“فوي فوي فوي”.. التدني عندما يصبح هو القيمة الوحيدة!
أمير العمري
أحيانا لا أصدق ما تراه عيناي. والأكثر غرابة أنني لا أصدق ما أقرأه من بعض ما ينشر في الصحف المصرية، ومنها ما يكتبه بعض من اعرف اطلاعهم على سينما العالم في المهرجانات التي يحضرونها، فهم عندما يكتبون عن بعض الأفلام المصرية الضعيفة المتهافتة الرديئة الصنعة، يشيدون بها ويرفعونها إلى عنان السماء، لأسباب لا صلة لها غالبا بالمستوى الفني والسينمائي بل نتيجة لقناعات وحسابات أخرى. وهذا بالطبع شأنهم، ويتحملون مسؤولية مواقفهم.
أما مصدر الدهشة والاستغراب، فهو ما أراه من تراجع النظرة النقدية باستمرار لتنحصر في الخضوع لفكرة “النسبية” السخيفة، بمعنى قياس كل ما تراه نسبة إلى ما هو سائد، فأي شيء يحاول تقديم ما يتجاوز السائد يصبح عظيما ومرموقا بل ويستحق أيضا أن نرسله- بكل جرأة- للمشاركة في مسابقة الأوسكار فربما تكتمل “الفضيحة”.
المشكلة أن مديح التدني النسبي، يكرس الهبوط والانحدار في المستوى، ويجعل فكرة أننا نعيش في عالم واحد مع سينما العالم فكرة مستبعدة تماما، لنبدو وكأننا قد أصبحنا مخلوقات منعزلة عن العالم، راضية بالتدني التي وصلت إليه، رضي عنها التدني.. في السينما وغير السينما بالطبع!
أسوق هذه المقدمة بعد أن شاهدت فيلما نال الكثير من الإشادة هو الفيلم المصري “فوي فوي فوي” لمخرج يدعى عمر هلال لم أسمع به بالطبع، ولكن هذه هي مشكلتي، فأنا لا أتابع مخرجي الإعلانات التليفزيونية ولا أكترث أصلا لما يعرض بالتليفزيون المصري.
أما المشكلة فهي أن هذا الفيلم الذي يستند إلى ما يقال إنه قصة حقيقية، تتجاوز بالطبع الواقع، وتبدو أقرب إلى الخيال، سرعان ما ينحرف بعيدا عن الفكرة الأساسية وهي فكرة لا بأس بها كان يمكن أن تصنع فيلما أفضل كثيرا لو أجاد كاتب السيناريو (وهو نفسه الأستاذ هلال) كتابتها ثم عرف كمخرج تنفيذها سينمائيا في سياق سينما حديثة ليست مصنوعة للاستهلاك المحلي السريع مثل وجبات ماكدونالد، ليصبح أقرب إلى ملهاة مليئة بالخطب الرنانة عن الحالة الاقتصادية للشباب العاطل صاحب الأحلام الكبيرة، ورغبته في مغادرة البلاد من دون أي خطة أو هدف محدد، بل لمجرد الخروج من واقع يقول لنا إنه خانق ولا يحقق له شيئا، ثم التحايل الفظ، والعلاقة العاطفية المصنوعة التي لا محل لها، ومجموعة الشبان الصعاليك الذين يمكن لجمهور الترسة التماهي معهم، وهكذا!
هناك حارة، وأسرة فقيرة ينتمي إليها بطل الفيلم أو شخصيته الرئيسية، أي حسن، الذي يمثل دوره محمد فراج، وهناك أمه التي تعاني من أجل تدبير أمور الحياة، وخطيبته التي لا يستطيع أن يتزوجها لضيق ذات اليد، وهو غير راض عن عمله البسيط، يسوقه حظه ذات يوم ليشاهد فريقا من المكفوفين يلعبون الكرة، وسنعرف فيما بعد أنهم يستعدون للمشاركة في بطولة العالم في كرة القدم للمكفوفين.
تأتي لحسن فكرة الالتحاق بهذا الفريق فيتدرب على تمثيل دور الأعمى، وينجح في إقناع مدرب الفريق الذي يمثله بيومي فؤاد، فيضمه الى الفريق ويفترض أنه يتفوق كثيرا في اللعبة لكونه يرى بالطبع من تحت النظارات السوداء أو العاصبة التي يضعها كثيرا فوق عينيه. والمشكلة أننا لا نراه يلعب ويتفوق مع الفريق في الجزء الأول من الفيلم بحيث يصبح انبهار المدرب به مبررا، بل يقفز بنا السيناريو الضعيف المهلهل المكتوب على طريقة السينما البدائية العتيقة، إلى الإعجاب الشديد من طرف الأخ بيومي فؤاد به، فيتبناه ويضمه ويجعله كابتن الفريق.
