فيلم “جودي”.. صورة مؤثرة للانحدار الإنساني

السينما فنٌ متنوع، فهي لا تقتصر على نهجٍ ثابت يُقدم للمشاهد نائيةٍ بنفسها عن كسر حوائط الروتين وإتباع أسسٍ مختلفة وغير تقليدية لرواية حكاويها بما يرضي الذوق العام للجمهور.

فهناك أفلامٌ رائعة تمثل السينما في أبهي صورها وتعتمد على سردٍ قصصي ذي زخمٍ تعبيري مدهش يساهم في فهم الشخصيات بكامل أبعادها وعاطفي يلامس القلب ويحيي فيه كافة المشاعر الإنسانية.

وهناك تلك التي تعتبر ببساطة “حاويات للأداء التمثيلي” تؤكد على أنه بالنسبة لجميع العناصر الهيكلية والتقنية والجمالية التي تلعب دورًا في فيلمٍ معين، تبقي الأهمية مُنصبة بالكامل علي البطل الرئيسي الذي يحمل علي عاتقه مسؤولية خروج الفيلم إلي النور بتجسيدٍ مثالي ووعيٍ تام لكافة جوانب الشخصية وسلوكياتها.

يعتبر فيلم”جودي” للمخرج روبرت غولد، بمثابة المركبة التي تحمل شحنة ثمينة تتمثل في أفضل أداء تمثيلي في هذا العام من جانب رينيه زيلويجر التي تقوم بدور نجمة الغناء الراحلة “جودي جارلاند” في أواخر مسيرتها المهنية.

الضعف، الانكسار، قلة الحيلة، كلها سماتٍ كان على “زيلويجر” تداركها باهتمام لتقديم الشخصية على النحو الذي يتشابه نسبياً مع المادة الأصلية التي كتبها التاريخ في إنتظار من يُقدر فحواها ويُعرفها للناس بأية وسيلة ممكنة.

زيلويجر” حاولت إتباع شيئاً من فلسفة “الميثود أكتينج” ولكن ليس إلى حد التقليد التام أو إرتداء عباءة الشخصية والتعايش معها بجل تفاصيلها، فكل ما قامت به كان مجرد تعديلٍ في أوتارها الصوتية وإجتهادٍ علي المستوي الحركي ومسايرة لطريقة “جارلاند” في التعبير عن مشاعرها.

فكانت النتيجة عبارة عن سيرة مباشرة نسبياً من واقع الحياة مليئة بذكرياتٍ عدة وأسرارٍ خفية وتقدم مع ذلك نظرة خاطفة تمامًا على فن التجسيد السينمائي كأداة فعالة لصنع عملٍ بأكمله.

يتناول الفيلم الأيام الأخيرة لجودي جارلاند، حينما شاركت ضمن فعاليات نادي”توك أوف ذا تاون” الليلي بلندن وزادت خلال تلك الفترة إضطراباً وقهراً لا حد له.

فمنذ الافتتاحية، أصبح الجميع على دراية بالأسباب التي دفعت “جودي” إلى حافة عدم الإتزان النفسي والمعنوي، فقد كانت مكسورة الخاطر، عاطلة عن العمل، عاجزة تماماً عن تأمين حياة كريمة تتناسب مع طموحاتها.

تلك كانت ظروفٍ عصيبة أجبرتها على ترك طفليها مع زوجها السابق بينما كانت تحاول بناء منزل أكثر استقرارًا الحياة، وفي ظل الديون المستحقة على الضرائب، توافق على مضض على مغادرة البلاد إلى إنجلترا حتى يتسني لها كسب المال الازم لنيل حصانة أولادها والفرار من أزماتها المتلاحقة.

بحلول الوقت الذي تخطو فيه “جودي” عتبة لندن، يحاصرها الإدمان الزائد على الحبوب والكحول، وتعاني من الأرق المزمن والمرهق بالشلل الذاتي والشعور بالخوف الذي دفعها إلي حافة الجنون والشعور بالإضطهاد والعجز التام عن إدراك النجاح.

وتلك النقاط تمثل حجر الأساس الذي بني عليه السيناريو في سرد تفاصيل ومقتطفاتٍ من وحي السيرة الذاتية لجودي، بجانب التطرق أيضاً إلي حياتها وهي في ريعان الشباب وكيف كانت تنصاع بالإجبار علي فعل ما لا تطيقه، والتوبيخ الزائد الذي كانت تتعرض له نظير إعطاء الفن أولويةٍ تامة علي حساب التنعم بحياةٍ شخصية

.

