عينه على السعفة الذهبية للمرة الثالثة: مايكل هانيكه في كان مجددا

إلى مهرجان كان السينمائي يعود مجددا المخرج النمساوي مايكل هانيكه الذي سبق أن حصد السعفة الذهبية مرتين عن فيلميه “الشريط الأبيض” (2009) ثم “حب” (2012). هذه المرة يعود هانيكه بفيلمه الجديد “نهاية سعيدة” Happy End الذي يأمل أن يضمن له السعفة الذهبية للمرة الثالثة، وهو ما لم يحدث في تاريخ المهرجان العريق الذي يحتفل هذا العام بدورته السبعين.

هانيكه سيطرق هذه المرة موضوع الهجرة والمهاجرين القادمين من عالمنا، ولكن أيضا من خلال انعكاس هذه القضية على أسرة فرنسية أقامت من حولها ستارا متصورة أنها قد حصنت نفسها من شرور العالم. ترى ماذا ستفعل عندما تجد نفسها وقد أصبحت في مرمى النيران؟ هذا ما سيكشفه لنا الفيلم الذي لم يعرض بعد، علما بأن هانيكه يستعين فيه بالممثل الفرنسي جان لوي ترنتنيان بطل فيلم “حب”، وممثلته الأثيرة أيضا إيزابيل أوبير التي لعبت دور الابنة “إيفا” في الفيلم نفسه، وقد أسند أيضا دورا رئيسيا للمخرج والممثل الفرنسي ماتيو كازوفيتز. فهل يفعلها هانيكه ويخطف السعفة الذهبية للمرة الثالثة. سنعود للكتابة عن الفيلم نفسه بطبيعة الحال في مقال قادم!

مؤلف سينمائي

في السادسة والسبعين من عمره، بشعره الأبيض الطويل، ولحيته الرمادية الكثة ، يبدو هانيكه كشيخ حكيم خبر الدنيا، وعانى أيضا من مشقة العيش. وهو يعرض لنا خلاصة خبرته وتجاربه عبر أفلامه التي تعتبر بمثابة صرخة احتجاج على ما يجري في العالم. هانيكه الذي يمكن اعتباره أحد أهم مؤلفي الأفلام من المخرجين الأوروبيين، يبدو وكأنه يصنع فيلما واحدا ممتدا منذ أن بدأ الإخراج السينمائي. وهو على العكس من مظهره الوقور، يتمتع بروح المرح ويميل للمزاح، ويعتبر إخراج الافلام أكثر متعة من مشاهدتها.

مضى 43 عاما منذ أن بدأ هانيكه إخراج الأفلام، وقد أنجز حتى الآن 25 فيلما من بينها عشرة أفلام للتليفزيون، وفيلم تسجيلي طويل، وحلقتين من مسلسل تليفزيوني، أي أن افلامه “السينمائية” الخالصة 12 فيلما أهمها دون شك وأكثرها شهرة، “شيفرة مجهولة” (2000)، “معلمة البيانو” (2001)، “كامن” (2005)، “ألعاب مضحكة” (2007) (هذا الفيلم إعادة إخراج في نسخة أميركية من فيلمه السابق بالعنوان نفسه أخرجه عام 1997)، ثم “الشريط الأبيض” (2009)، وبعده جاءت التحفة “حب” (2012). بعد الفيلم الأخير أخرج هانيكه فيلما واحدا للتليفزيون، ورغم أن الفيلم ناطق بالإيطالية إلا أنه ليس من الانتاج الايطالي بل اشتركت في إنتاجه شركات من ألمانيا وفرنسا واسبانيا وبلجيكا، ولم يكن يمكنه أن يصنعه بلغة أخرى، فهو مقتبس من السرد المسرحي الذي كتبه لورنزو دا بونتي لأوبرا موتسارت “كوسي فان توتي” (أو “كلهن كذلك”) من عام 1790. ويروي الفيلم بأسلوب سلس، كيف يقع شابان في غرام فتاتين شديدتي الفتنة والجمال ثم يتدخل رجل ثري هو دون الفونسو الذي لا يؤمن بالحب، ويراهنهما على أن بوسعه إثبات أن الفتاتين غير مخلصتين بل تمارسن الخيانة مثلهما مثل سائر الفتيات. ويقبل الشابان الرهان بل ويرحبان بخوض تلك المغامرة.

