في مهرجان برلين السينمائي: المرأة ضحية الرجل والرجل ضحية نفسه
المرأة محور لفيلمين من الأفلام التي تتسابق على “الدب الذهبي” في الدورة الـ 70 من مهرجان برلين السينمائي، وهما الفيلم الفرنسي “ملح الدموع” والفيلم الألماني “وأوندينه”.
فيليب غاريل المخرج الفرنسي صاحب الفيلم الأول “ملح الدموع” The Salt of Tears من جيل الموجة الجديدة الفرنسية، لكنه لم يحقق نفس ما حققه رفاق جيله مثل غودار وتروفو ولوي مال من شهرة، فهو يفضل صنع الأفلام “الصغيرة” miniature التي تدور حول فكرة أكثر تتبنى “موضوعا” أو “قضية”، فأفلامه عادة غير مركبة بل بسيطة بساطة الفكرة التي تطرحها ربما أيضا على صعيد مجرد.
في ثلاثيته عن “الحب” التي بدأها بفيلم “الغيرة” (2013) الذي شارك في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي، وتبعه فيلم “ظل النساء” (2015) ثم اختتم ثلاثيته بفيلم “حبيب ليوم واحد” (2017)، كان غاريل مهموما بالبحث في فكرة “الحب” على نحو يذكرنا بأسلوب رفيقه من جيل الموجة الجديدة إريك رومير في رباعيته الشهيرة التي تحمل أسماء الفصول الأربعة والتي كان يسبر فيها أغوار الشباب وعلاقتهم العاطفية في العصر الحديث.
يمكن بالتالي القول إن فيلم “ملح الحب” هو امتداد لثلاثية غاريل عن الحب. وفيلمه يبدو من الوهلة الأولى، مجردا، منفصلا عن الواقع، فهو ليس فيلما واقعيا يهتم بما يدور من أحداث تقع حول عدد من الشخصيات، فشخصياته مخدودة، كما أنها هنا توجد في الفراغ. فهو يتعمد تجريد المدينة: مدينة باريس في المشاهد الأولى من الفيلم، فنحن لا نرى فيها الكثير من البشر، فشوارعها تخلو من البشر باستثناء أبطاله، وأولهم بطله “لوك” القادم من الريف ويبدو أنه مفتون بوسامته، يريد أن يختبر مدى تأثيره على الفتيات وكيف يمكنه أن يوقعهن في شباكه، ولكننا لن نعرف هذه الصفة فيه حتى ما بعد الفصل الثاني من الفيلم. ففي البداية يبدو “لوك” وديعا ناعما رقيقا مهذبا. لقد جاء للالتحاق بكلية بول المرموقة لتعليم النجارة، وتحديدا نجارة الدواليب أو الخزانات، لكنه يجب أن يمر أولا باختبار صلاحية. لقد ورث الولع بأعمال النجارة عن والده المسن الذي يقطن في الريف ويرعى ولده أفضل رعاية ويحلم بأن يراه يدرس في كلية بول للفنون الجميلة التي عجز هو عن الالتحاق بها في شبابه.
في البداية يلتقي لوك بفتاة مغربية الأصل هي “جميلة” التي تنجذب إليه وتوافق على الخروج معه، ويبدو أنها قد وقعت في حبه، لكنها تمتنع عن تسليمه جسدها بالكامل (وهو التحفظ المرتبط بالثقافة التي تنتمي إليها)، لكنها أيضا تشعر بالقلق فقد جاء فقط لأداء الاختبار ويعتزم العودة إلى بلدته مرة أخرى. ولكن عندما يغادر تكون جميلة قد تعلقت به بالفعل وتظل تواصل ارسال البطاقات البريدية إليه.
في بلدته، يلتقي مصادفة بزميلته في الدراسة الثانوية “جنفييف”، وسرعان ما يستأنف علاقته السابقة بها، وينغمس أكثر في علاقة جسدية كاملة لا يتردد فيليب غاريل عن الكشف عن تفاصيلها الحميمية بدرأة السينما الطبيعية. لكن العاقبة لن تكون سارة بالنسبة للوك. فعندما تخبره جنفييف بأنها قد أصبحت حاملا منه يستنكر هذا بشدة، فهو لا يمكنه أن يصبح أبا، كما أنه يتأهب للذهاب الى باريس بعد أن تم قبوله للدراسة. لكنه كان قد أشبع رغبته من جنفييف وحان الوقت للبحث عن فريسة غيرها.
