فيلم “زعماء نامسان”.. دراما المُلوك الجُدد
فيلم ” 남산의 부장들 ” الكوريّ الجنوبيّ الذي يعني “زعماء نامسان”، والذي شاع اسمه بالإنجليزيَّة The Man Standing Next من صناعة صانع متميز هو “وو مين هو”. وتدور أحداثه في سياق تاريخيّ تشويقيّ عام 1979 حول مقتل الرئيس الكوري “بارك تشونج هي” على يد رئيس جهاز مخابرات كوريا والتي كانت تقع في “نامسان”. وقد اعتمد الفيلم على رواية بالاسم نفسه.
ينحو وو مين هو في فيلمه إلى دراما شيكسبير وما قبله؛ حيث كانت الدراما تدور في عالم الملوك والحُكَّام وحسب. فقد أدار دراما فيلمه القويَّة حول الملوك والحُكَّام أيضًا؛ لكنْ الملوك الجُدد للعالم لا ملوك الأمس الذين يرثون الحكم والمُلك لأنَّه حقّ لهم، بل ملوك ينتزعون الحُكم من الجميع نهارًا جهارًا، ثمَّ يوجِّهون لك مدفعهم سائلين إنْ كان شكّ في نفسك يدور حول أحقِّيَّتهم للحُكم؟!
تمحور الحُكم في العالم الحديث -ومنذ اشتداد عود الاتحاد السوفيتيّ- حول طائفتَيْن: رجال الأعمال ودُماهم السياسيَّة في شقّ العالم الرأسماليّ، ببذلاتهم الأنيقة التي يحاولون الحفاظ على نظافتها وهم يتحكمون في الكون كلّه. ورجال الجيش والعسكر في غالب شقّ العالم الشيوعيّ أو الذي انتمى لهم أو الذي كان على حافة الخطر بين العالمَيْن؛ ببذلاتهم العسكريَّة التي تدلّ على المشقة والخطورة في مجابهة الخطر الإمبرياليّ وكأنَّهم دومًا على خطّ النار كادحين. ويُرينا الفيلم الصنفين لكنَّه يحرمنا من رؤية الشعب نفسه وكأنَّه غير موجود إلا لتحريك لعبة الكبار وحسب.
الفيلم قويّ وذو تأثير صُنع بتأنٍ وحكمة، هادئ في كلّ ملامحه رغم كونه فيلم إثارة. بنى المخرج فيه دراما قويَّة قادرة على حمل المعاني وتسريب التأثيرات التي ابتغاها منه، ولمْ ينتظر طويلاً ببنائه بل امتد بتطويره وصولاً للحظات ليلة استحوذت على ثلث الفيلم تقريبًا. الفيلم كل ما فيه ينطق بقوة التعبير وإحكام الصنعة من صُنَّاعه.
اختار المخرج تقديم مشهد تدبير الاغتيال من الثلث الأخير إلى أول الفيلم. ثمَّ وضع أمام أعيننا خلفيَّة الفيلم التاريخيَّة؛ حيث الانقلاب العسكريّ عام 1961 الذي جاء بكل العسكر الذين سنراهم إلى الحُكم، وأنشأ أول مخابرات كوريَّة. ثم تحوَّل إلى أوَّل يوم من الأيام الأربعين التي تمثِّل الحيِّز الزمنيّ لأحداث الفيلم؛ ليخبرنا بحدث تاريخيّ آخر هي فضيحة “كوريا جيت” -بعد الفضيحة الأشهر “ووترجيت” بعامين- حيث كانت المخابرات الكوريَّة ترشو أعضاء من الكونجرس الأمريكيّ لضمان الصمت عن كافة الانتهاكات السياسيَّة والحقوقيَّة التي تحدث في ظلّ حُكم الانقلاب العسكريّ في كوريا. وهكذا ضرب المخرج عصافير كثيرة في دقيقة واحدة فقط من دقائق الفيلم.
