فيلم “سحب سيلس ماريا”.. نهم المعاناة وتعقد العلاقات
ثمة أفلام، لا تكتفى بكونها مجرد أفلام. الجمال فيها لا يتأتى من سينمايئتها، ولا من قدر جودتها، لغتها، أدواتها، مفرادتها، وكيانها الملموس. وإنما تُنهكك بحالتها دُفعة واحدة، تُنهيك وتُلهيك، لا تحول بينك وبين رؤية عثراتها، وإنما حتى فى ذلاتها تبدو ساحرة، مُربكة، مُهلِكة.
أفلام تهبُك قطعة من قلب الدنيا. تأخذ بيدك لمضيق متوارى لم تطأه قدميك من قبل. تُعرى لك حقيقة من حقائق الإنسانية، وتصيغ على يدك نوعا مغايرا من الصراعات النفسية.
أفلام تصنع منطقها، تملك هويتها، ومساحتها الظليلة التى تنتشلك إليها.
أفلام لا تدّعى عليك، ولا تغالى فى دعوتك. هى فقط تبدأ بالحكى، وتترك لك الخيار لتتبع ذيلها مشدوها، ومندوها من تلقاء نفسك.
“سحب سيلس ماريا” THE CLOUDS OF SILS MARIA للمخرج أوليفييه أاسايس واحد من هذه الأفلام صنعه اسايس من لحمه ودمه، كتبه وأخرجه وأخلص فى عشق حدوته، فباتت صادقة بما فيه الكفاية لتتحدث عن نفسها.
الفيلم يصيغ معالجة غاية فى التعقيد، تتسم بنزعة متاهية، حول إمرأة قرر الزمن مواجهتها بقسوة. ممثلة تضع نفسها فى ورطة حقيقية، حينما تُقرر لعب دور مسرحي، لطالما راودها الخوف منه قديما. مسرحية “ثعبان مالوجا” التى تتناول علاقة شائكة بين إمرأتين، إحداهما شابة، عفية، نابذة وحاسمة. والأخرى مُسِنة، عاشقة، وشاعرية. الثانية تقع فى غرام الأولى، بينما تقودها عاطفتها إلى الهلاك. المفارقة التى يضعنا الفيلم أمامها، أن ماريا أندريس “جوليت بينوش” وهى الفتاة التى لعبت دور البنت الشابة سابقا، تقع تحت غواية إقناع مخرج ما يقرر إعادة المسرحية بعد 20 عاما لتجسد دور المرأة العجوز التى ستفنى. ومن هنا تتهاوى ماريا، ونبدأ رويدا رويدا فى التهاوى معها.
ذكاء السيناريو
السيناريو يسعى فيه الجميع إلى تأويل حكاية هيلينا وسسيجريد (المرأتان بطلتا المسرحية). على لسان كل المحيطين بماريا، نرى محاولة جاهدة لقراءة حكاية هذه العلاقة المُحيرة، حتى ماريا نفسها تملك تفسيراتها الخاصة حول ما جمع بين هاتين المرأتين. ولكن فى حقيقة الأمر، ينفرد السيناريو بمنطقته المغلقة الغامضة حول التحليل السديد لما دار بين هيلينا وسيجريد. بينما تعمد وضع كل هذه الإجتهادات المتباينة على لسان أبطال الفيلم ليتمادى فى إرباك المتفرج (وهو منهج اتبعه على دوام السرد). الكل يتفوه بوجهة نظره عن هيلينا، وعن سيجريد. ومع ذلك تظل كل منهما لغزا يأبى أن يفصح عن نفسه.
الحَدث بَيّن… هيلينا وقعت فى حب سجريد.
ولكن إلى حد نبذتها سيجريد، هل سيجريد قاسية بالقدر الذى تنعتها به هيلينا، وتُرى هيلينا بكل هذا الضعف الذى بدت عليه، ما المفهوم الذى قد يصف لنا معنى الضعف أو القوة فيما يخص الحكاية بأكملها. كل هذه الأسئلة كانت الأرضية الأساسية التى وقف عليها السيناريو طوال الفيلم، لم يسألها بقدر ما عدد إجاباتها على لسان شخصياته. وفى الوقت ذاته خلق لها محيطا مغايرا، تتشابك فيه مع بعضها البعض، وتتداخل فيه بقوة مع حكاية سيجريد وهيلينا، التى يسعون طوال الوقت لهضم معناها.
