فيلم “18 يوما” تجربة تسقط قدسية الصورة والثورة معاً
الناقدة ريما المسمار كتبت في صحيفة “المستقبل” اللبنانية مقالا طويلا تتناول فيه فيلم “18 يوما” الذي أخرجه عشرة مخرجين مصريين عن ثورة 25 يناير أو بوحي منها.
نفتطف مما كتبته ريما الجزء التالي:
حضرت مصر في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي (11-22 أيار/مايو 2011) ضيفة شرف، في تقليد يُقام للمرة الأولى وسوف يكمّل، بحسب إدارة المهرجان، في الدورات المقبلة، من خلال تسمية بلد ذي تراث سينمائي عريق ضيف شرف كل عام. أرخت التحوّلات الجذرية التي تشهدها مصر منذ مطلع العام بظلالها على الإحتفالية، فبدا الإحتفال معنياً أكثر بمصر الجديدة وبسينماها الجديدة، منه بتاريخها السينمائي. صحيح أن التفاتة إلى ذلك التاريخ كانت واحدة من ملامح الإحتفال، حيث اختير الفيلم الكلاسيكي “البوسطجي” لحسين كمال للعرض ضمن قسم “كلاسيكيات كان”، إلا أن الزخم الأكبر رافق العرض الأول للفيلم الجماعي “18 يوماً”، بما هو نتاج سينما ما بعد الثورة واستهلال لمرحلة ستزخر حتماً بالمقاربات السينمائية لثورة “25 يناير” ونتائجها.
في الزمن القصير الفاصل بين الإعلان عن دعوة مهرجان كان “18 يوماً” للمشاركة في قسم “العروض الخاصة” وبين عرضه الأول يوم 18 ايار/مايو، اتخذ الحديث عن التجربة أبعاداً عدة، اختلفت بين الداخل (مصر) والخارج (خارج مصر). في الداخل، ارتفعت الأصوات المندّدة بفيلم قائم على بعض الأسماء المرتبط بـ “العهد السياسي القديم”.
هؤلاء الملقّبون سخرية بـ”المبشرون بالجنة” (مجموعة من الكتاب والفنانين الذين استدعاهم الرئيس السابق حسني مبارك قبيل قيام الثورة ولبوا دعوته)، موصومون بالسعي المباشر إلى مساندة مبارك في ترشّحه لولاية ثانية وبتصريحاتهم الموالية لنظامه السياسي. في الداخل أيضاً، حرّك مشروع “18 يوماً” حساسيات فردية لدى مخرجين لم تتم دعوتهم للمشاركة برؤيتهم في المشروع الجماعي. كيف ولماذا اختير المخرجون العشرة ( أو الأحرى الثمانية إذا اعتبرنا أن بذرة المشروع انطلقت مع المخرجين مروان حامد ويسري نصر الله)؟ ما الذي أوعز بذلك التكليف الرسمي وعلى اية أسس؟
في الخارج، تمحور الجدل حول فكرة اساسية: ما الذي يمكن قوله سينمائياً عن ثورة لم تنتهِ ومرحلة سياسية واجتماعية لم تصل إلى خواتيمها بعد؟ وكيف يمكن احتواء حدث بذلك الحجم من مسافة صفر منه؟
يمكن المجازفة بالقول أنه لولا اختيار مهرجان كان الفيلم ضمن برنامجه، لظلّت تلك الأسئلة في إطار ضيق وعند الحد الأدنى من الجدل. ذلك أن التفات أكبر مهرجان سينمائي إلى الفيلم، أحاطه بهالة رسمية وباعتراف وتكريس ما كانا ليتحقّقا لو ان العمل ظلّ في حدود التصوّر الأول: مجموعة من الأفلام القصيرة حول الثورة تصور وتطلق من خلال موقع “يوتيوب”. بين الصيغة الرسمية من جهة التي أسبغت على المشروع، و”القدسية” من جهة ثانية التي يتعامل بها أصحاب الثورة تجاه ما يعتبرونه إنجازاً أثيراً يخشون مصادرته، علق المشروع في دائرة صغرى من الأخذ والردّ، استوجبت ردوداً غير مباشرة من المشاركين فيه على الإتهامات المضمرة والعلنية. فهناك أولاً شعور (متفاوت بدرجاته) لدى المخرجين المساهمين في الفيلم بأنهم ربّما تسرّعوا في تشكيل رؤاهم السينمائية حول حدث ساخن وجلل. لذلك، لا ينفكّ معظمهم يكرّر الحكاية الخلفية نفسها التي سبقت انخراطه في المشروع: رفض في بادىء الأمر، فتردّد، فموافقة على استحياء، فدفاع عن التجربة على قاعدة أنها ليست عن الثورة بل عن حكايات صغيرة وقعت خلال الايام الثمانية عشرة بين انطلاق شرارة الثورة وتنحي مبارك في 11 شباط/ فبراير.
