فيلم “الفلوس”.. من منظور أخلاقي

أعتبر نفسي من النقاد الذين يميلون، فى كتاباتهم، إلى البحث عن أسباب السعادة فى الأفلام التى يشاهدونها أكثر من البحث عن أسباب الشقاء. وبهذا المعنى، أجدنى أحتفى بالإيجابيات ولا أتوقف كثيراً عند السلبيات، وأعمل، جاهداً، على إضفاء معنى على المشاهد التى تبدو خلواً من المعنى.

وفى هذا السياق، اعترف بغلبة النزعة الذاتية على كتاباتى النقدية، بل إنى أحرص، فى معظم الأحيان، على الاحتفاظ بالطفل الذي بداخلي، فلا أخجل من التعبير عن دهشتى وفرحتى مما لا يبدو، فى العادة، مصدراً للدهشة أو للفرحة بالنسبة للكبار.

ينطبق هذا على فيلم “الفلوس” كما انطبق على أفلام أخرى كثيرة سابقة، كان آخرها فيلم “لص بغداد”. وفيلم “الفلوس”، في الحقيقة، به بعض السلبيات التي تناولها نقاد أخرون، ومن هذا المنطلق سأحاول أن أعيد قراءة الفيلم من وجهة نظري الشخصية الصرف، والتي ربما تبدو بعيدة عن المعايير النقدية بمعناها العلمى الدقيق.

أول ما استوقفنى فى الفيلم هو سرعة الإيقاع التى هيمنت على الأحداث منذ البداية وحتى النهاية، عدا المنطقة الوسطى من شريط الفيلم التى شابها شئ من البطء والتراخى الذي وصل إلى حد الملل فى بعض المشاهد. غير أن هذه السلبية يمكن التجاوز عنها فى ظل بداية قوية ونهاية مثيرة لأحداث ساخنة ولاهثة.

بدأ الفيلم من قمة الصراع بمشهد أمريكانى يحبس الأنفاس، وفيه يصور سيف (تامر حسنى) وسليم (خالد الصاوى) معلقان فى أعلى قمة لواحدة من ناطحات السحاب، ويدور بينهما حوار قصير حول الأسباب التى قادتهما إلى هذا الموقف المرعب، الذي يضعهما على الحافة، بين الحياة والموت.

زينة

إن التساؤلات الفلسفية التى يطرحها سيف والإجابات العبثية التى يقدمها سليم فى هذا الموقف يمكن أن تلخص رسالة الفيلم كله، وهي الرسالة التي ضاعت بين الكوميديا والتشويق، اللذين بالغ السيناريو فى إبرازهما سعياً وراء النجاح الجماهيرى. فسيف” و”سليم” صديقان مختلفان ولا يجمعهما سوى خفة الظل واحتراف النصب. الأول يمارس الإجرام ولديه وعى بحقيقة الموقف اللاأخلاقي الذي يلعبه في الحياة، وهو موقف مزيف، يقوم على الاحتيال والكذب من أجل الاستيلاء على أموال الآخرين، الذين هم فى الغالب ضحايا من النساء. وبإيعاز من هذا الوعي يطرح على صديقه أسئلته ذات الطابع الفلسفى والأخلاقى من قبيل هل الإنسان مسير أم مخير؟ والأخير يمارس إجرامه بحكم العادة، مدفوعاً بالطمع والرغبة فى الثراء السريع، ولا يملك من الوعي إلا ما يمكّنه من الاستمرار فى طريق الإجرام حتى النهاية. وكان من الممكن لهذه الفكرة أن تصنع فيلماً جيداً لو اهتم السيناريو برسم تاريخ لشخصيات العمل الرئيسية، وهو ما لم يحدث.

غير أن الأحداث فى مجملها، وبعض الإيماءات، تؤكد على أن سليم ورث الإجرام من زعيم العصابة خريستو (كميل سلامة). وأن سيف شب على حياة النصب والعربدة. ما يعنى أن الشر غريزة متأصلة فى نفس الإنسان المجرم، تظهر إذا ما اتيحت لها الفرصة، ولا يمكنه التخلص منها مهما بلغ من درجة الوعي. يؤكد ذلك مشهد النهاية الذي يصور سيف وسليم وهما ينصبان على ضحية جديدة (مى عز الدين، ضيفة الشرف)، مستخدمين نفس الحيل وذات العبارات المستهلكة، بعد أسبوع واحد من إعلان سيف لتوبته.

كما لا يمكننا إغفال البعد الميتافيزيقى المتمثل فى مسألة الموت، والتى مسّها السيناريو مساً خفيفاً، ولم يحاول تعميقها، كعادته، فتاهت وسط ضجيج الكوميديا الزاعقة وصوت الموسيقى العالى. وضح ذلك فى مشهد موت زعيم العصابة المفاجئ بعد أن حصل على كل شئ، وهو مشهد كوميدى يعبّر عن عبثية السعى المحموم وراء أشياء سيتركها الإنسان خلفه لا محالة. والمشهد الذى يحكى فيه سيف عن الحلم المتكرر الذى يطارده، ويرى فيه نفسه على شفا الموت مع صديقه سليم، وعليهما أن يختارا أمنية وحيدة لتحقيقها قبل أن يغيبهما الموت. 

