“فضيلة أن تكون لا أحد”: عذابات الفقد وتباريح الروح
محمد جمال الروح
فيلم “فضيلة أن تكون لا أحد” وهو التجربة الحقيقية الأولى للمخرج السعودي الشاب بدر الحمود بعد محاولات سابقة لم ترق في عمقها إلى هذا العمل، رغم أننا أمام فيلم حواري محدود بصرياً، يعتمد في بنيته الأساسية على مونولوج طويل بين شخصين غرباء تجمعهم الصدفة، ولكن تكمن روعة هذا الفيلم القصير في نجاحه في التأثير على وجدان المشاهد والاستحواذ على انتباهه دون الوقوع في لحظة ملل واحدة، معتمداً على منطوق درامي بليغ محمل بالمعاني والدلالات، وأداء تمثيلي متزن وهادئ يتحاشى المبالغات الميلودرامية، مع مجرد كاميرا مثبتة على مقدمة سيارة تقطع طريقا طويلا، ورجلين يفيض قلباهما بقصص تحكي عذابات الفقد وغياب الأحبة وتشظي الروح.
أبو محمد “مشعل المطيري” شاب ثلاثيني هائم، يجول بسيارته بلا هدف لا يستطيع أن يواجه صورة ابنه المثبتة في مرآة السيارة، يقطع الطرق هرباً من ذكريات أليمة وواقع مر، بقايا إنسان غادرته الروح لتوها ومازال جسده يرجف.. نبرات تنطق بالأسى، وملامح يكسوها الهم والوجوم، يبدو أن هذا الرجل تعرض لأقسى مصيبة قد يتعرض لها الإنسان، وهي ضياع الابن.
أبو محمد فقد طفله عند بئر زمزم منذ أربع سنوات ولم يجده رغم بحثه المضني عنه حتى فقد الأمل في العثور عليه. هكذا نعرف من سياق الحوار الذي يبدأ عندما يتوقف بسيارته أمام هذا الشيخ السبعيني أبو ناجي “إبراهيم الحساوي”، الذي ينتظر سيارة تاكسي على جانب الطريق تحت لهيب الشمس.
يعرض عليه أبو محمد توصيله إلى محطة النقل الجماعي فلم تجف المروءة في قلبه الملتهب بلهيب الفقد، ونعرف أن أبو ناجي قادم من البحرين في طريقه إلى الرياض لمراجعة طبيب العيون فالضمادة الجراحية تغطي كامل عينه اليسرى، وتظهر عبر النظارة الطبية الكبيرة، وهو الآخر فقد ابنه غرقاً في “عين عزاري”، لكن الله عوضه بعد موت ناجي بتسع بنات.
أما أبو ناجي الذي لم ينجو ابنه من الغرق، فهو يكتشف أن موت الابن أهون من ضياعه، فضياع الولد (الضنا) هو موت جديد كل يوم، وما أصعب هذا الاختبار.
تذكرنا هذه الأجواء الحزينة بالفيلم البديع “مانشستر بجوار البحر” Manchester by the Sea الصادر في نفس العام 2016 وبشخصية الأب الذي انكسرت روحه بعد فقدان أبنائه.
يقول مخرج الفيلم، بدر الحمود، في أحد حواراته الصحفية: “رغم أن السينما هي لغة الصورة لكن الحوار هو أحد عناصرها، حتى أنني في هذا الفيلم شعرت بأني كاتب أكثر مني مخرجا”.
يعتمد بدر الحمود على اللقطة الواحدة التي ربما تتجاوز 10 دقائق لكنه يحافظ على سلاسة التدفق معتمدا على سيناريو يرتكز بشكل أساسي على فنيات الحوار بحيث جعلت الممثلين يحفظون أكثر من 9 صفحات للقطة واحدة. وكان هذا كفيلا بسقوط إيقاع الفيلم تماما، لكن لحسن الحظ هذا لم يحدث.
