في حب الباشا: زكي رستم وروعة الشر
الشر ظاهرة إنسانية أصيلة قديمة قِدم التاريخ، والأشرار مؤثرون فاعلون يحققون من الانتصارات ما يفوق الهزائم التي تطولهم. لا يقتصر وجود الشر على زمان بعينه أو بقعة مكانية دون غيرها، فهو قائم فاعل في كل زمان ومكان. قد يتحقق عبر سلوك فردي محدد محدود، كالذي نجده عند اللصوص والقتلة والمحتكرين وتجار المخدرات ورجال العصابات، وغير ذلك من أوجه النشاط الإجرامي الذي يتوافق مع طبيعة المجتمع، ويتأثر به آحاد الناس، وربما يمتد الشر ويرتقي متجسدا في حاكم طاغية مستبد ذي ممارسات قمعية عنيفة، تلحق الأذى المادي والمعنوي بقطاعات واسعة من البشر، ولا يندر أن يمتد الأثر إلى خارج الحدود.
يبدع زكي رستم في تقديم أدوار الشر بطريقته الاستثنائية الفريدة غير التقليدية، معتمدا في أدائه الفذ على الدراسة والمعايشة والاندماج مع مكونات الشخصية للإمساك بمفاتيح الفهم، فهو لا يقنع بالسطحي الظاهر المباشر من معطياتها وملامحها، لكن الممثل في نهاية الأمر، أي وكل ممثل وليس زكي رستم وحده، عنصر من مكونات العمل السينمائي الذي يتعدد المشاركون فيه، كتابة وتصويرا وإخراجا، فهل يملك وحده أن يمنح القيمة لنص مهلهل وتصوير ساذج وإخراج بدائي؟
في “مسمار جحا”، 1952، و”حكم قراقوش”، 1953، محاولة لاستعراض الشرور السياسية الموضوعية، حيث الحاكم الطاغية المستبد والمظالم الاجتماعية والاقتصادية. لا يصل رستم إلى مستواه المعهود، ذلك أن المعالجة في الفيلمين التاريخيين لا تسعفه وتعينه، لفرط الركاكة والسذاجة في السيناريو والإخراج معا. في الفيلم الأول، لا يجد الممثل الكبير في ملامح الحاكم الشرير الفاسد إلا السطحي الشكلي بلا أعماق تشبعه وترضيه، والأمر أقرب إلى تجميع لبعض النوادر والطرائف الشائعة المنسوبة إلى جحا، الشخصية الأسطورية ذائعة الصيت، ويقدمها عباس فارس بأداء كاريكاتوري ماسخ بلا مذاق. إنه الوجه المقابل المعارض للحاكم الذي يُسند دوره إلى زكي رستم، ولأن السيناريو عشوائي ركيك مفكك لا يتضمن رؤية متكاملة متماسكة، وأسلوب إبراهيم عمارة في الإخراج بدائي ميكانيكي فج، والحوار الضعيف يفرض على زكي أن يتكلم باللهجة العربية التركية الحافلة بالتصنع والافتعال، يبدو رستم تائها بعيدا عن التحقق، مسكونا بالغربة والاغتراب مع شخصية هشة يتسم شرها بالهزل، فكيف يبدع ويترجم البناء الضبابي إلى أداء قادر على الإقناع واقتحام القلوب؟
الأمر نفسه في “حكم قراقوش”، حيث النبرة الخطابية الزاعقة الفجة، والإسراف في المباشرة التي لا ابتكار فيها أو اجتهاد لبلورة شكل فني مقنع مؤثر، فكيف للممثل المبدع أن يكون واعظا أو مشاركا في محاضرة لا فن فيها؟
الشر في فيلميه هذين لا يمنح زكي رستم فرصة الكشف عن موهبته التي تتجلى في أفلام سابقة ولاحقة، يتوقف أمامها فصلنا هذا، وهي بترتيب عرضها:
– “قصة غرام”، 1945
– “أنا الماضي”، 1951
– “النمر”، 1952
– “بائعة الخبز”، 1953
– “عائشة”، 1953
– “حب ودموع”، 1955
– “رصيف نمرة 5″، 1956
– “الفتوة”، 1957
– “ملاك وشيطان”، 1960
– “الخرساء”، 1961
** قصة غرام **
شخصية شاهين، كما يجسدها زكي رستم بتمكن واقتدار، بداية رحلة الممثل الكبير مع أدوارالشر التي يبرع فيها ويقترن بها اقترانها به عند وفرة من محبيه.