اعتمد المخرج اللبنانى سعيد الماروق، فى تقديم حبكة الفيلم، على أسلوب الفلاش باك وكثرة الالتواءات التى أربكت المشاهد، بشكل أفقده اليقين فى كل ما يراه أمامه على الشاشة. فكل الحقائق التى تتكشف للمشاهد يعود الفلاش باك ليكذّبها ويقدم بدلاً منها حقائق جديدة. إننا إزاء عمليات حذف وإضافة مستمرة تؤكد على انعدام اليقين وهشاشة الواقع، وهما سمتان تميزان الفيلم وعمليات النصب فى آن. ولا نميل للقول بأن الفيلم نفسه أصبح بمثابة عملية نصب على المشاهد، وإنما نقول بأن المخرج استفاد من آليات النصب فى تجسيد فكرة الفيلم، بحيث يقدم خطاباً خادعاً ومزدوجاً، يقول فيه شئ ويقصد شيئاً آخر.

والحقيقة أن هذه الازدواجية هى ما يميز شخصيات الفيلم أيضاً، وكما وضح ذلك فى شخصتى سيف وسليم، وضح في شخصية “حلا” كذلك. وهي الشخصية التي لعبتها زينة، وشكلت الضلع الثالث فى مثلث الصراع على الفلوس. فحلا تلعب كلا الدورين: النصّابة والمنصوب عليها، فى الوقت نفسه، من أجل تحقيق هدفها المشروع فى استرداد أموالها التى استولى عليها سليم.

لقطة من الفيلم

عنوان “الفلوس” يثير فى الذهن تداعيات ترتبط، فى الغالب، بمعانى الصراع والطمع والأنانية، وهو ما تحقق بالفعل داخل أحداث الفيلم، خاصة فى نصف الساعة الأخير، الأكثر تشويقاً وإثارة. فكل الذين دخلوا فى الصراع عملوا لحساب أنفسهم من أجل الانفراد بالفلوس، بالرغم من تظاهرهم الكاذب بالتعاون من أجل إرجاع الحق إلى أصحابه، وبالرغم من اتفاقهم على نسبة يحصل عليها كل طرف من الثلاثة بعد صرف الفلوس من البنك.

انتهى الفيلم نهاية أخلاقية، فقد انتصر الخير، وعاد الحق إلى أصحابه، عدا أن الأشرار لم ينصلح حالهم، وظلوا فى طريقهم يواصلون الإجرام الذي بدأوه. 

على مستوى الصورة، نجح الماروق فى تقديم فيلم حركة شيق ومثير، خاصة فى مشهد المعركة التى دارت بين سيف وسليم وكادت تودي بحياتهما معاً، ومشهد مطاردة السيارات، بالرغم من طوله، والذي يمكن أن يوضع، من وجهة نظرنا، بجانب مشهد طارق العريان فى “أولاد رزق 2” ومشهد أحمد خالد موسى فى “لص بغداد” باعتبارهم أقوى مشاهد المطاردات فى تاريخ السينما المصرية، وإن تفوق الأخيران فى توظيفهما لتقنية الجرافيك.

أكثر الماروق من استخدام أسلوب “الدرون” في التصوير، وهى تقنية تمكّن المشاهد من رؤية الأحداث بعين طائر، ما يتناسب مع الفكرة الرئيسية للفيلم، التى أهملها السيناريو ولم يشتغل عليها جيداً. فالرؤية من أعلى تؤكد على معنى الهيمنة، وأن الإنسان مهما بدا حراً، يتصرف وفق إرادته المنفردة، تظل هناك إرادة أقوى وعناية أشمل تستوعب كل مظاهر الخير والشر التى تبدو متشظية ومبعثرة، وتقول كلمتها الأخير والعادلة فى النهاية.

ما بدا أنه قديم ومستهلك فى الفيلم، بدءاً من التتر، مروراً بأداء الممثلين والإفيهات التى كانوا يلقونها، وانتهاءً بمشهد النهاية، إنما كان متسقاً مع قضية الفيلم وتساؤلاته الوجودية القديمة والمتجددة فى الآن نفسه، التى دارت ومازالت تدور حول الخير والشر، الحب والصداقة، الحياة والموت.

وإذا أردنا أن نتحدث عن الأداء فى عبارات قصيرة، فيمكننا أن نقول إن زينة مازالت تستعذب دور البنت العاطفية التى تنهار أمام أول شاب يلوح لها بالحب، وأن خالد الصاوى بلغ من النضج والثقة فى الأداء ما جعله يؤدى ببساطة ودون مجهود وإن وقع فى فخ التكرار، أما تامر حسنى فبالرغم من نمطية الأداء يحسب له أنه حافظ على نجاحه الجماهيرى فى فيلم لا يعتمد على الغناء، وهو الحلم الذى راود عبد الحليم حافظ وحققته شادية فى زمن الفن الجميل.

Visited 241 times, 1 visit(s) today