عالم وسينما المبدع الراحل أنجلوبولوس: رواية لم تكتمل
لم أجد أبلغ وأجمل من تلك الكلمات التي كتبها الناقد والشاعر المبدع البحريني أمين صالح عن المخرج اليوناني الكبير ثيو انجلوبولوس الذي رحل عن عالمنا أخيرا بطريقة عبثية لا تفسير لها بينما كان يصور مشاهد أحدث أفلامه، وهو الي عرف برواية قصص غير مكتملة. وكأن عدم الاكتمال كان يجب أن يكون خاتمته هو نفسه.
ثيو أنجيلوبولوس، المخرج اليوناني، صوت فريد في عالم السينما، ويعد واحداً من رموز السينما “الفنية” الحديثة، ومن أكثر السينمائيين أهمية وتميزا، وإثارةً للجدل أيضا، في السينما العالمية المعاصرة.
إنه ينتسب إلى نخبة من المخرجين القلائل الذين ينطبق عليهم التعريف الكلاسيكي لـ “مبدع الفيلم” أو “المخرج المؤلف”، إذ كل لقطة، من كل مشهد، من أي فيلم حققه، تعبّر عن رؤيته الفنية والفكرية، وتعكس شخصيته الفنية، على نحو يتعذّر محوها أو إزالتها. إن نظرة عجلى إلى أي فيلم له، وفي أي موضع يتم اختياره من مسار الفيلم، ستكون كافية للكشف عن هوية المبدع الذي حقق هذا العمل الفني.
في السبعينيات انبثق هذا المخرج كواحد من أكثر الأصوات أصالة وجدّة في عالم السينما. انه واحد من المخرجين القلائل في القرن الأول للسينما الذين يجبروننا على إعادة تحديد ماهية السينما وما يمكن أن تكونه. ليس هذا فحسب، فأفلامه تجعلنا ننفتح على سؤال أكبر أعمق، والذي يغدو شخصيا بالنسبة لكل منا: كيف نرى العالم بداخلنا وحولنا؟
ثيو أنجلوبولوس
بطريقة أو بأخرى، يمكن اعتبار أفلام أنجيلوبولوس “محاولات” لخلق أفلام، لصياغة نوع من الاتصال، لإعادة بناء الواقع والمخيلة والتاريخ والأسطورة.
الروائي ميلان كونديرا في كتابه “فن الرواية” يشعر بأن غاية الرواية هي “أن تكتشف ما تستطيع الرواية وحدها أن تكتشفه”.
أفلام أنجيلوبولوس تعمل بطريقة مماثلة: إنها تكتشف لنا ما تستطيع السينما وحدها أن تكتشفه (مع أنها نادراً ما تفعل ذلك). مثل هذه الاكتشافات غالبا ما تكون مربكة، خاصة لجمهور اعتاد على الإيقاع السريع والحبكات الهوليوودية الموجهة.
هو من أكثر المخرجين اليونانيين شهرة وتأثيرا. أفلامه حازت على العديد من الجوائز الكبرى في المهرجانات العالمية، وتم الاحتفاء به كواحد من القلة العظام في تاريخ السينما..لكن خارج تلك الدوائر السينمائية، لا يبدو أنجيلوبولوس معروفا جيدا لدى الجمهور العريض، وحتى في بعض الأوساط السينمائية، إذ يعتبر من أولئك المخرجين “الصعبين”، ذوي الرؤى العميقة الخاصة، والأساليب التي لا تتوافق مع الذوق العام السائد بفعل هيمنة الأعمال الاستهلاكية.
إنه ينتمي إلى تلك النوعية الجادة من السينمائيين الذين يتعاملون مع الجمهور باحترام، دونما رياء أو تملّق، ناشدين المشاركة الفعالة فكريا وتخيليا، وذلك عبر بلاغة بصرية ورؤية واعية وثاقبة للحياة وللعالم.
عدم “جماهيرية” أفلامه ناشئة من اهتمامها بموضوعات فكرية وفلسفية عميقة (تتصل بالحياة والموت، الذاكرة والندم، التاريخ والهوية، الفن والغربة) وابتعادها عن الجماليات السائدة في السينما المعاصرة (بالأخص في هوليوود) التي تعتمد على المؤثرات الخاصة والتقنيات الرقمية (ديجيتال) والنجوم.
أفلامه تدعو إلى التأمل لا الإثارة والتشويق. إنها تمزج عناصر من الاتجاه الكلاسيكي والاتجاه الحداثي، معتمدة على إيقاع مغاير يتسم بالبطء والتريث عبر لقطات مديدة تستغرق دقائق طويلة دون قطع، وعبر معالجة خاصة للزمن والمكان.
