عن الفيلم القصير “مانيكان”: إحدى عشرة دقيقة من السينما
يعتمد الفيلم القصير “مانيكان”- سيناريو واخراج مراد مصطفى- على إلقاء المتفرج في عالمه الضيق جداً، اللافظ، والملفوظ، خارج رحابة الوجود، يضعه في حفرة صغيرة للغاية ، عميقة، ومهجورة، لا يعبأ بها أحد.. وهو لا يكتفي بعملية الإلقاء تلك، إنما يتعمد إلغاء سبل الخروج من حيز هذا العالم العبثي.
بين هذه الجدارن الأربعة، التي لا نشاهد غيرها، تدور أحداث الفيلم، باستثناء المشهد الأخير. ثمة صور كثيرة للنساء، مقصوصة بارتعاش، ومُعَلقة على الحائط، بالكثير من التيه، في هذه الحجرة، التي ليس فيها أثاث تقريباً، سوى الفراش المنهار تماماً، توجد تفاصيل حياة هذا الشاب، الذي سنعرف فيما بعد أن لديه، هوسا بالمانيكانات، مجازاً عن الهوس الجنسي المكبوت بالنساء. هذا الشاب الذي يجسده، عمر مدبولي، يشبه كثيراً ما يرتديه: القميص المهندم من فوق، على البنطال القصير من أسفل، الذي يغطي رجلين ضعيفتين.
تركز الكاميرا على العينين الذاهبتين في كل اتجاه، العائدتين دوماً بخيبة، في حديث يبدو داخلياً، عن هذه الطفولة الملفوظة من الآخرين، وصوت متأرجح بين الانكسار مرة، والثقة بالذات المُفتعلة، والمثقوبة مرة أخرى.
باستثناء ظلال تيه مشابه، لدى الممثل ذاته، مدبولي، يبدو الأداء، مُعبراً، متأثراً كما حال الفيلم كله، بشخصية قناوي في فيلم “باب الحديد”.. تلعثمه في النطق، والرقة المفرطة التي تتجلى أحياناً. مع ذلك، ثمة فارق رئيسي بين البطل وقناوي، كما قرر كاتب القصة عبد الله خالد والمخرج مراد مصطفى، إن البطل هنا مثقف، صاحب ذائقة رفيعة، ومسكون بالتساؤلات اللامتناهية، والتي تنتحر دائماً قبل الوصول لإجابات.
مخرج الفيلم مراد مصطفى
“بتخافي من النار؟” سؤال يطرحه البطل على المانيكان، في جلسة البوح النازف هذه، يختزل الهاجس الديني، وتساؤلاته الأبدية، ويفتح أقواسا غير مغلقة، عن علاقة ليست مفهومة، وربما ليست مكتملة بالخالق.. ومنه ينتقل إلى الشعور الراسخ بالنبذ مرة ثانية، حين يعنّف البطل المانيكان على فتور ردودها عليه، ويحاول كما يظن أن يدفع بسخاء أكثر مقابل هذه اللحظات، التي يصورها لنفسه رائعة. يستخدم أنغام أغنية شهيرة لإديث بياف، ليحقق، ما يشبه حلما قديما في الرقص، مع امرأة، لها ملمس ناعم، وشفاه شهيّة ككل النساء، تنساب الموسيقى فتملاْ هذا الخواء النفسي الكبير فيما حوله، وحين تنتهي، ويحدث أن يداعب البطل امرأته، كمقدمة لمضاجعتها، سنكون أمام نقطة أخرى في عملية تجسيد الهوس، ومعاشرته في الفيلم. لا مشهد موجِع أكثر من هذا.. ولا شيء يؤنس البطل أكثر منه أيضاً، على الأقل في لحظات الاستغراق الإغمائي في الممارسة الذاتية، من أجل إكمال الحالة المفقودة، أو المُفتقدة في حياة البطل المرفوض والمقصي.
فيما بعد سيكون هناك، هذه المواجهة بينه وبين الذات، عن كُنه الفعل، وشذوذه ربما، والظن، أن حالة المواجهة هذه لم تضف جديداً لإحساس المتفرج، قدر ما فصّلت الانفعال وشرحته، وكان يمكن للقفز فوق هذا التتابع أن يزيد من قوة تأثير العمل.
بالأخير سيبوح لنا الفيلم، ويكشف ستر البطل حين سنعرف أن النساء اللاتي يشتريهن، أو يشتري سعادته معهن كلهن، دُمى، مانيكانات .. وربما أنه لم يعرف امرأة حقيقية واحدة في حياته، لذا نحن، سنرى في الكادر، حين يقف البطل حاملاً الأجزاء المنفصلة التي تكوّن المانيكان، صورة سينمائية، مرسومة بدقة لمانيكان يحمل مانيكان.
فيلم “مانيكان” يقدم نَفَسْاً سينمائياً بِكراً وواعداً، وهو عمل فني ينطوي على تساؤلات عديدة إنسانية، ووجودية، لا تقف على حدود وطن أو مكان، وحسناً فعل حين لم يقدم بطله باسم معين، لأنه يمكن أن يكون أي أحد وليس أحداً بالذات.
هكذا يكثّف الشريط القصير زمنياً اهتمامه على عمليتي التفكير والشعور، أكثر من اهتمامه بتقديم إجابات وافية أو أفكار سابقة التجهيز، وهذه النقطة بالذات، يفتقدها صُناع سينمائيون عديدون، وتفتقدها الصناعة كلها، وتشتهيها السينما جداً.