من دون استطرادات في السرد يكفي أن نقول إننا سنكتشف بعد ذلك أن هناك من هم مثل حسن في الفريق نفسه، بل وربما نكتشف في النهاية أيضا أن جميعهم مبصرون لكنهم يمثلون دور المكفوفين، والغرض واحد وهو ترك مصر والهجرة إلى الخارج لامتهان أي عمل فلا يهم حتى لو أصبحوا ماسحي أحذية.. ولكن لماذا؟ ما هي الظروف والأوضاع التي تخنقهم في مصر تحديدا؟ لا يوجد أدنى اهتمام بتعميق الشخصيات التي نراها سوى الإشارات العابرة السطحية إلى أنهم غير سعداء في واقع فقير رغم أن أحدهم يمتلك سيارة والآخر دراجة نارية ثمينة.
ميلودراما ساذجة تعاني من الترهل والاستطرادات وحشر شخصيات لا تقدم ولا تؤخر مثل شخصية الصحفية إنجي التي تمثلها نيللي كريم، ويجعلها السيناريو تقع في حب حسن من دون أي سبب مقنع، فما الذي دفعها الى الوقوع في حبه ولم يدر بينهما أي حوار حقيقي أصلا، ولا توجد ملامح لأي علاقة حقيقية بينهما، بل وحتى حسن نفسه، يبدو متأففا عازفا عنها، يمثل دور الكفيف المتدين، بينما كل ما يفكر فيه هو أن ينجح في تمثيل دور الكفيف لكنه لا ينجح فسرعان ما يكتشف المدرب الحقيقة، ثم تكتشف إنجد أيضا حقيقته، ويصبح جميع الشخصيات ماعدا إنجي، شخصيات تمارس الغش والكذب والخداع بل والإجرام أيضا من أجل الاستحواذ على المال أو الهرب بعيدا عن أرض الواقع. وستنتهي العلاقة بين إنجي وحسن كما بدأت، من دون سبب واضح.
ولعل من الطريف أن أحدث الفيلم تدور في عام 2013 قبل الإطاحة بالإخوان المسلمين، لكي يقال لنا ببساطة أن الأوضاع حينها كانت متدهورة أي قبل مجيء النظام الحاكم حاليا، الذي لابد أنه أصلح الأحوال، كما لابد أنه لم يكن ليقبل أصلا بظهور فيلم يصور الشباب المصري وهو يريد أن يغادر الجنة التي صنعها لهم في الأرض بعد 3 يوليو 2013!!
من المؤسف للغاية أن يكون لدينا فيلم حديث الإنتاج، مقطوع الصلة تماما بالسينما الحديثة في العالم، بل ويفشل مخرجه حتى في إخراج أبسط المشاهد، مثل مشهد هجوم جماعة من البلطجية على أحد أصحاب المطاعم وسرقة ما معه من مال، وتدخل حسن وصديقيه، والتصدي لهم في عراك بدائي لا نرى منه حتى لقطة واحدة مقنعة، كما يفشل المونتاج في جلعه مشهدا يفيض بالحركة والإثارة ويعاني من اللقطات الضيقة السريعة لكي لا تكشف “الأكشن” الضعيف.
وفي مشهد وصول الفريق الى مطار عاصمة بولندا، لا نرى لقطة واحدة عامة للمطار بل ولا أي لقطات عامة للمكان في بولندا عموما سوى في المشهد النهائي، ويتوقف الفيلم فقط أمام الاستظراف المفتعل السخيف من جانب بيومي فؤاد وهو يستظرف على ضابط الجوازات الثقيل الظل بدوره، الذي يسأل أسئلة بلهاء ويكون الرد عليه أكثر بلاهة ولا أي معنى أو مغزى في الفيلم سوى التباهي ربما، بأننا نستطيع دائما، أن نضحك على “الخواجة” الغبي!
والفيلم الذي يفترض أنه كوميدي، لا يضحكنا، ولم أجد فيه مشهدا واحدا يتميز بالطرافة وفن السخرية، خصوصا أن التمثيل متهافت وضعيف ومفتعل، وبدا لي أن الممثلين لا يقلون انتهازية عن الشخصيات الوضيعة التي يمثلون أدوارها، فهم بدورهم يريدون الخروج من العمل في هذا الفيلم بأي مبلغ يمكنهم الحصول عليه من المنتج، وبأقل جهد ممكن.. فلماذا يبذلون أي جهد في نفخ الحياة في أدوار سطحية مسلوقة، ومن خلال حوارات ساذجة ثقيلة الظل.
وبغض النظر عن الإسم السخيف الذي لا يبدو له أي معنى حتى داخل الفيلم نفسه، ويحتاج إلى مذكرة تفسيرية، ربما يكون عذر الجمهور الذي رحب بالفيلم ودفع عشرات الملايين من الجنيهات (التي لم تعد لها قيمة الآن في السوق!!) أنه يريد أن يتماهى فقط مع رغبة هؤلاء الصعاليك في الخروج من مصر.