صور الفقد
التيمة الأساسية التي يدور حولها الفيلم هي تيمة الفقدان بأشكاله وصوره، بداية من فقد الابن ضياعاً أو موتاً ثم فقدان الزوجة الحبيبة التي لم تعد تصلح معها الحياة بعد ضياع الابن، وفقدان أبو ناجي لعينه، وأخيراً فقدان الذاكرة كما نرى في شخصية الأب الذي يعاني من ضعف الذاكرة. هذا ما يجعل أبو محمد لا يستطيع أن يري بصمات ابنه الضائع ولا تجعل أبو ناجي يقدر على أن يرى أثر أقدام ولده المحفورة. وكأن من فقدناهم أحياء، حاضرون عبر ما تبقى لهم من أثر.
بعد أن يصلا إلى محطة النقل الجماعي، يكتشف أبو محمد أن السائقين في المحطة يعرفون الرجل ويتهربون من توصيله ضاحكين، ينزل أبو ناجي من السيارة في حالة أشبه بالهروب.. لابد أن يكون هناك سر لا نعلمه، ستؤجل لحظة كشفه حتى أخر مشاهد الفيلم.
ينسى أبو ناجي نظارته في السيارة، يلحقه أبو محمد ويدعوه إلى شرب شاي (الكرك) لحين قيام الحافلة، وهنا نبدأ لقطة أخرى طويلة على طاولة المقهى وجولة أخرى من الحوار المحمل بالرسائل، يتعرض الحديث لأزمة الانطواء على النفس وطبائع الناس الذين أصبحوا كالجزر المعزولة بعد انعدام الحوار والتلاقي واتساع المسافات.
يسأل أبو ناجي رفيقه: ما أكثر شيء يخيفك؟ فيخبره بأنه يخشى ذلك اليوم الذي لا يتذكره فيه أبوه المصاب بالزهايمر. هنا يكون فقدان الأحبة وهم أحياء نوعاً خاصاً من الوجع. يتذكر أبو ناجي زوجته الراحلة لكن أكثر شيء أخافه وأرعبه في الماضي هو لحظة سقوط طلال مداح ميتاً، وهو يصف كم كانت تلك اللحظة صعبة عليه وعلى جمهور هذا المبدع الكبير المرتبط بالفن، هنا لا يفوت الحوار الفرصة ويمرر رسالة تدين التشدد الديني.
في النهاية بعد أن يفترق الرجلان تأتي لحظة الكشف حين يزيل أبو ناجي الضمادة عن عينه ونعرف أنه سليم البصر وأن كل ما سبق كان خدعة يمارسها الرجل طيلة النهار، يلوح لسيارة أخرى بعد أن يبدل الضمادة على عينه، يركب السيارة ويسمي نفسه أبو محمد وأنه أضاع ولده في الحرم، ويكرر كل ما سمعه على لسان أبو محمد، ويسمع حكاية السائق الجديد الذي سيلتقي بأخية التؤام في الباكستان.
أبو ناجي يعيش كل القصص، يسمعها ويكررها مع من يركب معهم لأنه لا يملك قصه تخصه، يهرب من قسوة الوحدة، يتوه في زحام الحكايات وقصص البشر. يصنع عالمه الخاص بشخوصه الذين يستدعيهم ويغيبهم، يتوارى من واقع لا يجد فيه أحد.
في الفيلم طاقة فنية عالية مستمدة من فن القصة القصيرة بكل مفارقاته ورموزه وأطر بناء شخصياته الغرائبية لولا بعض التطويل والمط الحواري الذى لا يناسب إيقاع الكاميرا ولا تكثيف القصة.
مشعل المطيري وإبراهيم الحساوي ثنائي ناجح تجمعهما كيمياء خاصة منحت هذا العمل قدراً كبيراً من التماسك. لكن بدر الحمود كاتب ومخرج هذا العمل البديع هو البطل الحقيقي.