فيلم “الحوت”.. محاولة التواصل مع الآخر

فاطمة راجح

في عام 2011 كان الكاتب الامريكي المسرحي صموئيل د. هانتر، يقوم بتدريس مادة تسمى “الكتابة التوضيحية” عبر الانترنت، تابع لبرنامج تدريسي في جامعة روتجرز. ألزم البرنامج كل طالب يود الالتحاق بالجامعة، بالحصول على هذه الدورة التدريبية. ونتيجة لصعوبة هذه الدورة على الطلاب، أصبحوا غير متحمسين لها، فوجد هانتر صعوبة شديدة في محاوله تدريس المادة العلمية للدورة، أو التواصل مع طلابه، وانتهت محاولاته في تدريس المادة إلى جعل الطلاب يقومون بكتابة جملة واحدة فقط صادقة حتى يستطيعوا النجاح في الدورة التدريبية، فكتب أحد طلابه سطرا يقول فيه: “أعتقد أنني بحاجة إلى قبول أن حياتي لن تكون مثيرة للغاية”. تأثر هانتر جدا بجملة الطالب، وظل يفكر فيها كثيرا، وانتهى الأمر إلى استخدامه الجملة في نصه المسرحي “الحوت” الذي كتبه لاحقا، والذي بدأ كفكرة من وحي تجربة تدريسه للطلاب، ثم تحول إلى مسرحية تم عرضها على مسرح برودواي عام 2012.

حققت المسرحية نجاحا كبيرا، وحصلت عام 2013 على جائزة لوسيل لورتيل التي تمنح للعروض المسرحية المميزة، مما شجع المخرج دارين أرونوفسكي انذاك إلى الذهاب لحضور العرض. واستطاع نص هانتر المسرحي أن ينال اعجاب دارين فورا، وقرر العمل عليه لتحويله إلى فيلم سينمائي.

إباحية البؤس ورهاب الوزن

في عام 1974 حققت الكاتبة البريطانية “هيلين فورستر” نجاحا في إطلاق نوع أدبي جديد نوعيا، وهو ما سمي لاحقا باسم” إباحية البؤس” حيث تناولت قصص طفولتها التي عانت

فيها من الفقر والنشأة في ظل ظروف اجتماعية قاسية. شكل كتابها نوعا فنيا جديدا أو “إباحية البؤس”، وهو شكل من أشكال الكتابة الابداعية يتضمنMisery porn يسمى القصص والسير الذاتية التي تتناول الإساءات والظروف القاسية التي يزعم الكاتب أنه عانى منها.

صنفت الكتابة عن الحياة الشخصية بأنها النوع الأكثر شيوعا للقراءة، خصوصا بعد فوز الكاتب فرانك ماكورت عام 1996 بجائزة بوليتزر عن كتابه “رماد أنجيلا”، الذي تم تحويله لاحقا، الي فيلم درامي عام 1999 من إخراج الان باركر، وكان يتناول الطفولة البائسة لكاتبه.

وقال بعض مؤلفي هذا النوع من الكتابة إنهم يكتبون للتصالح مع ذكرياتهم المؤلمة، ولمساعدة القراء على فعل الشيء نفسه عن طريق الكتابة عما لا يمكننا الكتابة عنه.

في المقابل يتم نقد هذا النوع الفني كونه تعبيرا عن حالات نادرة للمآسي الفردية، وأن الاعتماد على المعاناة الفردية أحيانا يعني التقصير في الرؤية الفعلية أو المنظور الفريد للحالة الإنسانية، فنفقد القصة البشرية، ويدعى القاريء إلى دخول عالم مليء بالقسوة، ويجد نفسه مجبرا على التعاطف مع أبطال هذا العالم.

شخصية تشارلي بطل مسرحية هانتر، شخصية عاطفية تعاني من الاغتراب والعزلة عن محيطها الاجتماعي. في ظل محاولات تشارلي لتقبل نفسه حتى يتقبله الآخرون. قد تكون

لمحات شخصية تشارلي هي نفسها طفولة ومراهقة ونشأة هانتر نفسه، الذي بالفعل نشأ في شمال ولاية أيداهو، مثلي الجنس في ظل مجتمع محافظ، وكان يتردد على مدرسة دينية متشددة.

