فيلم “غريزة أم” من جنة الصداقة الى جحيم الإجرام
نهى غنام
يعرف الشعور بالذنب بأنه “حالة انفعالية خاصة تتضمن مشاعر مؤلمة، نابعة من ضمير الفرد، نتيجة ارتكابه فعلاً يأسف عليه أسفاً عميقاً”، ويتداخل هذا المفهوم مع مصطلحات سيكولوجية أخرى كالندم والحرج والخزي، مما جعل تعريفه بدقة أمراً صعباً على علماء النفس، ولعل المفارقة بين الشعور بالذنب والبراءة منه هو ما خدش “كريستال” الحياة التي تعيشها الصديقتان سيلين (آن هاثوي) وأليس (جيسيكا شاستين) في فيلم “غريزة أم” من انتاج ستوديو كانال، والمقتبس عن رواية “رواء الكراهية” للفرنسية باربرا أبيل الصادرة عام 2012.
تنطلق بنية الفيلم الدرامية من أجواء مفعمة بأناقة الستينات، وتمهد لها من خلال البيئة والديكور والملابس والشخصيات؛ علاقة قوية تجمع بين الصديقتين أليس وسيلين، تسكنان في الحي نفسه وتتبادلان مهماتهما اليومية مع أطفالهما ماكسويل وثيودور، فيما تنعمان بزوجين متفهمين بدخل عال يضمن لهما مستوى معيشي مميز، كما يظهر على بيوتهن وسياراتهن ولباسهن.
تظهر هذه الأجواء المثالية على تصرفاتهما رغم بعض التوتر الذي يشوب مشاعرهما تجاه ابنيهما فتبدو سيلين التي تركت مهنة التمريض بمحض إرادتها، الأم المتوترة والمبالغة في الاهتمام بابنها الوحيد لعدم قدرتها على الإنجاب مرة أخرى، فيما تظهر أليس بدور الحازمة تجاه ابنها وزوجها أيضا والمترددة بخصوص العودة لوظيفتها السابقة كصحفية، بسبب ماضي مثقل باليتم والاضطرابات النفسية.
يشكّل عنصر التشويق ركيزة مهمة في صياغة المفاصل الدرامية للقصة، ويطغى الغموض على سير أحداث الفيلم، ويبدأ المشهد الافتتاحي في الفيلم بمراقبة أليس خروج صديقتها من المنزل، ورصدها لحركتها من النافذة حيث يسيطر المكر على المشهد، لا سيما عندما تدخل الى منزلها وتغلق الستائر، لكن سرعان ما تنقلب هذه الدراما الى فرحة صاخبة عند اكتشاف سيلين مفاجأة حفلة عيد ميلادها، ويحافظ المخرج على وتيرة التشويق هذه بواسطة بعض المفارقات الدرامية حتى نهاية الفيلم، فبدا السرد متواتراً بين الوضوح مرة والغموض مرة أخرى، مما سرع من وتيرة الإيقاع وحبس أنفاس المشاهد في أكثر من مشهد.
تصاعدت الأحداث في إيقاع بطئ في البداية، لكنها ازدادت سرعة وتعقيداً بعد حدث الذروة المتمثل بوقوع ماكس من على شرفة المنزل وقد رأته أليس من حديقتها فركضت باتجاهه، تعالى صراخها دون أن تسمع سيلين المنشغلة بتنظيف البيت ذلك الصراخ، فيما لم تسعفها خطواتها المضطربة بالوصول في الوقت المناسب.
تنقلب موازين الحكاية والشخصيات بعد أن تجلس سيلين على أرض حديقتها وهي تحتضن جثة ماكس ويداها ملطختان بدمائه، على مرأى من أليس، التي بدأ الشعور بالذنب ينهشها منذ تلك اللحظة، وبدا تبادل النظرات بين الصديقتين مرعباً وفاصلاً في سير أحداث الفيلم، وخفتت الألوان وخفّت الحيوية وعمت الكآبة والشك، فيما ظهر الجفاء والبرود على ملامح الشخصيات، وقد نقلت الكاميرا كل ذلك بحرفية من خلال لقطات medium close up و extreme close up.
وإذا أردنا تتبع البنية الدرامية للفيلم حسب هرم فيرتاغ، فإن مجموعة من الأحداث المفصلية تدرجت في تصاعدها قبل الوصول الى الذروة، وكلها وظفت لصالح السرد المتتابع الذي قاده التشويق بالدرجة الأولى، وشكّله تنوع حركات الكاميرا وأحجام لقطاتها؛ ها هي الأنفاس تُحبس عند تتبع الكاميرا لأليس، وهي تبحث عن ثيو الذي تناول علبة من البسكويت واختفى في الحديقة، ليتبين فيما بعد أن الطفل يعاني من حساسية من الفستق ويمكن لقطعة بسكويت واحدة أن تقتله، لقد كشف هذا الحدث غريزة الأم القلقة لدى أليس.