في شوارع باريس يطارد فتاة تهدده بإبلاغ الشرطة إن لن يتوقف. لكنه سيلتقي بفتاة من نوعية مغايرة هي “بيتسي” وسيقع في حبها لقوة شخصيتها وجاذبيتها الشديدة. لكنها ستفرض عليه أن يقبل بوجود صديق آخر لها هو “باكو” الذي يأتي ويقيم معهما في نفس الغرفة. وتتردد “بيتسي” بين فراش العشيقين دون وجل. وسيدفع لوك الثمن مضاعفا، بعد أن يكون قد تخلى عن والده.
الطابع العام للفيلم قديم، أو “خارج العصر”. هنا نلحظ استخدام الراوي الذي يروي الأحداث في برود تام ودون أي تفاصيل وكأنه “صوت القدر”. والتصوير المقصود بالأبيض والأسود، وتجريد الزمن. وقد اشترك في كتابة سيناريو الفيلم جان كلود كاريير أحد كبار كتاب السيناريو في السينما الأوروبية وكاتب أهم أفلام لويس بونويل العظيم. لكن يبدو أن صلة كاريير (88 سنة) وغاريل (72 سنة)، بثيمة الحب والشباب والعصر، مازالت أسيرة عصر “الموجة الجديدة”، مع وجود تيمة أخلاقية واضحة تبرز من خلال علاقة الأب بالإبن، وكيف أن مخالفة تعليمات الأب والتنكر لمقتضيات “الرجولة” تؤدي إلى نزول العقاب بالإبن. كما أن العالم الذي تدور فيه الشخصية يبدو نابعا من الماضي العتيق، ففي أحد المشاهد مثلا يقوم شاب أصول افريقية تعرف عليه لوك، باستعراض قدراته الذكورية، ويقنع لوك بأن “العاهرات لا يمكن استبدالهن” وأن جمال العاهرة يتبدى في أنك “تلتقي امرة لا تعرفها وبعد عشر دقائق تراها عارية”. هذا الشاب ينجح في إغواء فتاة تعمل ممرضة، بل ويقنعها أيضا بإحضار إحدى صديقاتها لكي تصاحب لوك. وهو ما يحدث بكل بساطة.
في الفيلم يتساءل لوك عن معنى الحب، ويستبعد أن يكون ما يربطه بالفتيات هو نوع من الحب. وهو ليس كذلك بالفعل بل هو مزيج من الرغبة والشعور بالتفوق، أو ممارسة الجنس السهل مع اختبار القدرة الذكورية على الإيقاع بالفتيات. تصبح الفتاة هنا ضحية (يتخلى عنها الذكر- في نذالة- وهي حامل منه، أو يهمل الأخرى ولا يرد على مكاتباتها، وعندما “يُضحي” من أجل لذته ومتعته الشخصية، يرفض الاستجابة لوالده الذي جاء فجأة وأراد البقاء لبعض الوقت مع ابنه في غرفته فلا يفتح له لوك الباب، ثم حتى لا يهتم بعد أن تتدهور صحة الرجل العجوز) لقد أصبح ضحية سوء الطوية والولع المرضي بالذات.
ورغم أن الفيلم الألماني “أوندينه” Undine يختلف عن الفيلم الفرنسي في ملامحه التي تبدو أكثر عصرية وتسليطا للأضواء على “الحاضر”، إلا أنه يدور داخل نفس الدائرة: أي الرجل والمرأة، وكيف تصبح المرأة ضحية ثم تتحول حتى بعد أن تغيب إلى أداة انتقام من الرجل.
“وأوندينه” وهو العمل الخامس للمخرج كريستيان بيتزولد الذي يشارك في مسابقة مهرجان برلين، يتشابه مع، ويختلف عن، الفيلم الفرنسي. فهو يتشابه معه في تجريده للشخصيات إلى حد كبير فهي شخصيات وحيدة معزولة، رغم أن العمل الذي تقوم به هو الذي يحدد هويتها. وكما في “ملح الدموع” لدينا أيضا رجل وأكثر من امرأة، وامرأة وأكثر من رجل. ولدينا زمنان أو أشياء من الماضي ومن الحاضر، هذا التداخل هو الذي سيفسد الحب. ولكن أساس الفيلم هو قصة الحب وليس الهوس بالبحث عن الحب من دون العثور عليه بسبب طغيان الذات، وهو الاختلاف الأول مع الفيلم الفرنسي. والاختلاف الثاني أن الفيلم الألماني رغم بساطته الظاهرية، مصنوع بدقة أكثر وله تأثير أعمق وأقوى على المشاهدين رغم غموض موضوعه وعدم بلوغه نهاية واضحة، ولكن ربما من تجريديته تنبع قوته، فهو يصبح نوعا من الخيال السينمائي الذي يعيد رسم ملامح العلاقة بين الرجل والمرأة كما يراها الفنان الذي ينتمي الى عالم سينما المؤلف.