وكانت التعاليم الدينية تخبره بأنه حتما سيذهب إلى الجحيم. وقد أدرك هويته الجنسية واختلافه عن أقرانه في الصف الحادي عشر مما سبب له نوبات من الاكتئاب المتواصل، وعندما التحق بالجامعة انغمس أكثر وأكثر في الاكتئاب. كان الطعام هو وسيلته الوحيدة لقمع مشاعره السلبية تجاه نفسه.

استطاع هانتر لاحقا التخلص من إدمانه للطعام بمساعدة صديقه وأبويه، وبالنظر لمعظم الأعمال التي كتبها هانتر، نجدها تدور حول تلك الأفكار التي نشأ في دائرتها، وهي أفكار محددة مثل الشك والإيمان ومحاولات التواصل الإنساني مع الآخر.

كيف تحكي قصة

صنع أي فيلم هو دائما ما يكون محاولة لرواية قصة ما. بعض الأفلام تحكي قصة و تتركك ع إحساس معين، وبعضها الآخر يحكي قصة وتعطيك فكرة، وتكشف شيئا عن نفسك وعن الأخرين، ومن المؤكد أن الطريقة التي تحكي بها قصة يجب أن تكون على علاقة بما تحكيه القصة”. (من كتاب فن الإخراج السينمائي- سيدني لوميت)

يروي أرونوفسكي، في مقابلة معه، أنه بعد تخرجه، وأثناء تجواله حول العالم، انتهى به الحال في مراكش بالمغرب، ويقول: “أتذكر أنني شققت طريقي خلال مجموعة من الناس متجمهرة حول رجل عجوز جد ا ذي عين واحدة يحكي قصة. كنت أرى الرجل يتشكل في شخصيات قصته. لمسني ذلك الموقف كثيرا. كنت أشعر بالجمهور يتواصل معه، واستوعبت أن القصص هي فعلا اللغة العالمية التي نتشاركها جميعا”.

يجمع ارنوفسكي ما بين أسلوب بصري متميز، ومهارته في سرد قصته من وجهه نظر أبطاله المصابين غالبا باضطرابات نفسية وعاطفية، واصرارهم المبالغ فيه على مطاردة أحلامهم كما تصر الفراشة على ملاحقة الضوء، وتسعي الي ملامسته فتحترق بنيرانه. كذلك أبطاله، مجرد فراشات تحترق بنيران أحلامهم.

الإدمان والعلاقات الأسرية المضطربة والمفككة، تيمة متكررة في أفلام أرنوفسكي. في فيلم “مرثية حلم” Requim for a Dream نرى الابن هاري الذي وقع في فخ الإدمان يعاني مع والدته المضطربة التي تسع ى إلى استعادة لمحات من حياتها الماضية السعيدة قبل رحيل زوجها وإدمان ابنها. وفي فيلم “البجعة السوداء” Black Swan تعاني نينا من سيطرة والداتها وهوسها لدفعها لتصبح راقصة الباليه الأولى في فرقتها، وهو ما فشلت الأم قديما في تحقيقه. وفي فيلم الحوت، نجد إيلي، ابنة تشارلي (سادي سينك) تلقي باللوم على اخفاقاتها الشخصية على والدها حين هجرها من أجل صديقه.

وتماشيا مع النظرة الثقافية في أن يلقي الناس باللوم في اخفاقاتهم الشخصية على والديهم أو أشقائهم، تخبرنا قصص بؤس الطفولة باستمرار أن الأحداث المؤسفة في سنوات تكويننا تحدد مصيرنا في المستقبل، بغض النظر عما يحدث لنا كبالغين، وبغض النظر عما نحققه، فإننا نظل أسرى الأحداث الماضية.

في فيلم “الحوت” The Whale يحاول تشارلي إعادة التواصل مع ابنته التي هجرها منذ ثماني سنوات، بعد علمه بإصابته بمرض القلب الاحتقاني جراء السمنة المفرطة واحتمال موته خلال أيام. هو لا يريد العلاج وإنقاذ نفسه في الأيام القليلة المتبقية له، فقط يريد أن تغفر له ابنته أنه تركها وكما ترك زوجته من أجل مغامرة عاطفية، نسي فيها واجباته كأب تجاه أسرته، وهي مغامرة انتهت بالفشل بعد انتحار صديقه، ليتحول تشارلي إلى رجل تعيس لا يخرج من منزله اطلا قا، ويكتفي بطلب طعامه هاتفيا. كل ما يفعله هو تدريس اللغة الانجليزية عبر الانترنت خلف كاميرا سوداء، لا يكشف عن وجهه ولا عن هيئته لطلابه، مدعيا أن الكاميرا تالفة لا تعمل. نسمع صوته أولا في الدقائق الأولى من الفيلم دون أن نراه، صوته الذي نسمعه هادئ ورنانا وواثقا من نفسه، يختلف تما ما عن حقيقته.

