“عشمْ” .. سينما كبيرة عن تفاصيل صغيرة
ربما يكون أهم ما يميز الموسم السينمائى المصرى لعام 2013 هو الحضورالقوى لجيل جديد من المخرجات الواعدات، بالأمس كنا مع تجربة نادين خان الأولى فى فيلم “هرج ومرج”، واليوم تدهشنا ماجى مرجان بفيلمها الروائى الطويل الأول “عشم”، تنجح المخرجتان فى تقديم سينما مختلفة من تفاصيل صغيرة، واقعية بالتأكيد، ولكنها لا تصدر أحكاماً أو تدين أو تقول كلاماً كبيراً عن الطبقات والحراك الإجتماعى، ولكنها تخلق معناها وغزاها من المشاعر والأحاسيس والأماكن والحالات، ترسم حدود الأزمة، ولكنها تفتح للأمل طاقة من النور.
يمكن أن تضع فيلم “عشم” بالذات ضمن ما أطلقت عليه “الواقعية المتفائلة”، تتعامل هذه الواقعية بأمانة مع هموم الناس العادية، ولكنها تقول، فى نفس الوقت، إنهم ينجحون على نحو ما فى تكييف أمورهم، لهذه النظرة أساس قوى فى الواقع المصرى، فرغم الهم والغم المتواصل، إلا أن الناس لا تفقد عشمها، تؤمن بأنه: “مابين طرفة عين وانتباهتها يغيرّ الله من حال الى حال”، وتثق فى إن “غداً يومٌ آخر”، و”الصباح رباح”، و”بكرة ربنا يعدّلها”، حالة من العشم فى تغيير الحال، وما العشم إلا الأمل وقد امتزج بالرجاء.
التقطت ماجى مرجان هذه الحالة، وكتبت أحد أفضل سيناريوهات العام، ثم صنعت من خلال وجوه جديدة ما يقترب من ورشة للإرتجال والإضافة، وفى مصنع كبير هو حجرة المونتاج، قامت بإعادة بناء حكاياتها الصغيرة على شريط واحد متماسك الى حد كبير، فأصبح لدينا أفضل أفلام الموسم السينمائى حتى الآن.
صعوبات وحلول
رغم ارتفاع سقف الطموح، إلا ان الفيلم نجح فى تجاوز صعوباته الواضحة، الصعوبة الأولى فى رأيى أن تحكى عن مستويات إقتصادية واجتماعية مختلفة، وأن تصنع خطوطاً بين شخوص من طبقات متنوعة، وقد نجح الشريط فى يحقق ذلك بمهارة، ليس فقط من خلال لقاءات الصدفة بين الشخوص، ولكن من خلال الإشتغال على المشاعر والأحاسيس المتقاربة.
الصعوبة الثانية فى تقديم بناء سردى معقد عن مشاعر بسيطة وعادية، وهنا أيضاً نجاح واضح أساسه فى رأيى الإعتماد على وجوه جديدة غير مستهلكة، واشتراك الممثلين فى التعبير عن الشخوص المكتوبة بحرية، ونجاح مونتاج أحمد عبد الله وهشام صقر فى الإحتفاظ بما هو ضرورى فقط، والإستغناء عن كل ما لايلزم، وهو جهد كبير واضح وملموس، والفشل فيه كان يمكن أن يهدم التجربة بأكملها.
الصعوبة الثالثة التى تجاوزها فيلم “عشم” هى ضبط التأثير العاطفى بميزان خاص، هناك فى الحواديت ما قد يغرى ببكائية زائدة، أو خفة واستخفاف كاريكاتورى، ولكن السرد البارع يجعلك تعيش كل الحالات، ولكنه يسمح فى نفس الوقت بالتأمل والتفكير، يقول لك: هؤلاء ناس عاديون مثلك تماماً، مازالوا يحتفظون بالعشم، رغم ظروفهم، فلماذا لا تفعل أنت؟ ألم تر مثل هؤلاء حولك؟ هل عرفت يوماً حكايتهم؟ هذه الطريقة الحميمة فى التناول تجعلك جزءاً من تجربة، دون أى ادعاء أو شعارات كبيرة.