على عتبات الموت، يستدعيه ابن عمه عصمت باشا، زكي إبراهيم، ليوصيه بابنته الطفلة هدى، أميرة أمير عندما تتجاوز الطفولة، وجلال، إبراهيم حمودة، الطفل الذي هو عند الباشا في مقام الابن، ويتولى رعايته والإشراف على تربيته بعد وفاة أبيه فهمي باشا، الصديق المقرب.
اختيار شاهين وصيا لا يروق لتابع الباشا الذي يُكلف باستدعاء شاهين، ولا يخفي الرجل تحفظه على ابن العم ذي السمعة السيئة. الكلمات التي يصفه بها تنبىء عن طبيعة الشخصية غير الجديرة بالثقة: “شاهين بيه ولو إنه ابن عم سعادتك راجل ردي وقلبه من حجر”.
لا دوافع شخصية عند التابع للتحامل والادعاء الباطل، ولا شك أن عصمت باشا نفسه يعرف ابن عمه جيدا، لكنه لا يبالي بما يُقال له ويعيه بالضرورة. مع الظهور الأول لشاهين، تتأكد شراسته وغلظته وافتقاده للحد الأدنى من المشاعر الإنسانية السوية، ففي ظل اجتياح وباء الكوليرا وسقوط الكثير من الضحايا، يصله خبر موت ابن جارته أم عبده، فيعلق في قسوة ولا مبالاة: “وإيه يعني.. في ستين داهية”، ويضيف متحدثا عن عموم عالم الأطفال، ساخرا من وصفهم بأنهم “أحباب الله”: “أحباب الله!.. دول مقاصيف رقبة!”
في عبارتيه الحادتين اللتين تكتسيان عنفا أصيلا عبر صوته القوي المسكون بالجفاف والجفاء، فضلا عن تجهم وجهه ولغة جسده التي توحي بالصرامة وموات القلب، تتجلى الحقيقة العارية التي ينبه إليها تابع الباشا منذ البدء، لكن شاهين في حضرة ابن عمه المحتضر يبدع في تمثيل شخصية مضادة مغايرة، حيث الإسراف في الرقة وإظهار الورع والإعلان عن قدرته على تحمل المسئولية الثقيلة الملقاة على عاتقه، وصيا مؤتمنا جديرا برعاية الصغيرين :”اطمئن يا باشا.. انت بتكلم إنسان يخاف ربنا”.
قناع الخير الذي يرتديه، ممثلا بارعا كاذبا، يكشف عن هيمنة الشر والدهاء، والتسلح بالحيلة والمراوغة والمناورة. بعد موت الباشا، يسعى شاهين سريعا إلى السيطرة والاستحواذ على ثروة ابن عمه، مستعينا بزوجته التي لا تقل عنه شرا وقسوة، زينات صدقي. لا يمثل زكي رستم دور الشرير، فهو يندمج في شخصية شاهين ظاهرا وباطنا، ولا يحتاج عنفه الكامن إلى دليل أو برهان. في حضوره الطاغي المخيف، صامتا ومتكلما، ما يؤكد أن الأداء الواثق يتجاوز المحاكاة الشكلية، وينبش في الأعماق المخبوءة، مستعينا بعينيه المخيفتين النافذتين وملامح الوجه التي يسيطر عليها ويتحكم في انفعالاتها.
القرار الأول الذي يتخذه هو السفر إلى العزبة للانفراد بالطفلين وإحكام السيطرة عليهما بعيدا عن الأنظار، والمنهج الذي يتبعه مع ناظر العزبة والفلاحين مستأجري الأرض بمثابة الامتداد المنطقي لما يتسم به من جفاء وحدة. الإشادة بالباشا الراحل الطيب، الذي يحسن معاملة الفلاحين ويعتمد “البركة” وحسن النية أسلوبا في التواصل معهم، لا يروق للوصي الذي يفرض الخوف منذ اللحظة الأولى، ويجاهر بالإعلان عن أسلوبه المغاير: “بالبركة؟.. الكلام ده بطل وراحت أيامه.. من النهارده ما حدش منكم يلمس عود من الأرض أو يسحب بهيمة من مطرحها إلا بعد ما أطلع على حساباتكم واحد واحد”.