يتقن أرونوفسكي التلاعب بمشاهديه فنرى لتشارلي صورة مختلفة عن الصوت الذي سمعناه؛ نرى رجلا بالغ الضخامة، بالكاد يستطيع التحرك، ويكاد يفقد حياته في أي لحظة، يلتهم كميات كبيرة من الطعام في شراهة، ثم نتعرف على تشارلي صاحب الروح المعذبة التي لا تستطيع مواجهه ما فقدته ولا مواجهه الآخرين بسبب وزنه الزائد، يعاني من فشل القلب الاحتقاني وارتفاع ضغط الدم، ويرفض الذهاب إلى المستشفى.

تشارلي غير مرئي رغم ضخامته، لا يتعدى وجوده مساحة غرفته الصغيرة التي يتنقل فيها بصعوبة غير قادر علي الخروج منها، ويراقب العالم عبر نافذته ويقوم بإطعام الطيور الضالة. تدرك كمشاهد أن الفيلم بأكمله سيحدث داخل هذه الحدود الضيقة لغرفة تشارلي ذات الإضاءة الخافتة والألوان الباردة. لا يسمح أرونوفسكي بتسلل الضوء داخل الغرفة إلا في لحظات تشارلي الأخيرة.

لقد صنع تشارلي قيود منفاه بنفسه، وتتساءل ابنته بغضب شديد نحوه عن أسباب عدم تواصله معها خلال ثماني سنوات، فيجيب في بساطة: انظري إليَّ، من يريدني أن أكون جزءا من حياته؟ !

محاولة التواصل مع الآخر

تعتمد نظرية هيجل في الفلسفة على أن وعي الإنسان بذاته لا يتحقق إلا انطلاقا من اللقاء بالآخرين ولا يمكن أن تكون هناك ذوات إلا إذا تلاقت، ولن يحدث ذلك إلا بالتفاعل الذي تتدرب فيه الأنا على أن ترى نفسها بأعين الذات الأخرى باعتبار أن الذات لا تتعرف

على ذاتها إلا من خلال الآخر، وفي حاله انعدام العلاقة بين الفرد والكلية الاجتماعية يقع الإنسان في الاغتراب الاجتماعي. وصنف هيجل الاغتراب إلى الاغتراب الاول بمعني الانفصال، والاغتراب بالمعنى الأول يشعر الفرد بالاغتراب عن بنيته الاجتماعية بسبب اختلاف سماته وطباعه وذاته عن الجماعة، مما يسبب تنافرا شديدا بينه وبين هذه الجماعة، فيغترب الفرد أيضا عن ذاته، وتنشأ الصراعات التي تسفر عن عودته إلى ذاته وسماته وشخصه في نهاية المطاف، فالبنية الاجتماعية والعالم اللذان يصطدم الإنسان بقوانينهما وعادا تهما، واللذان من الممكن أن يكونا جامدين هما نفسيهما، من خلالهما يتعرف الإنسان على ذاته وماهيته وما يريده. وعندما يكتسب الإنسان هذا الوعي الذاتي في نهاية المطاف يكون بذلك قد اهتدى إلى الطريق الموصل، لا إلى حقيقته فحسب، بل أيضا إلى حقيقة العالم.

الاغتراب الثاني بمعني التسليم

الاغتراب بمعنى التخلي أو التسليم الذي اعتبره هيجل معاكسا للمعنى للأول، يتضمن تناولا واعيا أو تسليما، وذلك بقصد ضمان تحقيق غاية مرغوب فيها، وهي التماهي مع البنية الاجتماعية، وبالتخلي يتم التغلب النهائي والأخير على الاغتراب، حيث أن قوة الفرد تتمثل في جعل نفسه متوافق ا مع البنية الاجتماعية الكلية، وتضحيته برغباته في سبيل ذلك التوافق.

