فيلم “بيبي جيرل” Babygirl فضيحة مهرجان فينيسيا السينمائي
أمير العمري- فينسيا
اعتدنا في الماضي على وجود فيلم تطلق عليه الصحافة عادة “فضيحة المهرجان”، خصوصا في حالة مهرجان كان السينمائي الذي عرف الكثير من هذه “الفضائح”.
في عام 1992 مثلا، كانت فضيحة مهرجان كان، فيلم “الغريزة الأساسية” بطولة شارون ستون وإخراج الهولندي بول فيرهوفن. وفي عام 1986 اعتبر فيلم “صدام” Crash- وهو في رأيي أفضل أفلام مخرجه ديفيد كروننبرج- الفيلم الفضيحة، وفي 2002تمثلت “فضيحة” مهرجان كان في فيلم “غير قابل للعكس” (لو صحت الترجمة) أو Irreversible للمخرج جاسبار نويه بطولة مونيكا بيلوتشي. وكلها أفلام إيروتيكية دون شك، وعنصر الإثارة الجنسية فيها واضح ويتصف بالغرابة في معظم الأحوال.
هذا العام اتجه مهرجان فينيسيا الذي عرف بقدر من التدقيق في اختيار أفلام مسابقته الرئيسية، اتجاها يخرج عن المألوف، عندما أدرج مديره الفني، ألبرتو باربيرا، فيلم “طفلتي الصغيرة” أو “بيبي جيرل” Babygirl (لا يمكن كتابتها بالعربية في كلمة واحدة مثل الإنجليزية!) ضمن أفلام المسابقة، وكان الفيلم مفاجئا بل وصادما في جوانب كثيرة، مما دفع بعض الذين شاهدته معهم معهم في العرض المخصص للنقاد والصحافة الدولية، إلى الدهشة وإطلاق آهات التعجب والرفض، كما هتف أحدهم غاضبا عند نهاية العرض “بورنو”!
من الخطأ اعتبار الفيلم، فيلماً من أفلام القصص المثيرة (ثريللر) فهو أقرب إلى الدراما النفسية من دون أن يتضمن تحليلا نفسيا، كما أنه لا يعتبر فيلما كوميديا رغم ما فيه من بعض المواقف التي يمكن أن تثير الضحك، لكنه ليس ضحك السخرية أو الشعور الابتهاج، بل الدهشة. ولكنه بالتأكيد من أفلام الإثارة الجنسية أو “الإيروتيكية”.
مخرجة الفيلم هي الهولندية هالينا ريجين، وهي تسير هنا على نهج مواطنها، فيرهوفن، في الكشف عن الأمور الخفية التي تتعلق بـ “الغريزة الأساسية”، متجاوزة فيرهوفن كثيرا بالطبع، فنحن لم نعد في 1992، وأصبحت الأفلام اكثر جرأة وقدرة على اقتحام المناطق التي كانت محظورة في الماضي.
تقوم نيكول كيدمان بدور شديد الجرأة، وربما لهذا فقط استحقت الحصول على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان فينيسيا الـ81، أما الدور نفسه فقابل للمناقشة والتقييم.
إنها تؤدي شخصية “رومي”، المديرة التنفيذية لشركة متخصصة في بيع أجهزة الروبوت في نيويورك، أي أنها تتمتع بوظيفة مرموقة، كما تعيش حياة مستقرة مع زوجها “جيكوب” (أنتونيو بانديراس)، وابنتيها الصغيرتين الجميلتين، في شقة فاخرة، وتمتلك أيضا منزلا صيفيا في الضواحي قرب البحر.
في أول مشهد نراها في الفراش، تمارس الجنس مع زوجها. ورغم ما يبدو من حميمية في العلاقة، إلا أننا سرعان ما نكتشف أنها قد تظاهرت فقط ببلوغ النشوة الجنسية (الأوجازم) لكنها نهضت سريعا بعد أن استغرق زوجها في النوم، واختلت بنفسها في غرفة أخرى، وأخذت تشاهد أحد أفلام البورنو الإباحية وتستمني عليها إلى أن بلغت النشوة الجنسية الحقيقية هذه المرة.