لا شك أن كلمات الحوار حادة عنيفة قاسية، لكن وقعها يتضاعف بالنظر إلى أداء زكي رستم ونجاحه اللافت في التعبير عن الهيمنة والقوة. إنه يتوحد مع مكونات شخصية شاهين كما يفهمها ويعايشها فيحيله إلى كتلة شر هائلة، تطيح بالجميع وتفرض عليهم قوانين مختلفة واجبة الطاعة، ومن هنا يتسم تعليقه التالي بالمزيد من الشراسة والغطرسة، فيبدو كأنه الطوفان العارم القادر على التهام كل من يواجهه: “أنا هنا الكل في الكل.. أنا المتصرف المطلق.. أنا الوصي.. أنا القيّم.. البركة والألفاظ الفارغة دي.. حاجات مالهاش تأثير عندي.. الفلوس هي البركة”.
يتمكن شاهين ويسيطر، ويطغى ويستبد، ويتطرف في إذلال وإهانة هدى وجلال بما يتجاوز حدود المعقول، كأنه يستمتع بسلوكه العدواني هذا ويجد فيه لذة لا شأن لها بالبحث عن المصلحة. يتوافق ذلك التوجه مع انحرافه الذي يتمثل في الولع بالخمر والقمار والإنفاق ببذخ سفيه في زياراته للقاهرة، وليس أيسر عنده من الشروع في القتل، لكن مشكلة بناء الشخصية تتجلى في الثبات والجمود وغياب الصراع الجاد المحفوف بالمخاطر والتحديات. التكوين ذو بعد واحد، ولا تكافؤ أو ندية مع ضحيتيه، ولا يتغير الإيقاع الراكد إلا مع ظهور راشد، محمود المليجي، ذلك أنه لا يقل في شره الشرس عن شاهين. في المواجهة العنيفة بينهما، يتوهج زكي رستم لأنه يجد من يفجّر فيه وجها للحركة ذات الإيقاع البعيد عن الروتينية والبطء والركود.
يمكن القول إن السيناريو لا يعين الممثل القدير لتنويع أسلوبه في الأدء واستثمار مخزون موهبته، ذلك أن آلية التعبير عن الشر بعد السيطرة المطلقة لا جديد فيها، وهي امتداد لما يتم تأسيسه منذ البدء، أما النهاية السعيدة التي ينتصر فيها الخير ويندحر الشر، فإنها وليدة الصدفة والافتعال. يسقط العدوان اللدودان الشريران، راشد وشاهين، والأمر مردود إلى ما تنحاز إليه السينما المصرية من قواعد غير مقنعة، لا تتخلى عنها إلا في النادر الاستثنائي من الأفلام.
** أنا الماضي **
عشرون عاما يقضيها حامد بك بسيوني في السجن، مدانا بجريمة قتل لم يرتكبها، بل هي تدبير محكم بين إلهام، لولا صدقي، زوجة أعز أصدقائه كامل، فرج النحاس، وعشيقها فريد، فريد شوقي، زوج شقيقته رقية، نجمة إبراهيم. يدفع حامد ثمنا فادحا لشهامته المثالية وحرصه النبيل على “ستر” الأخطاء والخطايا، بغية إتاحة الفرصة للتوبة والاستقامة. من البدهي أن يغادر سجنه الطويل ممرورا مسكونا بالغضب المدمر والرغبة في الثأر والانتقام من إلهام، التي يموت زوجها الثاني، شريكها في التآمر، فلا يبقى إلاها ليشفي المظلوم المعذب غليله، لكن الموت يسبقه إليها، فممن ينتقم؟
لا بديل إلا ابنة غريميه الشابة سامية، فاتن حمامة. يقول لشقيقته التي لا تقل عنه، إن لم تزد، حرصا على تصفية الحسابات القديمة: “بنتهم لسه موجودة.. احنا ما قدرناش ننتقم وهما أحياء.. لكن ها ننتقم منهم وهما أموات”.
نسيان الماضي ومآسيه ليس ممكنا، والغفران والتسامح مطلبان مستحيلان يفوقان طاقة العاديين من البشر. على بوابة السجن عند المغادرة، يعبر وجه زكي رستم عن وطأة الشعور المرهق بقسوة الزمن وسريانه الجبار، وعندما يعود إلى بيته بعد غيبة طويلة مؤلمة، يتجلى الشجن والوجع في صوته وهو يقول: “كل شيء في محله.. كأني سبت البيت انبارح بس”.