في الفيلم كثير من الشجن والأسى واللوعة، لوعة الحب الذي يولد ثم يختفي أو يزول أو لسبب ما، ينقضي، وعندما يبدو أن العثور على الحب مجددا قد تحقق يظل الأرق بسبب الماضي، ثم تقع المأساة. وفي كل قصة حب هناك دائما مأساة، أو هكذا يرى كريستيان بيتزولد الرومانسي في نظرته إلى العلاقة بين الحياة والموت، وهو هنا كما كان في فيلمه السابق “ترازيت” (2018)، يستحضر الموت في غمرة الحب والإحساس بالحياة، ويجعل الماضي يهدد الحاضر. إنه يمزج بين الحقيقة والخيال. ويلعب على المقارنة المستمرة أو المقاربة بين القديم والجديد في عمارة مدينة برلين، وبين القديم والجديد في قصة الحب.
بطلة الفيلم امرأة شابة قوية الشخصية هي “أوندينه” (في اللاتينية معناها الموجة الصغيرة). وفي الفيلم الكثير من الأمواج والأعماق. أوندينه (التي تقوم بدورها ببراعة كبيرة بولا بير) تعمل مرشدة في معرض النماذج المعمارية لمباني مدينة برلين، تشرح تاريخ التطور أو التدهور المعماري الذي شهدته المدينة والمشاريع الجديدة التي نفذت منذ توحيد شطري برلين وما يعتزم إنشاؤه مستقبلا. وهي تجيد عملها باحترافية بالغة. لكنها تعاني في علاقتها العاطفية مع “يوهانس” الذي يخبرها أنها سيتركها. أما رد فعلها فيكون ببساطة ولكن بتصميم بالغ: هذا معناه أنك ستموت، أي أنها ستقتله.
لكنها سرعان ما تلتقي برجل آخر هو يوهانس، وهو غطاس محترف يعمل لحساب بعض الشركات، تقع في حبه من اللقاء الأول، وتصبح علاقتهما ملتهبة لا تخمد نيرانها قط. لكن شبح علاقتها السابقة قائم، وهو على نحو ما، يعبر حياتها، ويشعر به كريستوف. ثم يعود يوهانس ليعلن لها أن علاقته بالمرأة الأخرى التي تركها من أجلها قد انتهت وأنه يود استئناف علاقتهما. الجزء الأخير من الفيلم يتناقض من ناحية الأسلوب تماما مع كل ما سبق، فبينما كان الأسلوب الواقعي هو الطاغي، يتجه في القسم الأخير من الفيلم ناحية الإغراب والغرابة والدخول في لعبة الفانتازيا والمزج بين الخيال والواقع، وبين الهواجس والحقائق.
ومرة أخرى المرأة ضحية للرجل (الأول الذي هجرها ثم الثاني الذي أعلن تشككه فيها). كما أن الرجل ضحية نفسه أي خيانته وتشككه ثم اختفائه في الوقت الصعب. لكن هذه الأفكار لا يتم نسجها في سياق واقعي، بل هناك مزيج من الواقع والخيال، الأسطورة والميتافيزيقا والتلاعب بمستوى الحكي نفسه، وجعل الماء والغرق جزءا من نسيج الفيلم.
ما الذي حدث وكيف اشتبكت خيوط التعاسة لتدفع الأمور الى نهاياتها. هل نحن أمام “أسطورة” مثل أسطورة النداهة التي تنادي العشاق لتغرقهم؟ أم أنها حكاية الحلم المكتوب عليه أن ينتهي لأنه مجرد طبقة جديدة سطحية تضاف إلى الطبقة القديمة في محاولة لتجديد القديم. وهو المعنى الذي ندركه من خلال تلك المقاربات البصرية المستمرة في الفيلم بين تاريخ العمارة في برلين الذي تجيد وأوندينه شرحه، وبين علاقتها بكريستوف التي تصل لدرجة أن يطلب منها في غمرة العلاقة الحسية أن تسمعه العرض الذي تعتزم تقديمه في اليوم التالي.
تبقى النهاية لغزا كبيرا مفتوحا. لكن تأثير الفيلم يظل قائما بسبب براعة الإخراج والتمثيل واختيار مواقع التصوير والصورة البديعة التي تتميز بها جميع لقطاته ومناظره الداخلية والخارجية. إنه ليس عملا عظيما من أعمال سينما الفن، لكنه فيلم جيد، مشغول بعناية كبيرة تستحق الإعجاب