وفيها أيضًا نتعرف على أول شعلة للأحداث في شخص المدير السابق للمخابرات الكوريَّة “يونج جاك بارك” الذي لجأ إلى أمريكا مُدينًا الرئيس الكوريّ، واصفًا إيَّاه بخيانة الثورة -يقصد الانقلاب العسكريّ-، مُتهمه اتهامات خطيرة جدًّا. ونرى مذكرة كتابه الذي عنونه “خائن الثورة”. وفي بقيَّة أحداث الفيلم نتعرَّف على ما حدث في الأيام الأربعين التالية وصولاً إلى ليلة السادس والعشرين من أكتوبر عام 1979 التي قُتل فيها الرئيس، في إطار من التشويق والإثارة.
بناء الفيلم -مخرجه هو المؤلف- قويّ ممشوق، لا زوائد ولا حشو. كلّ معلومة أو حدث أو لقطة من اللقطات لها دلالة محددة ومقصودة. وبالقطع لجأ المخرج إلى بعض التلميحات والدلالات الفنيَّة ليعبِّر عن أمور لمْ يستطعْ أنْ يقولها صراحة، كما أخبرنا كتابةً في أول الفيلم بتغيير بعض الأحداث. هذا التغيير إمَّا لأنَّه يتعلق بأناس مازالوا مسيطرين حتى اللحظة في الدولة، وإمَّا لاستشعاره الحرج البالغ من ذكر أشياء بعينها صراحةً.
الفيلم اعتمد على دراما الشخصيات لا الأحداث في مركزيته؛ مُستغلا حدثًا تاريخيًّا مُعينًا ومحدودًا ليمحور شخصيات ويرسم ملامحها. لكنَّ شخصياته التي صنعها لا يريدها لذاتها إنَّما ليصنع لنا ما يشبه الخريطة لفكرته الرئيسيَّة في الفيلم وهي إدارة البلاد والحُكم بين الرؤية المدنيَّة والرؤية العسكريَّة. وقد مثَّلت كل شخصيَّة جزءًا وفرعًا من فروع الفكرة لتكتمل تلك الخريطة. كل شخصيات الفيلم من العساكر لكنْ على اتجاهات وتكوينات مختلفة، لكنْ لنتذكَّرْ دومًا أنَّ الفيلم يتناول العسكر خارج نطاق ميدانهم أيْ عندما يخرجون من مهنتهم ليمارسوا مهنة أخرى هي الإدارة؛ خاصة الإدارة في المستوى الأعلى كإدارة بلد وحُكم شعب.
أوَّل شخصيَّة في خريطته هي الشخصيَّة الأقرب للعسكريَّة في إدارة البلاد، وجسَّدها المخرج في شخص مدير أمن الرئيس “جواك” المتهور النَّزِق بسلوكه الأرعن المائل لكلّ حماقة، وقد أراد المخرج تجميع كل نقص جالب للسخريَّة فيه حتى صنع له مشية مُعوجَّة مثيرة للضحك. “جواك” ممثل رئيس للاتجاه الاستعلائيّ في الحُكم العسكريّ للأمم. يرى الرئيس هو الوطن أيْ أنَّه يُشخِّص الوطن كلَّه معاني ودلالات وتاريخًا ومستقبلاً في صورة شخص واحد فقط. وعلى ذلك يجب أنْ ينصبّ في نظره الاهتمام والرعاية والإخلاص لهذا الوطن!
هذه الشخصيَّة أو الاتجاه الأشدّ حماقةً لا يجد حلولاً في إدارة الدولة غير صُنع المجازر والإبادات الجماعيَّة للشعوب، وليس لديه أيّ مانع في أنْ يسحق المواطنين -وهم أصحاب المكتب الذي يقرر قتلهم من ورائه- لأجل وطنه الأساسيّ، بل إنَّه يتعجَّب كيف يثور هؤلاء -تحدث أعمال شغب في الفيلم- في وجه أسيادهم العساكر؟! ويقرر لنقتلْ منهم مليونًا أو مليونين أو ثلاثة .. لا مانع طالما الوطن بخير وسلام. وأوَّل ما يستشهد به في حديثه هي أمثال الفقر والاستبداد في الدول الأخرى التي تعاني؛ فالطيور على أشكالها تقع. وبالعموم يمثل اتجاهًا دوجمائيًّا من حيث الفكرة والفلسفة، راديكاليًّا من حيث التنفيذ.