وهناك صعوبة رابعة هى خطورة الإنزلاق الى المباشرة والأحكام المطلقة، وليس فى “عشم”، مثل أى عمل ناضج، شئ من ذلك، هناك تعاطف لاشك فيه مع الجميع، ولكن كل حالة تعيش وفق قيمها وأفكارها، والأهم من ذلك، أن المشهد ليس ما يقوله الحوار المقتصد، ولكن ما تقوله الصورة بكل مكوناتها، هناك لغة متضمنة فى مشاهد كثيرة من الإيماءات والنظرات وحركات الأيدى، تعطى أضعاف معنى الحوار: نظرة ممرضة الى طبيب، حركة أصبع يتجه الى السماء، يد تهتز على إيقاع أغنية لنجيب الريحانى وليلى مراد، نظرة صارمة تراقب خادمة تمسح الأرض، ونظرة مواسية من الخادمة لرئيستها المريضة، يمتلك “عشم” بناء بصرياً ثرياً أنقذه من مباشرة زاعقة أو من واقعية خشنة وجارحة.
قصص قصيرة
يقوم السرد على تضفير عدة قصص قصيرة معاً، نشعر بمرور زمن قصير، وعندما تكتمل كل القصص ينتهى الفيلم، القصة القصيرة بها لحظة تحول يطلقون عليها لحظة التنوير، إكتشاف الشخصية لنفسها أو لأزمتها، ونجاحها فى حلها، الوعى الوحيد الذى يربط بين شخوص فيلمنا، هو اكتشافهم لمعنى الأمل والعشم، هناك قوة ما يمكن أن تغير حياتهم وتساعدهم، دون أن يتوقفوا هم فى نفس الوقت عن المحاولة.
ومثلما يبدو التفاؤل فى معنى الفيلم، فإنه يظهر أيضاً فى الأسماء (ابتسام، رضا، عشم)، أما القصص القصيرة فهى بسيطة التفاصيل ولأشخاص عادية : رضا عاملة الحمام القادمة من قليوب، تعمل فى مول فاخر، تعانى من غطرسة رئيستها المريضة، ولكن مصطفى عامل الأمن يفتح لها باب الحب والعشم، وتفتح له أبواب الطموح، تكتشف أيضاً أن رئيستها تخفى خلف قناع الصرامة، قلب أم رقيقة، تكتشف رضا نفسها والآخرين، تنتقل الى العمل فى محل للملابس.
نادية، إمراة فى منتصف العمر، زوجها عماد ينتظر نتيجة التحاليل الطبية، يعانى إرهاقاً فى العمل، ما بين قلق الإنتظار، ومتاعب الأولاد، ، تعيد نادية الإهتمام بزوجها، تلجأ الى الكنيسة، تدعو وتقدم نذورها إذا أنقد الله زوجها، تحاول أن تشاركه فى هواياته، تستعيد الأمل بنتائج تحاليل ممتازة، تنتصر على مخاوفها فى تعلم قيادة السيارات.
مجدى طبيب شاب، ابتسام ممرضة ريفية طموحة، تعشق أشعار صلاح جاهين، جاءت من المنيا لتهزم المدينة، تستعير من مكتب الطبيب رباعيات جاهين، فى نظراتهما ما يشى بما هو أبعد من الكلمات، خيط إنسانى رقيق يولد، عندما يسافر فى منحة علمية، تتعهد له برعاية والدته العجوز طبياً، لديه فتاة يتحدث معها تليفونيا، ولديها كارنيه ممرضة، وكتاب يمتلئ بالصدق.
نادين امرأة متزوجة، ينقصها الطفل، زوجها رمزى يحاول أن يخفف عنها آلام الإحباط فى كل مرة تحمل فيها، جارهما عادل يجعلها تعيد اكتشاف الحياة، يسافر الى كل مكان، يمتلك روحاً متفائلة، يترك لها شقته لكى ترعى النباتات، تكتشف أن ولادة الأمل بداخلها، واحتفاظها به، قد يكون أهم من أن تلد طفلاً.