ما معنى هذا؟ المقصود هو أن “رومي” ليست سعيدة في علاقته الجنسية مع زوجها، رغم أنها تحبه وتشعر بالسعادة معه في جوانب أخرى كثيرة. وفي مشهد لاحق عندما تتأزم الأمور كثيرا، ستعترف له بأن لديها الكثير من الأفكار السوداء، بل وبأنها امرأة “غير طبيعية”.
لكن الفيلم يقول لنا رغم كل ما يصوره من علاقة جنسية غريبة ستنشأ بينها وبين شاب يصغرها كثيرا، أنها امرأة “طبيعية”، وأن من “الطبيعي” أن يكون لدى المرأة “الطبيعية” خيالات وهواجس وأحلام جنسية خاصة بها، وأنهاا تتصور طرقا معينة في ممارسة العلاقة ليسن هي بالضرورة الطرق المعتادة التي ينظر لها على أتها “طبيعية”، تريد من الرجل المداعبة بأقصى صورها جموحا، وخروجا عن المعتاد والمألوف.
“رومي” مسيطرة في عملها، تعرف كيف تديره. لكن هذه القشرة الخارجية تنهار ذات يوم عندما تشاهد وهي أمام مدخل المبنى الذي تقع فيه الشركة، كلبة على وشك أن تعض رجلا لكن شابا يافعا يظهر فجأة، ينجح في السيطرة على الكلبة وترويضها بكل بساطة. كيف أمكنه هذا؟
هذا الشاب سنعرف بعد ذلك أنه “صامويل” (يقوم بالدور الممثل الانجليزي الصاعد هاريس ديكنسون)، وهو متدرب في الشركة نفسها، وسرعان ما يختار أن تكون رومي التي تتولى تدريبه. ورغم رفضها وتكرار الرفض إلا أنها ترضخ في نهاية الأمر. ولابد أنه لاحظ عليها شيئا ما لا يلاحظه الآخرون.. ففي الحانة بعد العمل يلمحها من مكانه فيرسل إليها كأسا من الحليب، تشربه كله في استسلام تام وكأنها منومة تحت تأثيره. وهي إشارة جنسية واضحة. وفي طريقه للخروج يهمس لها “أنتِ طفلتي الصغيرة” my babygirl.
تتطور العلاقة بينهما، ويصبح صامويل هو المسيطر وهي الخاضعة بإرادتها.. هي الأدنى بل والأقرب إلى الماوزكية. وهو يهينها ويعاملها مثل الكلبة، تلعق أصابعه، وتتمسح في ربطة عنقه. يطلب منها أن تسير على أربع وتقترب وتلعق صحن الحليب الذي يمسكه، فتفعل. يناولها قطعة من الحلوى في فمها تمتصها في نشوة، يعبث بيده في أرجاء جسدها كما يشاء ويخترق ما يشاء، ويمنحها النشوة الجنسية العارمة التي تتوق لها.. يمارس معها كل أشكال المداعبة الجنسية، ولكننا لا نشهد مشهدا جنسيا مباشرا بينهما، رغم أن هناك مشهد يدور بينهما أصناء السباحة في الماء.. وعندما يطلب منها أن تخلع ملابسها كاملة أمامه، تستسلم في خضوع تام. لقد وجدت أخيرا من يجعلها تخرج المكبوت من داخلها.
تتكرر اللقاءات، في غرفة فندق متواضع يختاره حينا، وفي بيتها الواقع على الشاطيء حينا آخر، لكنه لا يكف حتى عن ملاحقتها في المكتب. يقول لها إنها تريد أن تشعر بأن هناك من يهيمن عليها.. من هو أقوى وأكثر تأثيرا. وهي تحاول كثيرا أن تفلت من تأثيره، ترفض وتعترض وتطالبه بالانصراف عنها، ولكن بمجرد أن يترك لها ورقة بموعد في فندق ما، تجد نفسها منساقة إلى لملاقاته في الموعد. إنها واقعة تحت تأثير الرغبة المستبدة من جهة، والخشية من تدمير حياتها من جهة أخرى، لكن صامويل الذي يتصرف بكل وقاحة واقتحام وعدوانية أيضا، لا يتردد حتى عن تهديدها بأن مكالمة تليفونية واحدة منه كفيلة بالقضاء على وضعها ومستقبلها الوظيفي.