يعتقد أرونوفسكي انه في السنوات الأخيرة، وخصوصا بعد أزمة كورونا، فقد العالم الكثير من جماله، وبالرغم من انتشار وسائل التواصل الاجتماعي الا انها زادت بشكل عكسي في عزلة واغتراب الفرد، وبالتالي فقد الفرد التواصل الإنساني مع الآخر، وأكثر ما جذبه في نص هانتر أنه نص يعبر عن التواصل الإنساني أكثر من كونه نصا أدبيا يسعى لاجتذاب شفقة القارئ. وأزمة التواصل الإنساني هي بالأساس ما جعل ارنوفسكي مخرجا سينمائيا، فالفيلم من وجهة نظره ما هو إلا تجربة عاطفية للمشاهد بالإساس، يمارس من خلالها التعاطف مع الآخر، والذي قد يكون مختلفا تماما عن المشاهد في الأفكار والعادات والمعتقدات.

بجانب ابنة تشارلي يقتحم عزلة تشارلي عدد قليل من الزوار، على رأسهم هونغ تشاو، الممثلة التي تم ترشيحها للأوسكار عن أدائها كممرضة تشارلي وأخت صديقه الراحل.

 هونغ ” تريد إنقاذ تشارلي بعد أن فشلت في إنقاذ حياة أخيها، وتسعي بجهد أن تجنب تشارلي مصيره وتحاول حمايته من زوار العالم الخارجي: من مبشر الكنيسة الشاب توماس، أسير فكرة أنه يستطيع إنقاذ روح شخص واحد فقط وتغيير مصيره، حتى يرجع مرة أخرى لبلدته وكنيسته التي رحل عنها بدون عار. هناك أيضا زوجة تشارلي السابقة التي تشعر بفشلها كأم وأنها السبب المباشر فيما أصبحت عليه ابنتها. كل الشخصيات أسري أفكارها الشخصية، فلا ترى ولا تسمع ما يريده منها الآخر، بل تغرق في فقاعتها التي صنعتها مثلها مثل كابتن ايهاب بطل رواية موبي ديك، والتي تجدها ابنه تشارلي رواية

مملة. فكابتن ايهاب مهووس بقتل حوت واحد بعينه ويعتقد أن حياته ستكون أفضل إذا تمكن من ذلك، ولكن في الواقع لن يساعده ذلك على الإطلاق.

تم ترشيح ارنوفسكي لجائزة الاوسكار مرة واحدة عن فئة الإخراج خلال مسيرته الفنية عن فيلم “البجعة السوداء”، بينما حصد معظم ممثليه جوائز الاوسكار، إذ حصدت ناتالي بورتمان على جائزة ورشحت الين بورستين لاوسكار أفضل ممثلة عن أدائها في فيلمه الثاني “مرثية لحلم” بجانب العديد من الجوائز الأخرى بما في ذلك جائزة سيزار وجائزة إندبندنت سبيريت وجائزة الجمعية الوطنية لنقاد السينما لأفضل ممثلة، وآخرهم فريرز الذي حصل على جائزة الاوسكار لأفضل ممثل عن دوره في الفيلم.

أرونوفسكي عمل لعشر سنوات مع هانتر في تطوير سيناريو فيلم الحوت وظل يؤرقه عدم قدرته على إيجاد ممثل يقوم بدور تشارلي كما يتصور. خاض تجارب الأداء العديد من الممثلين ولكنه لم يجد أي منهم مناسبا لأداء الدور، حتى شاهد إعلانا دعائيا لفيلم منخفض التكاليف يشارك فيه فريرز، فقرر اختياره فورا.

“الحوت” هو أول فيلم روائي طويل يعود به فريرز كبطل رئيسي بعد غياب عشر سنوات. يضفي فريزر الدفء والإنسانية على دور تشارلي أكثر مما هو ممنوح له في قصه هانتر، واستطاع ببراعة الحصول على تعاطف المشاهد من خلال انفعالاته النفسية بجانب تدريباته على الحركة التي مارسها قبل بدء الفيلم لضبط إيقاعه الحركي مع شخصية رجل يزن 300 كيلوجرام.

Visited 13 times, 1 visit(s) today