميع من خلال الصليب الذى تعلقه الأم أن هانى مسيحى، والأعجب أن هذه المعرفة ستصنع ثغرة جديدة أوسع وأضخم، ذلك أن هذه المعرفة ستتيح معاملة أفضل لهانى فى المدرسة، خوفا  فيما يبدو من هيئة الأم الثرية، ولكنها لن تحل مشكلة هانى فى اغترابه ووحدته، مما يثبت ما ذكرته آنفا، أن الدراما تسير فى اتجاه اغتراب بسبب فشل التعليم الحكومى، أكثر مما تخدم الفكرة المقصودة وهى التمييز عموما وفى مقدمته التمييز الدينى.

عمرو سلامة المخرج

كلما ابتعد عمرو سلامة عن فكرته، تورط أكثر فى تحولات غريبة تماما، فالطفل الذى رأيناه مستعدا لاستبدال هويته الدينية من أجل الإندماج، يتحول فجأة بعد إعلان هويته المسيحية الى شخصية شرسة تتطرف فى الإتجاه المضاد، لدرجة استفزاز زملائه بالإفطار علنا فى رمضان، والأم التى تشعر بمخاوف من إظهار هوية ابنها فى أول الفيلم، تنفى وهى تتقدم بطلب للهجرة (!!!) أنها تشعر بالتمييز الدينى فى بلدها، وأظن أنه لو أن أىّ أم ضرب ابنها من زملائه تقدمت بطلب للهجرة، لهاجرت البلد بأكملها الى الخارج من زمان، مسلمين ومسيحيين!

اختلطت الأوراق فى يد السيناريست الموهوب، تصرفات بلا دوافع،  وانقلابات لا تتسق مع طبائع الشخصيات، يصدق هذا أيضا على شخصية أمين الذى نراه فجأة مدرسا للحاسب الألى، ثم نراه ينكر علاقته القديمة مع صديقه، وحتى مدرّسة العلوم الجميلة التى تكتشف مواهب هانى وتدفعه للأمام، يدخلها الفيلم قسرا فى فكرة التمييز الدينى عندما يوهمنا بأنها مسيحية، ثم نكتشف أنها مسلمة، ولعل المؤلف أراد أن يقول إن هانى نفسه يمارس الفرز على أساس الهوية، مما يؤكد أن فكرة الخوف قادمة معه أكثر مما هى نتيجة تمييز فعلى.

لاشك فى قدرة الكاتب على العناية بالتفاصيل الصغيرة، هناك لمسات ساحرة فعلا فى إحساس هانى بالذنب لأنه أنكر المسيح كما فعل بطرس، وفى بكاء هانى وهو يدفن السلحفاه التى جمّدها والده الراحل وكأنه يدفنه هو شخصيا، وفى علاقة رقيقة ستنمو بين هانى وزميلته سارة فى النادى، بل إن هناك سخرية عذبة من مظاهر التأسلم فى المدرسة الحكومية، من الصلاة فى وكر إجرامى الى السجود عند إحراز الأهداف على طريقة منتخب الساجدين، ولكن كل ذلك لم ينقذ الفيلم من مشاكله المزعجة والواضحة، أصبحنا أمام أزمة طفل مختلف وشديد الحساسية أكثر من كوننا أمام أزمة مجتمع أفسده التمييز، وهى الفكرة المقصودة التى خذلتها الدراما خذلانا مبينا.

أفضل ما فى الفيلم أداء الطفل أحمد داش، موهبة واعدة جدا، لا يغيب تقريبا فى أى مشهد، ولكن زملاءه فى الفصل كانوا أقل منه كثيرا، بعضهم لم يتم تدريبه بشكل جيد، وأحدهم (الذى لعب دور مؤمن) لديه مشكلة فى آلة النطق، فلا يكاد يبين، أما كندة علوش وهانى عادل فقد كانا مجرد ضيفين على الفيلم تماما مثل هند صبرى وآسر ياسين اللذين ظهرا فى مشهد واحد، ربما كان الذين قاموا بأدوار مدرسي المدرسة أفضل حالا، وأقوى حضورا. تصوير إسلام عبد السميع كان أيضا من العناصر المميزة، لقد خلق تباينا حادا بين إضاءة عالية فى مشاهد منزل هانى، وإضاءة أقل فى مدرسته الحكومية الكئيبة، لابد من الإشارة أيضا الى ديكور هند حيدر وملابس دنيا عبد المعبود فى ترسيخ هذا التباين، موسيقى هانى عادل منحتنا الإحساس بأننا نشاهد فيلما أمريكيا، كان الفيلم فى حاجة الى نغمات شرقية مصرية بالذات فى مشاهد المدرسة الحكومية، السرد كان متدفقا وسلسا (مونتاج باهر رشيد)، بل إن هناك قطعات ذكية للغاية مثل الإنتقال من حلم هانى بأن طلاب مدرسته يرحبون به، الى طلاب المدرسة وهم يتعاركون فى الواقع، أىّ ترهل شعرنا به فى الجزء الثانى مسؤول عنه السيناريو لا المونتاج.

عودٌ على بدء: ليس كل فيلم هام هو بالضرورة فيلم عظيم، بينما يمكن أن تعتبر كل فيلم عظيم هو بالقطع فيلم هام، وفيلم “لا مؤاخذة” فيلم هام لأنه اقتحم منطقة شائكة للغاية ومسكوت عنها، ولأن فكرته خطيرة وملهمة، ولكنه مع الأسف ليس فيلما جيدا ولا عظيما، مع أنه كان يمكن أن يكون كذلك، لوكانت معالجته فقط فى حجم فكرته، وهو ما لم يتحقق على الإطلاق، مع كل التقدير والإحترام لموهبة عمرو سلامة، ولاجتهاده الواضح فى تقديم أفلام مختلفة يمكن الكتابة عنها، والجدل حولها.

Visited 179 times, 1 visit(s) today