يبدو هذا العمل بعيدا عن معظم أعمال هانيكه المهموم عادة بمشاكل الفرد في إطار الأسرة، والأسرة في إطار المجتمع ككل، وفي علاقتها بالعالم من حولها، خاصة عندما تريد أن تغلق الأبواب على نفسها لكنها تفشل في النأي بنفسها عن المشاكل. وأفلام هانيكه رغم طابعها الاجتماعي تتضمن عادة جرعة من الرعب عن طريق الصدمة، وهو يتعمد أن يصدم لكي يفتح عيون مشاهديه على الواقع الإنساني القاسي.

الكشف عن الماضي

يبدو فيلم “كامن” (أو خفي)Hidden  للوهلة الأولى كما لو كان أحد أفلام الإثارة البوليسية، فعناصر الفيلم البوليسي المشوق تبدو متوفرة ومنهاالحبكة التي تدور حول أسرة من الطبقة الوسطى الفرنسية، الزوج “جورج” المذيع التليفزيوني الناجح، وزوجته “آن” التي تعمل محررة في إحدى دور النشر، وابنهما الصغير، هذه الأسرة تتلقي شرائط فيديو تصور المسكن الذي تقطن فيه الأسرة من الخارج، ثم مكالمات هاتفية غامضة، ثم تصلها شرائط تصور أشياء تحمل إشارات من الماضي، تحديدا من حياة “جورج“، وهي أشياء كان قد أغفلها أو نسيها وتناساها تماما. ولكن من اين تأتي هذه الشرائط؟

في فيلم “كامن” كشف هانيكه الماضي المؤلم لبطله

تصاب الأسرة الصغيرة بحالة من الفزع، ثم يبحث الزوج عمن يكمن وراء تلك التهديدات الغامضة، ثم يختفي الابن الصغير “بييرو” بعد خروجه من المدرسة وتنقطع أخباره. لكن كعادة أفلام هانيكه، لا تكون هذه العناصر سوى حيلة لاستدراج المتفرج إلى الموضوع الذي يتناول قضايا أعمق وأكثر تعقيدا، فشرائط الفيديو التي يتعاقب وصولها إلى عتبة المسكن تستدعي الماضي الكامن داخل جورج، فتتراجع تدريجيا ثقته في نفسه، ويوشك على الانهيار. وتحت وطأة الأحداث المتعاقبة تنهار علاقة الزوجين التي بدت لنا في البداية مثالية، بعد أن تنكسر قشرة السعادة الظاهرية للأسرة.

يكشف الفيلم تدريجيا عما هو “كامن”، من ماضي جورج في علاقته بأسرة جزائرية كان مسؤولا- على نحو ما- عما بلغته من مآساة. ويستخدم هانيكه الحيلة لكي يكشف عن المخفي والمسكوت عنه، ويلمس بقوة عقدة الذنب الفرنسية إزاء الجزائر، والعلاقة الشائكة المعقدة بين الشمال الغني والجنوب الفقير، ينتقل من الخاص الفردي إلى العام الجمعي، فجورج الذي يواجه مسؤوليته الآثمة عما وقع في الماضي موهما نفسه بأن ما فات قد ولى وانقضى وليس هناك أي للتفكير فيه أو استدعائه، يختصر فرنسا التي تهرب من مواجهة ماضيها.

ورغم البناء المنسوج ببراعة ، ورغم السيطرة المدهشة على كل جوانب الفيلم من ناحية الإخراج بحيث يشعر المشاهد بنوع من “التنويم” الإيحائي وهو يتابع ما ينشأ مع تعقد الحبكة والكشف عن مزيد من الطبقات التالية المرتبكة بالماضي، يفاجئ هانيكه جمهوره بصدمة قاسية عنيفة في النهاية على عادته في أفلامه التي تنتقل من البراءة إلى العنف، ومن النعومة والانسجام إلى القسوة. أليس هذا ما ينتهي إليه فيلمه الأشهر “حب”.