داليا فتاة تحب الحياة والفن، فى حياتها عاشق رومانسى يريدها أن تذهب معه الى حيث عمله فى ماليزيا، ثنائى رائع يتعامل مع الحياة بانطلاق، ربما كانت المشكلة فى أنه ثنائى يليق بالحكايات الرومانتيكية، ولكن داليا لا تكتشف نفسها إلا مع طفلة وجدتها فى الملاهى، والد الطفلة تركها، وسافر الى ليبيا، أما صديق داليا فلا يجد نفسه إلا فى السفر.
فريدة فتاة من طبقة ثرية، ولكنها تحمل تعاطفاً مع الغلابة والبسطاء، فى العجمى تتعرف على شاب وصديقه، يعجب بها الشاب ، ولكنهما يختلفان فى نظرتهما للناس، تتركه لتسافر ثم تعود، عندما يراها صديقة بالصدفة، يخبره بعودتها، ربما يستعيد صديق داليا العشم أن تعود إليه من جديد.
عشم اسم لشاب مصرى على باب الله، تجده دوماً فى الشارع، يرتدى أقنعة الشخصيات المحببة لدى الأطفال، ويبيع البالونات الملونة مع أن حياته خالية، لازوجة ولا طموح سوى أن يقابل محمد أبو تريكة لاعب الكرة الشهير، تقبض عليه شرطة المرافق لأنه يبيع فى الشارع بدون ترخيص، أخيراً يجد عملاً فى مصعد أحد الفنادق الفاخرة، بالصدفة يلتقى مع الممرضة إبتسام، على الرصيف يطلب من الله أن يعدّل الحياة الملخبطة، يتواعدان على لقاء، ينتقل العشم الى المتفرج، نتمنى نحن أن يتزوج عشم من ابتسام، تنغلق دائرة حواديت الفيلم البديع.
الميلودى والتنويعات
الميلودى هو العشم والأمل والرجاء، والتنويعات هى الحكايات، ليست كل الحكايات بنفس القوة بالتأكيد، ولكنها جميعا تؤدى عبر الإيماءات والنظرات وحركات الجسد والأيدى، وبأقل قدر من الحوار، وباقتصاد فى الموسيقى، ربما تخرج عن التنويعات كلها شخصية الرجل المضطرب نفسياً، الذى يرتدى الأسمال البالية فى الشارع، والذى يحاول الإنتحار فى أحد المشاهد من بناية عالية، والذى يقوم بفرقعة البالونات التى يحملها عشم، الشخصية طريفة حقاً، وربما كان الهدف منها تقديم حالة لشخص لم يتمسك بالعشم، فهزمته الحياة، ولكن الشخصية كانت فى حاجة الى مشاهد إضافية لإبراز هذا المعنى، إذا كان ذلك هو المقصود فعلاً.
تتقدم الأحداث من الحاضر الى المستقبل، باستثناء قصة داليا التى نراها أولا فى مشهد مع صديق يلتقيها صدفة، ثم نستعيد قصتها فى العجمى، ثم نعود فيما بعد الى تكرار مشهد لقاء الصدفة، لابأس من اللعبة، وجدت فيها مشاكسة للمتفرج لكى يكون يقظاً، أحب الأفلام اليقظة التى تفترض فى متفرجها الذكاء لا الغباء، إليك قطع الدومينو، رتبها أنت وأصنع منها ما تشاء، وستصل الى نفس الحالة من التفاؤل والثقة.
ومن باب اليقظة أيضاَ أن تلتقى الشخوص بالصدفة، لسنا هنا بصدد لعبة مجانية، ولكن المعنى الأعمق من اللقاء المباشر هى أننا كبشر أقرب كثيراً مما نتصور، وأن مشاعرنا توحد بيننا، كل إنسان يستطيع افتراضياً أن يلتقى مع الآخر، يتعاطف معه ويفهمه، مصائرنا تتقاطع حتى لو لم نفهم ذلك، هذا هو معنى فيلم هام مثل “بابل”، وهذا هو معنى تلك اللقاءات التى تجمع بين نادية ونادين فى الكنيسة (أحد أفضل مشاهد الفيلم)، أو بين عشم وابتسام على الرصيف، أو بين عشم ورمزى، زوج نادين، فى الشارع، وكلها مصادفات ذكية ومؤثرة، وتم استغلالها درامياً بصورة جيدة جداً.