وبُني على هذا الحدث مشهداً آخر هبط فيما بعد بمبنى الحكاية الى دائرة الشك وتبادل الاتهام بين الصديقتين، لما أوشك الطفل على الموت بسبب وضع سيلين للبسكويت أمامه ثم نقله الى المستشفى، وشكل ذلك رأس الخيط لتتبع سلسلة من الجرائم.
يفسر سيغموند فرويد الشعور بالذنب بأنه صراع بين القوى التركيبية الأساسية للشخصية؛ فينشأ الصراع بين الهو/ الرغبات وفقاً لمبدأ اللذة، وبين الأنا التي تتعامل مع الواقع وتتكيف معه حسب البيئة والظروف، وبين الانا الأعلى المتمثل في الاخلاقيات والقيم التي يؤمن بها الفرد، بناء على ذلك ينشأ الشعور بالذنب عن حالة خرق غير واعية للقيم، وحينما يدرك الفرد على مستوى الوعي بأن رغباته ودوافعه مناهضة للقيم العليا التي يعتنقها فإن إدراكه بالذنب يثور وينشط، وهذا ما اتضح في شخصية كل من الصديقتين عند فقدان ماكس ومواجهة اتهام كل منهما لنفسها بالمسؤولية عن الحادثة، فترى الأم انها خذلت طفلها عندما لم تستطع حمايته، فيما ترى الجارة والصديقة انه كان عليها الإسراع في تلقف الطفل وإنقاذ روح.
انعكس شعور الصديقتين بالذنب على حياة العائلتين وبدأت الاتهامات والشكوك تطفو على سطح العلاقة، رغم أن سيلين حاولت الابتعاد لكنها عادت لتظهر مدعية رغبتها بإصلاح العلاقة، لكن تقاطع سلسلة من الأحداث الغريبة التي أصابت الأشخاص والمكان المحيط بهما أوصل أليس الى مستوى الهذيان في ظل التقرب الشديد بين طفلها ثيو وسيلين.
تحاول أليس حماية طفلها لكنها تقع في صراع داخلي بين شعورها بالذنب ورغبتها في معرفة الحقيقة، فتجتاحها نوبات قلق تجاه الطفل وتجد صعوبة في تقبل براءة أية مبادرة تقوم سيلين بها تجاهه، ويظهر التوتر والغضب على ملامحها وتلبس ثوب المحقق في الأحداث التي أثارت ريبتها كوفاة الجدة جين رغم التزامها بتناول أدوية القلب، بالمقابل تعيش سيلين دور الضحية وتنهمر دموعها عند كل مواجهة مع أليس، فيما تتدهور علاقتها مع زوجها الذي ينزوي على نفسه ويستمر في تحميلها مسؤولية موت الابن.
تستمر الأحداث في هبوطها فيما تتشابك خيوط الحبكة الدرامية بقوة، لا سيما عندما تقتل سيلين زوجها بالكلوروفورم وتتخلص منه بهدوء بعد ان تقطع شريان يده وتوحي للتحقيق بأنه انتحر حزناً على ابنه، هنا تتخلى صديقتها أليس عن الشك وتستضيف سيلين في بيتها فيما تبقى عقلية المحقق في رأسها وتدفعها للبحث عن الحقيقة، لكن بعد فوات الأوان، فقد وقعت صديقتها في فخ الإجرام وأجبرها الشعور بالذنب على التخلص من كل ما يحسسها بذلك.
تكتشف أليس سر سيلين في مخزن البيت، حيث تجثم خزانة الأدوية المليئة بالكلوروفورم على الحائط، فيما تشهر سيلين سلاحها على ثيو وأبيه، تنيم الطفل وتقتل الرجل قبل أن تدركها أليس وتحصل بينهما معركة حقيقية تنتهي بالتخلص من أليس بتخديرها ثم فتح أنبوبة الغاز في المنزل فيبدو الأمر وكأن تسرب الغاز هو من قتل العائلة، وينتهي الأمر في المحكمة بقبولها لتبني ثيو الذي اتضح أنها لم تقتله واكتفت بتخديره.
ينتهي المشهد الختامي للفيلم ببصمة من المشهد الافتتاحي، تبدو سيلين سعيدة وواثقة من نفسها وهي تتمشى مع ثيو على البحر، وتحدثه عن اللعب والحب، يتفاعل الطفل معها متجاوزاً حالة الحزن والفقدان التي مر بها، وقد أصبحت سيلين أمه، ثم يتعالى صوت ضحكهما مع أمواج البحر وكأن كل ما مرا به حلماً وانتهى، وهذا واحداً من الأسباب قد يجعل المشاهد يتنكر لكثافة الأحداث وتتابعها منذ بداية الفيلم.