ويقابلنا الرئيس “بارك” أو الوطن الذي يكون له الإخلاص. وهو شخصيَّة عسكريَّة لكنْ أثَّر فيها كلَّ التأثير وجودها في الحيِّز المدنيّ مدة الحكم الطويلة؛ حيث صارت شخصية أقل حزمًا وحسمًا، مُصابة بالبلبلة والتوتر الدائم. شخصية مصابة بداء “الترف” الذي غيَّر من نفسيتها تمامًا لنرى القائد الذي شارك بارزًا في انقلاب عسكريّ وهو خائف مُرتعش ويداه مرتعدتان من أثر النعمة بعد المشقَّة. نرى العسكر وقد أبدلوا سمتهم الجاد وبذلاتهم الخشنة بثياب المُلك وتنعُّم السلطان في شخص ذاك الرجل، فلا هو حافظ على احترامه العسكريّ، ولا عدَّه أحد أبدًا رئيسًا حقيقيًّا مدنيًّا.
يبيع “بارك” الشعب ومُقدَّراته لصالح مصلحته الشخصيَّة ويودع أموال الشعب المسروقة في بنوك “سويسرا”. ونرى شخصيتنا في صور ولقطات منذ الانقلاب ونعاين تغيُّرها الواضح من شخص لا يملك ما يخاف عليه إلى شخص مرتعب من أنْ يحاول أحد إخراجه من المُلك والسلطان، شخص أصبح لديه الكثير مما يخاف عليه. نرى تردده وارتعاشه في تسليم ثقته إلى أيّ شخص يتحمل مسئوليَّة القرار وهمّ الحسم بعيدًا عنه. وهذا ما يفعله المُلك في الإنسان عمومًا.
نرى “يونج جاك” رئيس المخابرات الهارب الذي يفكر في مجد خارج بلاده، بعدما فاته المجد في بلاده. هو من شركاء الانقلاب كذلك والذين نجوا من أنْ يكونوا مُصابِيْ حرب، فصاروا مُصابِيْ ترف في السلام الواهم. “يونج” ذو الشخصيَّة النفعيَّة الذي لا يهمه إلا جمع أكبر مقدار من الغنائم في منصبه، ولا يعنيه إيذاء أيّ شخص مهما كان ليحصد رضا سيده ليسمح له بالتغوُّل أكثر فأكثر. ثمَّ لمَّا تنقلب عليه الآية نراه بين مشهدين يُظهر حقيقة معدنه؛ ما بين مشهد يُعذب فيه شخصًا وكأنَّه المالك للأكوان، ومشهد يجثو فيه راكعًا على أربع يزحف وراء رئيسه الذي قرَّر أنْ يحرمه من بعض الغنائم. ليخرج علينا “يونج” بكلماته الناريَّة عن الحقّ الذي يضيع والشعب الذي ينتهب.
ونرى وجهًا آخر له في شخص أحد قواد الجيش “تشون دو هيوك”، وجهًا قد يبدو أخفض صوتًا لكنَّه أخطر شأنًا. إنَّه الشخص الذي لن يتحدث كثيرًا لكنَّه سيحصد كلَّ مغانم اللصوص ويُلقي نظرة على الكرسيّ الذي تحفُّه المخاطر ثم يمضي بعيدًا.
وأخيرًا نرى “كيم” شخصيتنا الرئيسة وهو رئيس المخابرات التالي للهارب، وهو أحد شركاء الانقلاب أيضًا. استفاد به صانع الفيلم ليُعبِّر عن نظرة عسكريَّة مغايرة تمامًا للرُّؤى والاتجاهات السابقة. لديه حسّ إنسانيّ، وذو تعقُّل وحكمة وتأنٍ، يدري عن الثقافة والأدب الشيء المناسب لدرجة أنَّ الهارب قال له إنّ القلم يليق به لا المسدس، يتحدث الإنجليزيَّة بامتياز يفوق أقرانه من العسكر. لا يميل إلى خيار المبادرة بالعنف، ولا يرى الوطن في صورة شخص. بل يأتي على لسانه أنَّ للرجال شخصيات وللوطن كرامة. مُتأنق في مظهره مُهتم بشَعره في غير مُغالاة.