أهو سعيد بالعودة؟! المشاعر المتداخلة المتناقضة تتجسد في حيرة الممثل القدير وارتباكه وتهدج صوته الذي يضفي على الكلمات مذاقا يتجاوز المعنى التقليدي المباشر لها. ابن أخيه شريف، عماد حمدي، يحمد الله على عودة عمه في رقة تنبىء عن شخصية لا تسكنها هواجس وكوابيس الماضي المزعج، وعندئذ يقول حامد في نبرة ذات منحى مغاير :”الحمد لله.. كلمة دايما نقولها.. مهما حصل”.
“الحمد لله” عنده لا تتوافق مع غرفة تذكاراته السوداء، حيث السجن و”البرش” و”الشمس المحرقة”، فضلا عن الإحساس المزمن بالظلم. شهوة التنفيس عن القهر الطويل الموجع مقنعة لا يمكن أن تؤخذ على حامد، فهو إنسان وليس قديسا، والسلوك الشرير الذي يمارسه، مع الإقرار بتطرفه، فعل إنساني مبرر، لكن السؤال الأساس الذي يتحتم طرحه: ما ذنب الفتاة البريئة التي لم ترتكب جرما يستدعي ما تتعرض له من عذاب وترويع؟. يتساءل شريف، المتعاطف مع زوجة عمه الشابة، ويرد العم بمنطق قد لا يكون مقنعا متماسكا، لكنه يعبر عن طبيعة الأزمة التي يكابدها ولا يسهل التخلص منها:
“- هي ذنبها إيه؟ هي اللي قتلت كامل.. هي اللي حطمت حياتك وحياة عمتي رقية.. هي اللي رمتك في السجن عشرين سنة؟
– سامية بنت إلهام وفريد.. بنت المجرمين.. سامية اللي باقية منهم.. اللي أرواحهم بتحوم حولها.. وأنا بأعذب أرواحهم”.
وجه زكي رستم، وهو يطرح رؤيته هذه، مقنع بما يفوق ظاهر الكلمات التي يقولها، ولا يملك من يتأمل لغة جسده وانفعالاته الكامنة، التي لا يصعب الإحساس بها، إلا أن يتعاطف مع الرجل المأزوم في محنته ويستوعب دوافعه، دون نظر إلى أنه يمارس ظلما كالذي يشكو منه ويتعذب به، ويسعى إلى الانتقام غير العادل من بريئة لم تسهم في إلحاق الأذى. الزواج من سامية أداة للثأر عبر التفنن في إذلالها ودفعها إلى الجنون، ما يضفي على ملامح الممثل الكبير سعادة شريرة مؤثرة، وإذا بوجه جديد يطل في المشهد نفسه عندما يعرف من الطبيب خبر حملها.
كيف له أن يتحكم في تعبيرات وجهه على هذا النحو المذهل، منتقلا من ذروة العنف والقسوة إلى قمة الحنو والرضا واستعادة الأمل في حياة ذات توجه مختلف؟ هنا تكمن عبقرية زكي رستم. تحولاته الانفعالية السلسة لا تُتاح للعاديين والجيدين من الممثلين، فهي موهبة يحتكرها الأفذاذ وحدهم. لفرط قدرته على الإقناع، يبدو وكأنه لا يمثل، فهو يعايش الشخصية المعقدة متعددة المستويات، ولا يجد صعوبة في التحول البريء من داء الافتعال ولعنة المبالغة المصنوعة.
سامية ضحية بريئة لجنون الانتقام، وحامد بدوره ضحية لشهوة الثأر المبررة التي تسكنه وتوجه افكاره وسلوكه، وكيف لمن يُسجن ظلما كل هذه السنوات أن ينسى أو يتسامح؟. الحمل نقطة تحول فارقة في مسار الشخصية، وها هو زكي رستم ينتقل بلا صعوبة إلى وجه جديد قوامه الحب والعطف والحنان والرقة الطفولية الآسرة، متهيئا لتحقيق حلم الأبوة البعيد عن التوقع، لكن الأخت رقية لا تتخلى عن تطلعها إلى الانتقام، حبا لشقيقها من ناحية وثأرا لكرامتها المسلوبة بالخيانة القديمة لزوجها من ناحية أخرى.