ماريا هى الأخرى تحمل ذات الشغف صوب مساعدتها فال “كريستين ستيوارت”. ماريا التى لعبت دور سيجريد منذ 20 عاما فى المسرحية القديمة، يأتى تورطها فى قبول دور هيلينا الآن بالكثير من المتاعب. مشاعر مُلتَبسة بالجملة، تطفو على السطح حينما تبدأ ماريا بالتدرب على دور هيلينا مع مساعدتها فال، كلمات النص على لسان كل منهما توخز تعقيدات عاطفية وإنسانية مسكوت عنها فى علاقتهما.
ماريا تكِن مشاعر واضحة لفال، ولكن السيناريو كالعادة لا يتطرق إليها ولو بكلمة واحدة، يرمى بظلالها فى تفاصيل طفيفة، بينما يتجاهلها فى الوقت ذاته وكأنها غير موجودة، ليضعنا فى منطقته المحببة من الأرجحة والشكوك. ولكن عند حافة القتال الخفى بين ماريا وفال فى اثبات وجودهما الإنسانى، نجد السيناريو يتوغل وبعنف. يجتهد ليُفصص الصراع الوجودى الذى يقود كل منهما للإنهيار فى النهاية. فال تُقدم قراءة معينة للمسرحية بأكملها، قراءة تبدو ظاهريا أنها تسعى فيها لتحفيز ماريا لقبول دور هيلينا، تبذل فال قصارى جهدها لتُقنع ماريا بأن هيلينا أقوى من سيجريد، أنها إمرأة تعبر عن ألمها ببساطة، ولا تشعر بالخزى من كونها وقعت ضحية لدهاء سيجريد، تلك الفتاة القاسية التى تستعمل شبابها لتغتر على هيلينا، تغويها ومن ثم تتركها فى العراء.
وعلى الجانب الآخر، تظل ماريا منحازة لسيجريد، ترى فيها رمزا للتحكم فى زمام الأمور، سيجريد هى التى تخلق الحدث، بينما تظل هيلينا مجرد رد فعل. فى الحقيقة فال تشدد على التشبث بقرائتها لكى تُثبت لماريا أنها الأصح، أنها قادرة على أن تُبدل وجهة نظرها وتجعلها أكثر إنفتاحا مع هيلينا، أى تصنع لها معروفا لابد وأن تعترف به. وفى الوقت ذاته، ماريا تظل قانعة دوما بنقيض وجهة نظر فال للسبب ذاته، لأنها ببساطة لا ترغب فى أن تُشعرها بأن ثمة معروفا حقيقيا تقدمه لها فى توضيح أى شىء.
وحول هذه الحقيقة تتبدل وجهات نظر فال وماريا لمجرد بلوغ غايتهما البعيدة. ويمكننا ملاحظة كيف كانت كل منهما تنتقل للدفاع عن هيلينا إذا بدأت الأخرى فى التعاطف مع سيجريد، والعكس تماما. فالطاولة ممدودة بينما تظل مراوغتهما ملتفة حولها.
ماريا
ماريا شخصية تمنحنا فى رحابة محاولة لفهمها. معطياتها ثرية، على الرغم من تضاربها فى بعض الأحيان، وبغض النظر عن المشاعر الوفيرة- لدرجة التشويش- التى قصد السيناريو أن يرسخها عنها. هى إمرأة مذعورة تخشى مواجهة الكِبَر، الوحدة، والنبذ. تنحاز لسجريد صحيح، ولكنها تكرهها فى الآن ذاته. فهى الفتاة التى تسببت فى موت هيلينا المسكينة، دفعتها لأن تغادر العالم فى بؤس. ماريا قبل 20 عاما أحبت نفسها وهى تلعب دور سيجريد، تغويها جاذبية سيجريد، قوتها، وشبابها، ولكنها منذ البداية تتعاطف مع حزن هيلينا. ماريا معجبة بسيجريد، ومُشفقة على هيلينا، بينما تمقت مشاعرها عموما حيال الشخصيتين.