أفلامه تمتلك الجرأة على عبور عدد من التخوم: بين الأمم، بين التاريخ والأسطورة، الماضي والحاضر، السفر والبقاء، الانتماء والخيانة، المصادفة والقدر، الواقعية والسوريالية، الصمت والصوت، المرئي واللا مرئي (أو المكبوح)، بين ما هو يوناني وما هو غير يوناني. أفلام أنجيلوبولوس لا تزعم بأنها تقول الحقيقة المطلقة، أو توجد حلولاً للقضايا والمشاكل، أو توجّه رسائل مباشرة، لكنها تقترح الرغبة في التجاوز.
التاريخ والأسطورة، اللحظات الوثائقية والغنائية، تجاور الحقيقي والوهمي، الواقعي والدرامي.. كل هذا يرغم المتفرج على إعادة صياغة كل ما رآه (أو سمعه) في ضوء جديد.
إن أي فيلم له – شأنه شأن المخرجين الكبار- يعد حدثا سينمائيا هاما، ويكون موضع ترقّب ومتابعة وجدل، ليحفظ بعدها في الذاكرة السينمائية كعلامة بارزة في مسيرة فن السينما.
إن مشاهدة أفلامه هي تجربة منعشة، رحلة سينمائية مدهشة نختبر فيها الحياة من زاوية مختلفة وبعين طرية، خلالها نطرح الأسئلة عن وجودنا في هذا الكون.
ذات مرّة تحدث المخرج العظيم أكيرا كوروساوا عن أنجيلوبولوس فقال: “أنجيلوبولوس يرصد الأشياء، في هدوء ورصانة، من خلال العدسات. إن ثقل هدوئه وحدّة نظرته الثابتة هي التي تمنح أفلامه قوتها”.
* * * *
أفلامه:
– برنامج إذاعي (1968): فيلم قصير مدته 23 دقيقة.. حاز على جائزة النقاد في مهرجان ثيسالونيكي باليونان.
– إعادة بناء (Reconstruction(1970: أول أفلامه الطويلة. نال عدة جوائز في مهرجان ثيسالونيكي كأفضل فيلم ومخرج ومصور وممثلة. كما حاز على جائزة أفضل فيلم أجنبي في مهرجان هيريس، وجائزة جورج سادول كأفضل فيلم عرض في فرنسا في العام 1970.
– أيام سنة 36 (1972): جائزة أفضل مخرج ومصور في مهرجان ثيسالونيكي. إضافة إلى جائزة النقاد العالميين في مهرجان برلين.
– الممثلون الجوالونThe Traveling Players (1975): جائزة النقاد العالميين في مهرجان كان/ جائزة مهرجان برلين/ جائزة العصر الذهبي في بروكسل، جائزة معهد الفيلم البريطاني، جائزة أفضل فيلم في مهرجان ثيسالونيكي، جائزة جمعية النقاد العالميين باعتباره واحدا من أفضل الأفلام في تاريخ السينما. إضافة إلى العديد من الجوائز في مهرجانات عالمية.
– الصيادونThe hunters (1977): جائزة أفضل فيلم في مهرجان شيكاغو،وأفضل أفلام العام من النقاد السينمائيين في تركيا.
– الإسكندر العظيم (Megalexandros (1980: جائزة أفضل فيلم في مهرجان فينيسيا، وجائزة جمعية النقاد العالميين، وجائزة السينما الجديدة.
– قرية واحدة، قروي واحد (1981) فيلم وثائقي مدته 20 دقيقة عن مصير القرى اليونانية التي هجرها سكانها.
– أثينا، العودة إلى أكروبوليس (1982) فيلم وثائقي مدته 43 دقيقة، عبارة عن رؤية ذاتية للمدينة التي وُلد فيها وأهميتها التاريخية.
– رحلة إلى كيثيرا (1983): جائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان/ جائزة جمعية النقاد العالميين في مهرجان كان/ جائزة النقاد كأفضل فيلم في مهرجان ريو دي جانيرو.
– مربّي النحل (The Beekeeper (1986
– منظر في السديم (Landscape in the Mist (1988: الجائزة الكبرى في مهرجان فينيسيا.إضافة إلىجائزة أفضل مخرج وجائزة النقاد العالميين في المهرجان نفسه. وجائزة مهرجان شيكاغو كأفضل فبلم وأفضل تصوير، وجائزة أفضل فيلم أوروبي للعام 1988.
– خطوة اللقلق المعلّقةThe suspended Step of the Stork (1991
– تحديقة يوليسيس (Ulysses Gaze (1995: جائزة لجنة التحكيم وجائزة النقاد العالميين في مهرجان كان، وجائزة أكاديمية الفيلم الأوروبي كأفضل فيلم أوروبي.
– الأبد ويوم واحد (Eternity and a Day (1998: الجائزة الكبرى في مهرجان كان.
- ثلاثية المرج الباكيTrilogy The Weeping Meadow (2000): جائزة النقاد في مهرجان الفيلم الأوروبي.
عن كتاب “عالم ثيو أنجيلوبولوس السينمائي: براءة التحديقة الأولى” ترجمة وإعداد أمين صالح