لا يجدي تحريض رقية، ويدفعها مخزون الشر الذي تتسلح به إلى زراعة الشكوك حول نسب الابن، رضوان، إلى أبيه. تتهم سامية بالخيانة مع شريف، ما يترك في نفس المحلق في سموات السعادة أثرا يهبط به في سرعة خارقة إلى قاع الجحيم، وكالعهد به تتسم تحولات زكي رستم بقدر هائل من المصداقية، كأنه حامد في قصة حقيقية يعيشها ولا شأن لها بالفيلم وأحداثه.
ما أكثر وجوه شخصية حامد بسيوني، الشرير الذي لا تملك إلا أن تتعاطف معه، وما أعظم موهبة زكي رستم في تقمص الوجوه جميعا، مؤثرا على المشاهد الذي يهرول وراء صدقه وحضوره الطاغي.
** النمر **
درويش عامل بار، يوحي ظاهره بالطيبة والانتماء إلى عالم الفقراء المستورين القانعين، وتتسم أحاديثه مع من يجالسونه بطابع المرح وروح الدعابة والفكاهة. الزوجة، عزيزة حلمي، مريضة بداء مزمن يعجزها عن الكلام لسنوات طويلة متصلة، والابنة الوحيدة فاتن، نعيمة عاكف، التي يتضح فيما بعد أنها ليست ابنته، راقصة تعمل معه في الملهى الليلي ولا تغيب عن عينيه. يخضعها لمنظومة أخلاقية صارمة، لا تتوافق مع مهنته ومهنتها. لا شيء فيه يوحي بالشر والسلوك الإجرامي، وإذ تقترح عليه الفتاة أن يسعى للقبض على النمر، زعيم عصابة التهريب الخطيرة التي تطاردها الشرطة، بغية الحصول على المكافأة الضخمة الكفيلة بعلاج أمها، يعلق زكي رستم على اقتراحها في نبرة صدق لا تردد فيها :”دا أنا راجل عجوز وأخاف من خيالي.. طيب دا أنا لو شفت قطة في الضلمة أموت في جلدي.. ايش حال بقى لو شفت النمر”!
هكذا يتكلم العاديون من الناس الذين يسكنهم الخوف، لكن درويش الطيب الوديع البشوش هو نفسه النمر، الزعيم المتطرف في القسوة على أفراد العصابة بلا رحمة أو شفقة، ولا متسع في قاموس زعامته للتساهل والتهاون. إنه مخيف مرعب يبث الذعر، ولا يتورع عن القتل، وتخطيطه البارع دليل عملي على ذكاء شرير متفرد. ليس مثل زكي رستم في القدرة الاستثنائية على الجمع بين الوجهين المتعارضين المتناقضين، وهو بارع مقنع في الأداء الذي يخلو من التلعثم والارتباك، فلا يملك من يراه في حالتيه إلا أن يجزم بأنه طيب كالملائكة أو شرير يفوق الشياطين. ما يقوله لابنته عن الخوف من قطة في الظلام، يتكرر بنبرة الصدق نفسها عندما تتساءل الفتاة عن السر في ملامح الخوف التي تعلو وجه أمها عندما تراه، كأنه العفريت: “الله يسامحك.. مين عارف يا بنتي المرض بيهيألها إيه”!
في احترافية رفيعة المستوى، يتنقل الممثل المتمكن بين الشخصيتين في انسجام لا تشوبه شائبة من نشاز، ويتحكم في انفعالاته بلا عناء ليجسد الازدواجية التي يتعايش معها بلا اضطراب أو خلل. لا يختلف حضوره الطاغي في مواقف الخير والشر، فهو الطيب الجدير بالتعاطف والشرير صانع النفور، أما صوته الذي يتغير إيقاعه فيعبر من خلاله عن الضعف والانكسار تعبيره عن السطوة والهيمنة، وهو ما يتجلى في خطابه الصارم للتابعين المنكمشين أمام جبروته: “أنا النمر يا كلاب.. إزاي تقتلوا يحيى قبل ما تاخدوا الأوراق اللي معاه.. دا أنا ها أشرب من دمكو واحد واحد.. انتو بتشتغلوا مع النمر.. النمر”.