رعب ماريا الحقيقى لم يبدأ حينما قررت أن تلعب دور هيلينا، ولكنه اتخذ إلى نفسها طريقا منذ أمد، حينما رأت الممثلة التى لعبت دور هيلينا أمامها وهى تُقتاد إلى مصير مظلم. دماغ ماريا سجل هذا المصير، وخشى على مدار العمر من ارتياد جحيمه. ولكن وفقا للجملة الشهيرة “احذر مما تخشى” تعثرت قدم ماريا فيما ركضت على مبعدة منه على مدار حياتها بأكمله.
فجأة تجد نفسها تلهث خلف إعجاب مساعدتها. تهاب وحدتها، وتواجه ظلها العجوز رغما عن أنفها. بدون سابق إنذار بدت وكأنها إنعكاسا صحيحا لصورة هيلينا المقيتة الكئيبة. وضع ماريا بلغ هذه الصورة منذ زمن، ولكنه انكشف جليا حينما قررت أن تلعب دور هيلينا، وكأن الدور أوقفها مجبرة أمام مرآة باغتتها بوحشة بحقيقة شكل حياتها.
فال
هذه شخصية شديدة الإنغلاق على نفسها. تعنت السيناريو فى تناولها بصمت. أوقات نشعر أنها تبادل ماريا شعورا أعنف بالإعجاب، تغتاظ من مجرد تجاهلها لوجودها، تحرص على أن تستوعبها رغما عن أنفها، وتدلل لها أنها الأجدر فى تمرير شعورا بالطمأنينة إلى داخل قلبها. وأحيان أخرى نشعر فيها بميلها نحو انتقادها، عدم احتمالها، والنفور الزائد عن الحد منها. ولعل هذه المشاعر المتناقضة مجرد وجهان لعملة واحدة. فيمكن أن يكون إحساس فال صوب ماريا، فيه من ذات التعقيد الذى يسيطر على ماريا إزاء هيلينا وسيجريد. لعل فال تنجذب بقوة إلى ماريا، وفى الوقت ذاته تحتقر شعورها. وتراه سببا أدعى ليفضى بها إلى سجن ماريا، بعيدا عن العالم الحقيقى الملائم لسنها وطبيعتها الأنثوية. وفى مشهد كانت تتدرب فيه مع ماريا على مشهد من المسرحية، جاءت جملة نطقتها على لسان سيجريد، بينما نشعر وقتها أنها أشارت فى بساطة إلى ما يعتمل فى دخيلتها ” أنا هنا، والعالم يتغير من حولى، ببساطة أريد أن أكون جزء منه”.
وقد عتّم السيناريو على العلاقة التى زعمت فال أنها بدأتها مع أحدهم. وهى المحاولة الوحيدة التى بدت أنها تهرب بها من حِمل ماريا الواقع عليها، بكل محاسنه ومساوئه. ولكن على ما يبدو، أنها أخفقت بقسوة. وجاء مشهد موفيا وموحيا ليدلل على رعبها من هذه التجربة الجديدة مقارنة بعالمها الضيق المتوارى. فنجدها وهى فى طريقها إلي موعدها الغرامى، توقف سيارتها بعد أن شعرت بالغثيان، وتبدأ فعليا فى التقيؤ. اختار أسايس فى هذا المشهد، أن يستخدم أغنية أشبه بأغانى الميتال السوداء، المُقبضة، والملخصة لكلام لم ولن يقال.
آخركلمتين
– ثمة مناطق ضعف بينة فى السيناريو، فبعض المشاهد نراها كُتبت فقط لكى تملأ فراغات من الوقت، وثمة شخصيات فُردت لها مساحات من السرد أكثر من اللازم مثل شخصية “هنريك فالد” ولكن كما قلت سابقا، حتى زلات الفيلم لم نملك إلا أن نستغرق فيها، ونجد فى طياتها ما يستوجب التنبه والمتابعة بشغف.
– الفيلم فكرة جوليت بينوش من الأساس، فهى من اقترح على أسايس كتابتها وتنفيذها.
– اختار أسايس أن يبدأ استخدام الموسيقى بكثافة فقط بداية من الجزء الثانى من السرد، وهذه التفصيلة جاءت ملائمة تماما لما حدث مع حياة ماريا، فهى فى البداية عاشت صراعاتها فى صمت، ولكن بعد قرارها بلعب دور هيلينا بدت أناتها مسموعة.