إنَّه الشخص الأقرب والأشدّ ميلاً إلى الإدارة المدنيَّة للأمة أو الإدارة الحقيقيَّة من أطراف تلك الخريطة العسكريَّة؛ لأنَّه مَن يقوم على تعدُّديَّة الرؤية لا التوحُّديَّة فيها. لذلك وضعتْ فيه أمريكا ثقتها، واستقطبته شيئًا فشيئًا ليكون رجُلها من الداخل الكوريّ. وهو أيضًا البرجماتيّ من وجهة أخرى الذي قد يوهمك بأخلاقيَّته ثمَّ عندما يلحّ عليه خيار النفعيَّة لا يجد غضاضةً أبدًا إلى العودة إلى السلاح لقتل أحد رفقاء السلاح نفسه. مما يدفع الرئيس -الخائن لبلده- إلى احتقاره لخيانته صديقه بعد أنْ اطمئنّ إليه! .. وفي مشهد بارع نرى “كيم” يقع غارقًا في الدماء التي هو نفسه فجَّرها من صدور أصدقائه، بعدما صار قاتلاً مثلهم.
المخرج قد استغلَّ هذه الشخصيَّة أفضل الاستغلال لتقود الأحداث وتمثِّل الوجه الآخر للعسكر في إدارة الحُكم. لكنَّه بعد نهاية الفيلم أورد رواية لإحدى الشخصيات وهو يقول إنَّ “كيم” ما قتل الرئيس إلا لأسباب شخصيَّة لا للوطن كما يدِّعي، بل لأنَّه رأى نفسه مُهملاً منبوذًا كما خاف من أن يسبقه رفقاء الانقلاب بالقتل فبادرهم هو.
وفي الفيلم نرى أنَّ “كيم” هو رئيس المخابرات وأحد أهمّ شخصيات الدولة لذلك هو يعلم تمام العلم ما يجري فيها من جرائم ولمْ يتحرَّك إلا عندما استشعر الخوف من ناحية، واطمئن لأمريكا ودعمها له من ناحية أخرى. وإنْ كان هذا قصد المخرج فقد قام بعمل بارع؛ حيث استغلّ الشخصيَّة فنيًّا حتى النهاية، ثمَّ أطلق عليها رصاصته ليقتله مرتَيْن بعد شنقه في عالم الواقع.
وفي الفيلم الكثير من المعاني غير الشخصيات ولعلَّ أبرع ما قدَّمه هو عرضه للتحول النفسيّ للشخصيَّة العسكريَّة في ظلّ امتلاك زمام حكم الآخرين، ورؤيتهم للشعوب. ونفسيَّة الشخصيَّة العسكريَّة التي ترى نفسها من مبدأ القوة لا من مبدأ الإنسان، وكيف تُؤدي كلّ معطيات الواقع بتلك الشخصيَّة إلى التحوُّل إلى طور الإله من فرط إحساسها بالقوة. وعلى لسان رئيس المخابرات الهارب نسمع قول: الرئيس لا يدع له نائبًا؛ فلا توجد سوى شمس واحدة في السماء.
كما نرى الكثير من خفايا عالم الحُكم والسياسة و”صراع الأجنحة” حول الاستحواذ على النفوذ. وكذلك يرى المشاهد العربيّ أنَّ اللعبة التي تلعبها على أوطانه مراكز القوى في العالم لا تتغيَّر إذا ابتعد مئات الآلاف من الأميال؛ فلعبة القوي والضعيف هي لعبة الإنسان. ورغبة الرئيس “بارك” في الاستحواذ داخليًّا توازيها رغبة قوى عُظمى في الاستحواذ والنفوذ داخليًّا وخارجيًّا.
تمتع الفيلم بصورة سينمائيَّة ناصعة تجعل مُشاهده مُبتهجًا، وبموسيقى تشبه في جُمَلها اللحنيَّة الكثير مِمَّا نسمعه في الأفلام الكبرى ذات المعاني لكنَّ استخدام المخرج للموسيقى داخل بنية العمل مُستحق للإشادة بل التصفيق. فكثير من اللقطات تدهشك حين تكتشف أنَّ الموسيقى تسرَّبتْ إلى المشهد ولمْ تندفع إلى أذنك وحسِّك كتلةً واحدة.