سوف تمتد سيطرة صامويل إلى حياتها الخاصة، مع زوجها، وستقع تعقيدات كثيرة لن تنتهي سوى بعد أن تستسلم هي للابتزاز من جانب صديقة صامويل، “صوفي”، الموظفة الطامعة في موقع أكبر في الشركة، التي تعترف لها بأن صامويل أطلعها على كل شيء.
يسير الفيلم بين الشد والجذب، الرغبة، وإنكار الرغبة، الهيمنة والرغبة في الاستسلام ثم العودة إلى ممارسة الهيمنة داخل العمل. ومن دون أن يقع تطور درامي كبير.
ومن ناحية الأسلوب يتخذ الفيلم الشكل الواقعي والسرد الأفقي، من دون أن يميل للتحليل النفسي ولا إلى الحكم على الشخصية، فالسيناريو يتعامل بسيطرة تامة ومن خلال نسق قرب إلى البرود سواء في تكوين الشخصية أو مسار الأحداث، ولكن ما يجذب يسيطر على المشاهد طوال الوقت، هو أداء نيكول كيدمان التي تعود مجددا وهي في السابعة والخمسين، إلى هذا النوع من الأفلام التي تتناول الرغبات الجنسية الخفية للمرأة، في دور يذكرنا دون شك، بدورها في فيلم ستانلي كوبريك “عينان مغلقتان تماما” Eyes Wide Shut ولاشك أنها تتمتع بجاذبية خاصة وهي في هذا العمر، وهي جاذبية ناتجة ليس فقط عن ملامحها الجميلة وجسدها الذي مازالت تحفظ بنضارته، بل أساسا عن الأداء، عن التماهي مع الدور، والقدرة على التعبير بمختلف الانفعالات المتباينة التي تظهر على وجهها.
في النهاية لسنا أمام عمل سينمائي كبير، بل يظل فيلما يلعب على فكرة قديمة ولكن من خلال علاقة مبتكرة، وشخصية عصرية جديدة. ولكن المأزق هنا يتمثل فيما يمكن أن يفهم من الفيلم، أي أنه يقول لنا إن المرأة – عموما وليست رومي بشكل خاص- قد لا تشعر بالرضا عن الجنس المعتاد، بل تفضل التعبير عن الخيالات والهواجس التي قد يعتبرها الكثيرون من متطرفة، غريبة، غير معتادة، وأنها يمكن أن تتناقض مع مظهرها، وتقبل بكل أنواع التحقير والإهانات، من جانب الرجل، وهو ما يجعل الفيلم يكرس صورة مهينة للمرأة. وهذه الفكرة موجودة دون شك في سياق الفيلم. وكان المتصور أن تغضب هذه الصورة جماعات الحركة النسائية الجديدة- الفيمينزم وأنصار “مي تو” ولكننا لم نسمع شيئا!!
شخصيا لم يسبق لي أن شاهدت في أي فيلم، وقد شاهدت الكثير جدا من الأفلام، امرأة تركع وتسير على أربع، وتنبح كالكلبة أمام الرجل، منذ أن شاهدت جين مورو تفعل هذا في فيلم “مدموازيل” لتوني ريتشاردسون (من عام 1966) ولكن دورها كان مختلفا تماما عن دور المرأة الخاضعة، فكانت هي التي تسيطر على الرجل وتدفعه إلى مصيره. وهو فيلم جدير بالمشاهدة، خصوصا لو عرفنا أن من كتب له السيناريو هما جان جينيه ومرجريت دورا. وهو موضوع آخر بالطبع.