في حدود السيناريو الحافل بالأخطاء والثغرات والتحولات غير المحسوبة، ومع زحام الشخصيات المقحمة بلا هدف فني يبرر وجودها، يتألق زكي رستم كأنه نسيج وحده، ويعلو أداؤه المتكىء على الاجتهاد في قراءة أبعاد الشخصية. لا يُقارن بالنمطية التي تغلب على أنور وجدي، صلاح، ضابط الشرطة المتنكر، والأمر نفسه بالنسبة لنعيمة عاكف التي تتفوق في ساحة الرقص الاستعراضي والغناء، وتستعين بالمرح وخفة الحركة لتضفي على أدائها التمثيلي شيئا من التماسك.
ينخرط الفيلم في منظومة الأفلام التقليدية ذات المواصفات التي يكررها أنور وجدي في الأغلب الأعم من أفلامه، لكن شخصية درويش تكشف عن المهارات الفريدة التي يتسلح بها زكي رستم. يصطدم توهجه اللافت مع تهافت البناء العام، الذي لا يمنح لعطائه دعما، ولا حيلة للممثل عظيم الموهبة في مواجهة الأزمات المزمنة التي يعاني منها الفيلم وتصنع نوعا من التشويش الذي يخدش أداء الممثل العملاق.
** بائعة الخبز **
عبد الحكيم، رئيس العمال في مصانع حماد المنياوي، هو الشخصية الرئيسة الفاعلة في صناعة أحداث الفيلم وتطوره. يوصف في التعليق الصوتي المصاحب للبداية بأنه “ذكي وصولي نهاز للفرص”، وينم سلوكه عن حقيقة إنه شرير من طراز فريد، لا يتردد في ارتكاب الجرائم كافة، فهو يحرق المصانع ويسرق اختراع صاحبها قبل أن يقتله، ويلصق التهمة بالأرملة خديجة، أمينة رزق، متحولا من عاشق متيم بها إلى كاره يحطم حياتها، ويقودها إلى قضاء سنوات طوال من عمرها، وهي البريئة التي لا ترتكب جرما، في السجن ومستشفى الأمراض العقلية، فضلا عن حرمانها من ابنتها نعمت، شادية، وابنها سامي، عمر الحريري.
الشر المسرف في القسوة والعنف وتبلد المشاعر، وجه من وجهين يظهر بهما الريس عبد الحكيم في المرحلة المبكرة من أحداث الفيلم، أما الوجه الثاني الذي لا يقل قوة وتأثيرا فيتمثل في حبه للأرملة خديجة، وإلحاحه عليها لتقبل الزواج منه. يتجلى عشقه لها، الذي يضفي عليه ملامح الرقة والحنان، في كلمات التشجيع والمواساة التي يقولها للمرأة بعد طردها من عملها المتواضع، مدانة بمخالفة تعليمات صاحب المصانع :”يعني ها تطردي من الجنة يا خديجة.. هي دي شغلانة ينبكي عليها.. هو انتِ ليكِ المرمطة دي كلها.. هو خلاص ما فيش ابن الحلال اللي يريحك من الشقا ده.. انتِ شابة صغيرة واولاد الحلال كتير”.
بأسلوبه الفريد المتمكن، القادر على الإقناع بفضل الصدق الذي يرتسم على ملامح وجهه ونبرة صوته والرسائل الصادرة عن عينيه، يجمع زكي رستم بين الشر والخير في انسجام وتناغم، وفي تحولاته السريعة المبررة بين الشعورين المتناقضين، يغيب الإحساس بالفارق الشاسع بين العالمين، فهما يتحدان عنده وينتميان في نهاية الأمر إلى الشخصية المركبة المعقدة التي تتسع لارتكاب الجرائم المروعة والاندماج في عالم العشق المسكون باللهفة والأشواق.
إصرار خديجة على رفض الزواج، وفاء لذكرى زوجها الراحل وحرصا على ابنها وابنتها، ينعكس سريعا على موقف عبد الحكيم الذي يتحول من الحب والرقة إلى العنف والقسوة، لكنه لا يستسلم ولا يستقر على شاطىء اليأس. يكتب لها رسالة: “أنا كتبتلك في الجواب ده كلام.. ما دام عجز اللسان عن الكلام”.