رفع فيلم “حب” صاحبه إلى مرتبة عظماء السينما

القتل حبا

هنا أيضا هناك زوج وزوجة، جورج وآن، وهما من الموسيقيين المخضرمين، وقد بلغا الآن الشيخوخة، وأصبحا يقفان على عتبة الموت. لديهما إبنة وحيدة لا تقيم معهما هي “إيفا” تقوم بزيارتهما أحيانا. بعد عودتهما من حفل موسيقي تصاب آن بجلطة تقعدها وتصبح مشلولة كما تفقد الذاكرة. تنتقل آن الى المستشفى حيث تتلقى علاجا ثم تعود الى المنزل لكي يرعاها جورج، يعد لها الطعام والشراب، يدلك لها ساقيها، يراود كليهما الأمل بأنها يمكن أن تستعيد عافيتها. لكن حالتها تزداد سوءا.

الحدث بأكمله يدور خلال ساعتين (هي زمن الفيلم) داخل شقة الزوجين المحبين اللذين تربطهما ذكريات طويلة مشتركة. الحب يوحد بينهما رغم الألم الذي تعانيه الزوجة. يتمسك جورج حتى النهاية برعاية زوجته. لكن تدهور حالتها وزيادة معاناتها يجعله يقدم على الفعل القاسي الصادم، القتل الرحيم بالطريقة المتاحة أمامه، ثم يغادر المنزل ليعود بباقة من الورد ثم يجلس لكي يكتب رسالة بعد أن يسد منافذ الشقة كلها بالأشرطة اللاصقة حتى لا يتسرب الغاز الذي سينهي به حياته على ما يبدو.

هل كان هذا هو الحل الوحيد المتاح أمام جورج، ولماذا، وما الذي أوصله لذلك بعد أن ظل طويلا يرعى زوجته؟

هانيكه يطرح في أفلامه الكثير من التساؤلات التي لا يجيب عنها، بل يتركها للمشاهدين. فهدفه ليس تحديد الأسباب أو معرفة الجاني والمسؤول وتقديمه للعدالة مثلا (في حالة فيلم “كامن”)، فما هي العدالة، وهل هناك جريمة أصلا، أم أننا أمام “فكرة” تقوم على عناصر تتوازن مع بعضها البعض لكي نتعرف من خلالها على صورة أعمق واشمل لما يدور في العالم؟

ما هي حقيقة ذلك الإرهاب الذي يتحدثون عنه في الفيلم، من المسؤول عنه، ومن أين أتى، وهل هناك فكرة أحادية مجردة تجيب عن كل شئ؟   وما معنى الحب، وهل يمنع الحب العجز، وهل بوسعه أن يتغلب على مآسي الحياة المفاجئة، أليس من حق الإنسان أن يضع حدا لماساته من تلقاء نفسه، أم أن من الأفضل أن يترك نفسه خاضعا لأهواء القدر؟

في أفلام مايكل هانيكه لا يوجد تفسير درامي سهل واضح معتاد، بل تساؤلات مقلقة ومضنية تنطلق من منطلقات أخلاقية لتصل إلى آفاق تتعلق بالوجود الإنساني نفسه ومغزاه، في علاقته بالآخرإنها سينما قلقة معذبة تفتح الأبواب لتدخلك معها، غير أنها لا تكشف لك تماما عما في الداخل.

 يقول هانيكه: “في كل أفلامي أفحص ماهية الحقيقة في السينما والإعلام. وأشك كثيرا في يكون بوسع المرء العثور على الحقيقة من خلال مشاهدة فيلمودائما ما أقول إن الفيلم الروائي هو 24 كذبة في الثانية، وهي أكاذيب قد تروى بغرض الوصول إلى الحقيقة، بيد أن الأمر ليس كذلك دائما“.