في جوهر هذا الخطاب تكمن نظرة لا تخلو من التقديس ايضاً للسينما ونفي لمفهوم السينما-الرسالة أو السينما-الوسيلة أو السينما-القضية. وفي ذلك أيضاً رد خجول على انتقادات الداخل والخارج. إنها المسافة بين مشروعية التوثيق الفردي الهادف وبين الإدعاء بأن ما يجري توثيقه يصلح عملاً فنياً. إن حجم هذا الإدّعاء هو الذي يحدّد إطار العمل، بعيداً من الأفكار الكبيرة غير المجدية حول السينما التي تحتفظ بقيمتها مع مرور الزمن والنّضج الذي يجب أن يترافق بالضرورة مع اية تجربة سينمائية.
على سبيل الدفاع عن التجربة
إن الدخول في جدل من ذلك النوع يستوجب التخفّف من بعض الأوهام الملتصق بالسينما عموماً والعربية خصوصاً. فالسينما، كأي حقل ثقافي أو فني آخر، هي مزيج من العاطفة والإنفعال والنضج وإعمال العقل. وما الخوف من سينما منطلقها عاطفي أو انفعالي إلا نفي لسمتها الفردية وإعلان بأن الصورة انعكاس لوعي جمعي وحالة عامة.
في الكتابة، الفرق أوضح حيث الشكل يقرّر على نحو ما المضمون. بين المقالة والخواطر واليوميات والقصة القصيرة والرواية والملحمة، يتّخذ فعل الكتابة أشكالاً مختلفة، لكل منها قوانينه وظروفه ومنطلقاته وأهدافه. أما الفيلم، فمسألة أخرى، شائكة وغير خاضعة لقوانين صارمة. فكم من أفلام الهواة المصورة بواسطة الهواتف النقالة، تخطّت أهدافها الأولية لتصبح مرجعاً فنياً أو موضوعياً. القيمة الفنية أمر نسبي، يتحدّد بالمقارنة مع الزمن والتحوّلات، من دون أن تكون العلاقة بالزمن والتريّث حاسمين لجهة ضمان جودة فنية لا تتحقّق في ظروف عكسية. والمخرج ليس مطالباً بكبت انفعالاته الداخلية في انتظار لحظة النضج المؤاتية لصنع فيلم كبير. الصورة، اليوم وأكثر من اي وقت مضى، ليست مقدّسة والسينما ليست هيكلاً، يتوجّب على من يدخله أن يتسلّح بالحكمة والنضج والخلاصات الفلسفية. والسينما العربية تحديداً، لا تحفظ في ذاكرتها أمثلة كثيرة عن أفلام عاندت الزمن والشيخوخة والترهّل. فمن اين يأتي هذا الوهم بأن الإنتظار والتحليل وأخذ مسافة كافية من الأحداث كفيلة بأن تنتج سينما كبيرة؟ وهل أن فكرة السينما التي تحيا بمعانيها ومضامينها ولغتها يجب أن تكون الهدف الذي من دونه لا تكون أفلاماً؟ بعض التجارب يكتسب معناه من سياقه الزمني وقد يطويه النسيان من دون أن يعني ذلك عدم جدواه.