“إنها وظيفتك لجعل هؤلاء الناس يحلمون”- لويس ب مايور

الأسلوب الذي اتبعه مخرج الفيلم روبرت غولد Rupert Goold يذكرنا نسبياً بأسلوب المخرج بول توماس أندرسون، حينما يعتبر الشخصية جوهر العمل وجزءاً لا يتجزأ منه، حيث يكتبها بكامل تفاصيلها الدقيقة ويعطيها خط سير محدد بدايته ونهايته، لتُنسج من خلالها خيوط القصة كاملةً تعتمد في الأساس على معلوماتٍ واضحة تنساب على إثرها كافة القرارات عفويةٍ كانت أو مدروسة.

لقد حطط “توم إيدج”- كاتب النص السينمائي – لأحداثه مستنداً على أفعال “جودي” التي تسببت في وقوعها في الكثير من المتاعب وتتزامن ضمنياً مع صراعتها مع الإدمان والكحول اللذان أفقداها صوابها وعلى مرأي ومسمعٍ من الجمهور التي كانت تهدف لإرضائهم مقابل الدعم لها ولقدراتها الغنائية، وعلى ومضاتٍ من الماضي التي شكلت بدورها طبيعة العامل النفسي ل”جودي” وعانت منه لسنواتٍ وسنوات.

لذا، يجب القول بأن العمل ككل يوصم على انضمامه للقائمة المطولة لأبرز أفلام السير الذاتية التي أرخت مسيراتٍ مهنية لمشاهير التاريخ ونجحت في تحقيق التوازن بين سرد المعطيات الحقيقية من جهة وكسر حاجز الملل وإمتاع المشاهد من جهةٍ أخري.

الفيلم كان بمثابة عرضاً مبهراً للنجمة “رينيه زيلويجر” التي يعد إتقانها للشخصية وإحتفاظها بنفس الرتم علي مدار ساعتين من الزمن إضافة كبيرة لمسيرتها المهنية التي شهدت بعضاً من التراجع سؤاءاً كان علي صعيد الأعمال التي تشارك من خلالها او بإختيار الأدوار التي تناسبها وتناسب طموحاتها كنجمة ترغب في الحفاظ علي بريقها من الفقدان.


فالرغم من إمتلاكها لصوت غنائيٍ عذب، إلا أنها لا تبذل أي جهد لمضاهاة ملامح غارلاند المخملية الدافئة -وفقًا لتعليمات من المخرج نفسه ، والذي خمن بحق أنه سيكون من الأذكى توجيه مجهودات “زيلويجر” نحو عكس مشاعر الشخصية جارلاند بدلاً من تقليدها تقليداً أعمي مجوف ممن يثير إهتمام المتلقين.

الملفت للإنتباه هو مدي التشابه الجسدي بين زيلويجر وجودي جارلاند ووضوحه أكثر فأكثر حينما تشرع الكاميرا في أخذ عدداً لا بأس به من لقطات “الكلوز أب” التي تلتقط ملامح “جودي” التعبيرة وتؤكد تمام التأكيد وجود ملامح وصفات جسميّة مشتركة بينهما وكأن زيلويجر ترتدي الشخصية مثل القناع الذي يحافظ على الانزلاق وتشرع في ترك بعضاً من بصماتها الخاصة التي تساهم في مرور الشخصية علي شاشات السينما علي نحًوٍ بالغ الكمال ومرورها شخصياً إلي مسرح “دولبي” للمنافسة علي جائزة الممثلة في دور رئيسي هذا العام.

بالتزامه بفصولٍ عدة من التسلسل الزمني لأشهر جودي جارلاند الأخيرة، يوفر فيلم “جودي” صورة مقنعة للانحدار المأساوي لأحد رموز القرن العشرين بأمريكا معززاً بجودة في الأداء التمثيلي يوفر إنعاكسا لإيقاعات حتمية نتيجة الإدمان الشره للمخدرات والكحول الذي أنهي مسيرة صوتٍ عذب تاهت عن قدميه السبيل نحو أحلامٍ ترضي كافة الطموحات.


Visited 89 times, 1 visit(s) today