في رسالته هذه، يعترف لها مجددا بحبه، ويقول إنه يمتلك اختراعا سيجعله من أغنى الأغنياء. الاستحواذ على اختراع صاحب المصانع حماد المنياوي، إبراهيم حشمت، يتطلب سرقة الخزانة وإحراق المصنع وقتل صاحبه، ثم يقصد خديجة لتهرب معه فتكرر الرفض، وعندئذ يلصق بها تهمة الحريق، ويفر لتبدأ مرحلة جديدة في حياته. رسالته التي يخبئها ابن خديجة في حصانه الخشبي، دليل إدانة عبد الحكيم، وبالنظر إلى ذكائه ودهائه تبدو فعلة الكتابة هذه غير مبررة، فكيف لشرير بارع واسع الحيلة مثله أن يقع في خطأ فادح ساذج على هذا النحو؟.
لا يملك من يشاهد زكي رستم في المرحلة الأولى من الفيلم، حيث شخصية الريس عبد الحكيم، إلا أن يجزم بأنه في مواجهة رئيس عمال محترف، فهكذا تصل به المعايشة المحسوبة الواعية التي تتمثل في إيقاع الحركة ولفتات الجسد ونبرة الصوت، لكن المشاهد نفسه لا يشعر بشيء من الغربة مع الشخصية الجديدة التي ينتحلها عبد الحكيم، فإذا هو المليونير صاحب المشروعات الصناعية غريب أبو شامة، العائد من الشام بعد سنوات يعمل فيها هناك ويتزوج وينجب ويرث. مظهره الذي يتوافق مع الوضعية المختلفة، ينسخ الشخصية القديمة ويمحوها، فكأنه يعيش العمر كله ثريا وجيها قويا مملوءا بالثقة ومشاعر السيادة والسيطرة.
لا يتوارى الشر والدهاء في العهد الجديد، لكنه كامن لا يظهر إلا عند الضرورة، أما البطولة فللحب الذي يكنه لابنته الوحيدة المدللة مريضة القلب نيللي، ماجدة. لا يرفض لها طلبا، ويحرص على سعادتها وتحقيق كل ما تحلم به. تقع الفتاة في حب من ينصرف عنها ولا يحبها، وتأبى المصادفات المعهودة في السينما المصرية إلا أن يكون مدحت، شكري سرحان، ابن صاحب المصانع ضحية الأب. يتصدى غريب أبو شامة، الذي تمثل ابنته القيمة الأسمى في حياته، ليعدها بما لا يستطيع الوفاء به:
“أبوكِ فيه حاجة تعصى عليه؟.. اديني مهلة بس.. سبيني أتصرف وها تشوفي إذا كنت أقدر أسعدك ولا ما أقدرش”.
إنه الأب المحب الحنون الذي لا بد أن يُصنف في دائرة الخير وهيمنة المشاعر الإنسانية الراقية الرقيقة التي تقترن بالأبوة، وهو قادر في الوقت نفسه على استثمار شراسته وقسوته الأصيلة لمواجهة المتغيرات التي تهدد استقراره المؤسس على الزيف والخديعة، وتحاصر سعادة الابنة التي تواجه مخاطر التعاسة والموت. كيف يكون الشر أداة وحيدة تصل بالأب إلى الخير وسعادة الابنة؟!. هذا هو السؤال الصعب الذي يجيب عنه زكي رستم بالأداء الذي يجمع بين النقيضين في بساطة لا تُتاح إلا لعتاة الموهوبين.
في “بائعة الخبز”، تتعدد وتتجاور وجوه زكي رستم، وفي مواجهاته المتنوعة المشحونة بالقلق والتوتر، مع نعمت ومدحت والشرير المحترف سليل عائلة أبو شامة، حسين رياض، الذي يبتزه بعد الكشف عن تحايله وتزويره، وصولا إلى اللقاء الحاسم مع خديجة نفسها؛ يقدم رستم دروسا عملية في عبقرية التعايش مع الشخصية المركبة غير التقليدية التي يجسدها، حيث الشر الذي لا مثيل له، متعانقا مع الضعف الأبوي المضيء الذي هو الذروة في الخير والحس الإنساني المرهف.
لا تتبلور روعة الشر إلا بوجود الوجه المضاد الذي تكتمل به ملامح الشخصية الإنسانية التي تأبى أن تكون أحادية الجانب، وليس مثل العملاق زكي رستم في قدرته الفذة على التعبير عن أزمة إنسان مأزوم تزدحم أعماقه بالخير والشر معا.