في المشهد الأخير من فيلم “كامن” يعود الزوج جورج إلى مسكنه، يتناول قرصين من الأدوية المهدئة، يتصل بزوجته هاتفيا ليقول لها إنه يرغب أن ينال قسطا من الراحة، ويود ألا يزعجه “بييرو” عندما يعود، ثم يتجه إلى نوافذ الحجرة فيسدل الستائر السميكة فوقها، ويدلف إلى الفراش، يغطي نفسه جيدا ويرقد في الظلام.. لقد عاد إلى التقوقع على نفسه ورفض مواجهة الضوء، وفضل أن تبقى الأشياء مخبأة مدفونة. أما جورج في “حب” فهو يفضل الهرب من الحياة على الاستمرار في مواجهة قسوتها على المرأة التي أحبها بكل جوارحه.

حصل فيلم “الشريط الأبيض” على السعفة الذهبية

الشريط الأبيض

وفي فيلم “الشريط الأبيض” يروي هانيكه قصة تدور قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، أبطالها مجموعة من الأطفال ينشأون في أسرة بروتستانتية ألمانية شديدة التزمت. تتم تنشئتهم لكي يتلقوا الأوامر- كما يقول في أحد مقابلاته- ويصبحوا خاضعين لها. “إنهم يهيئونهم لتعلّم كيفية القبول بالسلطة، حتى وهم يصرّون بأسنانهم. لكن التربية والتعليم دائماً يعني ترويض حرية الفرد بحيث يتمكن المرء من الإندماج في المجتمع. الأطفال في الفيلم يحولون المُثل العليا عند الآباء، بشأن تنشئة الأطفال، إلى شيء مطلق، إلى حقيقة مطلقة، حتى ولو لم تجلب لهم أي سعادة أو بهجة”.

كثير ممن شاهدوا الفيلم فهموا أن هانيكه يشير في حقيقة الأمر، إلى ما وقع لجيل النازية في ألمانيا، فبعد عشرين عاما سيصبح هؤلاء الأطفال عمادا للفاشية الألمانية وسيمارسون بدورهم عنفا أشد مما مورس عليهم أو شاهدوه من حولهم في القرية العجيبة التي كانت تشهد أحداثا غامضة. لقد أراد أن يصور كيف يتحول التشدد إلى أيديولوجيا مدمرة.

أسلوب هانيكه غير تقليدي رغم أن مسار السرد عادة ما يكون تقليديا،  فالسرد في أفلامه يسير الى الأمام، دون القفز بين الأزمنة والأماكن، ودون أن يعتمد على التداعيات أو على تداخل عناصر أخرى من خارج الصورة، كما أنه يبدو مخلصا للتكوين الكلاسيكي، للمشاهد التي تدور داخل ديكور واحد محدد المعالم، ويلتزم بتصعيد الحدث حتى يصل الى نهايته “الذهنية” لا “الآلية” التى تبدو كـ”خاتمة”، فالخاتمة عند هانيكه قد تكون بداية لحالة أخرى جديدة “ذهنية” يريد أن ينقلها أو يجسدها للمشاهدين.

 لذلك نقول إن أسلوبه “غير تقليدي” رغم تقليديته الظاهرية. إن صوره ولقطاته تخفي أكثر مما تظهر، أو تشير من ظاهرها الى ما يوجد في باطنها من دلالات، ولذلك فهو أقرب الى برغمان، منه إلى أي مخرج آخر ظهر من قبله. ولأفلامه إيقاع خاص، بطئ، ممتد، متعمد لكي يتيح للمتفرج مساحة للتأمل، للإحاطة بتفاصيل المكان، وهو لذلك يعتمد على التكوين وعلى أداء الممثلين، وعلى الكاميرا الثابتة واللقطات التي تستغرق مدة أطول من المعتاد على الشاشة بغرض اتاحة مساحة للتأمل، خصوصا وأن الانتقال من لقطة الى أخرى، لا يتم حسب تتابع الحوار بل يتجاوز هذا إلى الابقاء على اللقطة حتى بعد أن يتوقف الحوار.

مايكل هانيكه دائما ما يدخر لنا الكثير من المفاجآت في أفلامه. وما علينا سوى أن ننتظر قليلا إلى أن نشاهد فيلمه الجديد.

Visited 44 times, 1 visit(s) today