سعادتى كبيرة أن يكون هناك سيناريو مميز على هذا النحو، ولكن سعادتى أكبر بنجاح ماجى مرجان فى تنفيذه وإعادة بنائه مونتاجياً، وفى إدارة ممثليها الذين وصل بعضهم الى درجة الإمتياز، أتحدث تحديداً عن الممثلة البارعة التى لعبت دور رضا، بابتسامتها وحركة يدها وتعبيرات وجهها، وعن الممثلة الرائعة التى لعبت دور إبتسام، وعن سهام عبد السلام التى لعبت دور أم عطية، إحدى أجمل شخصيات الفيلم من حيث الثراء والتأثير، هناك أيضاً الممثلة شديدة الحساسية التى لعبت دور نادية، والتى هزتنى من الأعماق فى مشهد الكنيسة، هناك بالطبع ممثلون معروفون مثل محمود اللوزى فى دور عماد، وسلوى محمد على فى دور من مشهد واحد لسيدة ثرية تتطوع للعمل الخيرى، ولكنها تحتقر الفقراء، وتتأفف منهم، والمخرج محمد خان الذى أضفى على دوره الكثير من البهجة والحيوية، رجل يعيش حياته بالأمل، كان واضحاً أن خان سعيد بدوره وبالفيلم كله، إنه فى الحقيقة فيلم ينتمى الى عالمه، الواقعية غير الخشنة التى لا تغلق أبواب الأمل: الهروب الى اللون الأخضرفى “خرج ولم يعد”، ومباراة العمر من أجل الإبن فى “الحريف”، ومشهد الشاطئ بالعثور على الطفلة أحلام فى فيلم “أحلام هند وكاميليا”، كتبت يوماً عن فيلم “حين ميسرة” إنه فيلم كان يحب أن يخرجه “عاطف الطيب”، أستطيع بالمقابل أن أقول إن “عشم” فيلم كان يمكن أن يخرجه محمد خان.
كانت صورة رءوف عبد العزيز ثرية، رغم الظلال ومساحات اللون الأسود فى أوقات الإنتظار والأزمة (كما فى مشاهد نادية وعماد فى منزلهما)، إلا أن مساحات النور فى المشاهد الخارجية كانت تحقق التوازن (مشاهد العجمى ومدينة الملاهى وميدان رمسيس ليلاً)، هناك جدل بصرى طوال الوقت بين الألم/ الأسود، والعشم/ الأبيض والألوان المتنوعة، هناك أيضاً لمسة تسجيلية فى مشاهد الشارع منحتها نبض الحياة، ومرة أخرى لابد من الإشادة بدور المونتاج الذى لملم شتات الحكايات، ومنح الفيلم هذا الإيقاع المتمهل الذى يتيح التأمل والرؤية الأعمق، أحمد عبد الله السيد أحد مونتيرى الفيلم هو المخرج الموهوب صاحب الفيلم الرائع “ميكروفون”، ومساهمته فى المونتاج فقط تستحق التحية والتقدير، ولاشك أن السيناريو يستأهل مشاركته أيضاً.
إذا كان جيل بهيجة حافظ وأمينة محمد وفاطمة رشدى قد حفر اسمه كجيل المخرجات الرائدات، وإذا كانت ماجدة الصباحى قد صنعت تجربة إخراجية يتيمة، وإذا كان جيل إيناس الدغيدى قد أعاد المرأة الى الإخراج، فإن جيل ساندرا نشأت وهالة خليل و كاملة أبو ذكرى قد رسخ هذه المكانة، أما جيل نادين خان وماجى مرجان فهو يقدم بحساسية كبيرة رؤيته للواقع بلا صخب أو ضجيج، سينما كبيرة من تفاصيل صغيرة منسوجة مثل خيوط الحرير: فيلم عشم مثلاً يقول لنا إن هناك من فقدوا كل شئ، ولكنهم تمسكوا بالأمل، نظروا الى السماء وطلبوا منها أن تتدخل، فانطلقت البالونات الملونة وسط السحاب، تقول ماجى مرجان لنا، وببلاغة مؤثرة : الفقدان الحقيقى هو فقدان العشم، وليس أى شئ آخر.