من هنا، يأتي الدفاع عن تجربة “18 يوماً” كفكرة مشروعة، لا تحتاج إلى مسوّغات، ولا إلى أحكام مسبقة تحاكم على اساسها. تجربة يمكن الحكم عليها بكليتها، كما يمكن قراءتها انطلاقاً من كل فيلم قصير على حدا وما يقوله، ليس عن الثورة فقط وإنما عن هواجس مخرجه وأدواته. بالطبع هنالك إطار يتحكّم في تلك القراءة وهو الوقت القصير الذي استغرقه تصوير كل فيلم (نحو يومين تصوير فقط)، ولكن مما لا شك فيه أن ذلك يصب في مصلحة معظم أجزاء “18 يوماً”.
الإنتماء إلى تراث السينما المصرية
الشكل الفني الذي يقوم عليه “18 يوماً” ليس جديداً. فالأمثلة كثيرة على أفلام مؤلفة من مجموعة أفلام قصيرة، تتخذ من المدن أو الأحداث الكبرى المؤثرة عنواناً عريضاً، يقاربه أكثر من مخرج من زاويته الخاصة. من تلك الأمثلة القريبة زمنياً من الذاكرة: “باريس، أحبك” و”نيويورك، أحبّك” و”طوكيو!” (ميشال غوندري، ليوس كالااكس وبونغ جون-هو) وبالطبع “11 سبتمبر” (بمشاركة مخرجين من طراز شون بن وكِن لوتش وكلود لولوش ويوسف شاهين).
ولكن في حين صنعت تلك الأعمال من ترف (في حالة باريس، نيويورك، أحبك) أو بفارق زمني عن الحدث (كما هي حال 11 سبتمبر)، خارج “18 يوماً” من قلب الحدث، وكانت المفاجأة ظاهرياً انتماءه إلى السينما الروائية وليس الوثائقية (بخلاف الشريط التونسي عن الثورة “لا خوف بعد اليوم” لمراد بن شيخ الذي عرض في كان أيضاً كعمل وثائقي يتناول الثورة بشكل مباشر).
ولكن الواقع أن الصيغة الروائية لفيلم “18 يوماً” ليست مفاجئة ولا هجينة على تراث السينما المصرية، حيث السينما الروائية متقدّمة بأشواط عن نظيرتها الوثائقية. التقليد في السينما المصرية هو الروائي. والأخير يفترض، وإن بالحد الأدنى، مسافة من الواقع وخيالاً لا يتوفران للأفلام الوثائقية، المعقودة-لاسيما في زمن الحدث-على مقارنة لا مفر منها بالتغطية الإخبارية (الشريط التونسي أكّد ذلك بما لا مجال للشك). واللافت في الأفلام العشرة القصيرة التي تؤلف “18 يوماً” ابتعادها من التوثيق، ومن مكان الحدث المركزي (ميدان التحرير)، والتوغّل في حكايات صغيرة، على هامش الثورة، لأشخاص يعيشون تجارب، تفرضها الثورة بالضرورة، ولكنها تتحول إلى ما يشبه المونولغ الداخلي. ثورة “25 يناير” هي الخلفية التي تحاك أحداث الأفلام أمامها، تتفاعل معها أحياناً، أو تنفصل عنها سالكة اتجاهات شخوصها وهواجسها الداخلية.
تنطبق على “18 يوماً” مواصفات هذا النوع من الأفلام، حيث نقع على تجارب متفاوتة في الشكل والمضمون والمعالجة. في هذه التجربة تحديداً، تبرز محاولات الشباب أكثر عمقاً وانفتاحاً على الشك والمساءلة من أفلام المخضرمين، وتتميز الأفلام التي قررت الإبتعاد من الحديث المباشر عن الثورة.